[ ص: 433 ] القبلة
سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم
* * *
اعلم أن ، وقد رأينا في الجزء الأول اتصال معانيه ومبانيه اتصالا محكما حتى يكاد يكون لكل موضوع منه أجزاؤه المتصلة ، فابتدئت سورة البقرة ببيان أقسام من تلقوا علم القرآن بعد الإشارة في ابتدائها إلى أنه الكتاب الكامل الجدير وحده بأن يختص باسم الكتاب . القرآن كله متصل الأجزاء غير منفصل بعضها عن بعض
وقد قسم الذين تلقوه إلى أهل الإيمان ، وأهل الكفر ، وأهل النفاق ، وصور النفاق وأهله بتشبيهات حسية تبين معانيهم النفسية ، ثم بين سبحانه قصة خلق آدم ومكانه بين العالمين من جن وإنس وأنه كامل التكوين .
ثم أشار تعالى إلى النعم التي توالت على بني إسرائيل ، وتوالي كفرهم مفصلا آثامهم ، وقتلهم الأنبياء وتكذيبهم لهم ، وقد فصل بعض التفصيل أمر إبراهيم عليه السلام وبنيه من بعده ، وحقيقة إيمان المؤمن الجامع الذي يؤمن بكل الرسائل الإلهية والأنبياء الذين جاءوا .
[ ص: 434 ] وقد ذكر سبحانه أن إبراهيم هو الذي بنى الكعبة هو وابنه إسماعيل ، وكان الأمن حول البيت إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام : رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر
وكان من مقتضى النسق أن يذكر عقب أخبار إبراهيم وبنيه ، والإيمان الجامع لكل الرسالات الإلهية أن يذكر أمرا يتعلق بالكعبة المشرفة ، وهو أن تكون قبلة المسلمين الذين يتبعون ملة إبراهيم والذين سماهم إبراهيم - خليل الله - المسلمين ولذا قال تعالى : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها
وإن النبي بصريح هذا النص يشير إلى أنه كانت قبلته إلى الصلاة ليست هي الكعبة ، وأن الله تعالى حوله عن القبلة السابقة إلى الكعبة ، وذلك أنه عندما فرضت الصلوات الخمس عند الإسراء والمعراج أمر الله نبيه أن يتجه إلى الصخرة حول المسجد الأقصى ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يستدبر الكعبة في صلاته ، بل يتجه إلى بيت المقدس واقفا بين الركنين من الكعبة متجها إلى بيت المقدس فكان في الحقيقة متجها إلى الكعبة وبيت المقدس .
ولما هاجر كان لا يمكنه أن يتجه إلى القبلتين ، فاتجه إلى بيت المقدس ; لأن أمر الله بالاتجاه إليه قائم ثابت ، ولم يكن من قبل أمر بالاتجاه إلى الكعبة ، بل كان النبي - صلى الله عليه وسلم - حريصا على ألا يستدبرها تكريما لها وتشريفا ، ولأنه كان يتجه إليها قبل الأمر بالاتجاه إلى بيت المقدس ، وقد أخطأ من أهل الكتاب من زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى بيت المقدس ليتألف قلوب اليهود فما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يشرع عبادة أو فرعا من عبادة من تلقاء نفسه ، بل إنه أمر تعبدي من الله تعالى لا يملك فيه رسوله الأمين تحويلا ولا تبديلا .
وإنه بلا شك كان ثمة ناسخ ومنسوخ ، وقد كان المنسوخ هو الصلاة إلى بيت المقدس ، والناسخ هو الصلاة متجها إلى الكعبة ، ثم إلى بيت الله الحرام .
[ ص: 435 ] ولم يكن الناسخ والمنسوخ ثابتين بالقرآن ، بل إن كليهما ثبت بالسنة فالمنسوخ ثبت بالسنة ، وهي عمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي من الله تعالى ، - وهو الناسخ - ثبت بالسنة أيضا ، فقد روى وتحويل القبلة عن البخاري البراء بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وإن أول صلاة صلاها صلاة العصر ، وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد - أي قباء - فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله ، لقد صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت . أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى
ولقد أعلم من يصلون في قباء في صباح اليوم التالي ، روى عن مالك رضي الله عنهما قال : " ابن عمر بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة قرآن ، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام ، فاستداروا إلى الكعبة . بينما الناس
ونرى من هذا أن استقبال بيت المقدس ثبت بالسنة ، وثبت التحويل أيضا بالسنة ، والقرآن ذكر آثار التحويل ، وما يقوله الناس ، وأكد التحويل ، والقرآن الذي أشار إليه الراوي في الحديث هو الذي نزل بعد أن تحول النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه بالفعل ، وقد تأكد أمر القبلة بقوله تعالى : ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس قال بعض المفسرين أن الاستقبال هنا موضوع موضع الماضي ; لأنهم قالوا : وإنما عبر بالمستقبل المؤكد بالسين للدلالة على دوام قولهم إذ قالوه في الماضي ، وسيقولونه في المستقبل ، فسفه القول لا ينتهي ، بل هو يمتد ويكرر ما دام السفه قائما .
[ ص: 436 ] وإن ظاهر اللفظ يدل على أنهم سيقولون مع ما قالوا ، وإن ذلك إخبار من الله تعالى ، وخبر الله تعالى لا يقبل التخلف ، ولم يثبت أنهم قالوا ذلك من قبل نزول الآيات ، إذ إن نزول الآيات اقترن بالتحويل ، أو بعده بقليل وإن لم يكن التحويل به بل كان بوحي من الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، وما كان الله تعالى ليقرئه القرآن وهو يصلي ، فإنه عند القراءة كان يقرئه تعالى فقد قال تعالى : لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه
وإنا لنستبعد أن يكون إنزال القرآن وإقراؤه وترتيله وهو في الصلاة يصلي ، والله على كل شيء قدير .
والسفيه هو : الخفيف العقل ، وذلك مأخوذ من قولهم : ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج ، وقد يكون السفه نوعيا ، فقد يكون متزن العقل حكيما ، ويكون في أمور أخرى سفيها ، كبعض العرب الذين كان فيهم عقل ، ولكن الإدراك الديني فيه سفه ، وكبعض أهل الكتاب ، فإنهم كانوا في أمور الدين سفهاء ، إذا تكلموا سفهوا أنفسهم .
ومن هم السفهاء الذين تكلموا في القبلة متعجبين من تحويلها ; قال بعضهم : المشركون ، فقد توهموا أنه عندما حولت القبلة إلى مكة أن محمدا سيرجع إلى دينهم ، وقالوا : لقد اشتاق محمد إلى مولده ، وعن قريب يرجع إلى دينكم ، وقال اليهود : لقد التبس عليه أمره ، وتحير ، واستهزأ المنافقون بالمسلمين ، وهم جميعا تساءلوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها
الاستفهام هنا للتعجب الساخر المتهكم المستهزئ - لعنهم الله تعالى - وهم جديرون بهذا بوصف السفه ، فليست الحقائق الدينية موضع تهكم إلا ممن سفه نفسه ، وكان جهولا ، ومعنى ولاهم أي جعلهم يعدلون صارفين النظر عن القبلة التي كانوا عليها ، وهي بيت المقدس ، فالتولية معناها العدول أو الانصراف أو الإعراض ، وإن هذا السؤال يدل على جهلهم وعتوهم في الفساد ; لأنهم نسوا أنهم يعترضون على الله تعالى .
[ ص: 437 ] ولقد رد الله تعالى آمرا النبي - صلى الله عليه وسلم - : قل لله المشرق والمغرب وقد أمر الله تعالى : بأن يتولى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرد عليهم ، لأن الاعتراض المتهكم كان على النبي وأصحابه ، وهم يرمونه بالتحير ، وكان الرد لله المشرق والمغرب أي أن الله تعالى مالك الأرض شرقيها وغربيها وشماليها وجنوبيها ، وذكر الشرق والغرب ; لأن من ملكهما ملك الأرض كلها ، لا فرق بين قريب وبعيد ، وإذا كان هو المالك ملكية مطلقة للأرض ، فهو يتخير لموضع قبلته ما يشاء من أرضه وليس لأحد سلطان فيما يريد ، وهو يختار من أرضه ما يراه أصلح وأقرب وأنسب ، وقد اختار البيت الحرام ، كما اختار من قبل بيت المقدس ، والبيت الحرام بناء إبراهيم ، وهو كما قال علماء الكون في وسط الأرض ، واختصه الله تعالى بأن به وحوله مناسك الحج ، وقالوا إنه منذ خلق الله تعالى وأول بيت وضع للناس مكة لم يكن بها زلزال ولا خسف ، فكأن الله تعالى قد أمنها من هذه الظروف الكونية ، كما كان الناس فيها آمنين من القتل ، وجعله سبحانه وتعالى حرما آمنا ، ويتخطف الناس من حولهم .
ولقد بين سبحانه وتعالى أن هذا الذي اختاره من قبلة هو الهداية لا يرضى به إلا من هداه الله تعالى ، فذيل الآية بقوله تعالت كلماته : يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم أي أن الله تعالى بحكمته كان في عباده من اهتدى ، وكان في عباده من ضل وغوى ، فمن سلك الجدد ، وحارب هواه ، ووسوسة الشيطان ، فإن الله تعالى يأخذ بيده ، ويوجهه إلى صراط - أي طريق - مستقيم ، والطريق المستقيم هو أقرب الطرق للوصول إلى الغاية ، إذ إن الخط المستقيم أقرب خط بين نقطتي الابتداء والانتهاء .
وإن ، وهي وسط الأرض وخير بقعة فيها ، لما ذكرنا من مناقب لهذا الله تعالى اختار خير أماكن الأرض لتكون قبلة الناس البيت ، ولأن منشئها أول نبي عرف بأنه حطم الأوثان ، وجعلها جذاذا ، ولقد كانت أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - آخر محطم للأوثان - والذي جعلها جذاذا مطروحا - خير أمة ، وإنه كما اختار الله خير بقعة في الأرض لتكون قبلة إذ أنشأها محطم الأوثان فكذلك جعل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس ، ولذا قال تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا
[ ص: 438 ] الوسط " يطلق " بإطلاقين أحدهما الشيء المتوسط " أو الأمر المتوسط بين أمرين أو نحو ذلك مما يكون متوسطا ، الثاني - الوسط بمعنى الخير ، ومن ذلك قوله تعالى : قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون أي : قال أعدلهم ، ويقال وسط الوادي أي خير موضع فيه .
ولقد قال القائلون بالتفسير الثاني : إن الوسط كان خيرا ، لأنه متوسط بين طرفين كلاهما إثم أو باطل ، إذ الوسط مجانبة للغلو والتقصير ، فاليهودية قصرت في حق الأنبياء ، فقتلتهم ، والنصرانية غلت في حق نبي فعبدته ، فكان الوسط ألا يكون غلو ولا تقصير ، بل تلق للرسالة ، وإيمان بها ، ولقد أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ; لأن الأوسط بعيد عن الغلو والتقصير ولقد أثر عن خير الأمور أوسطها أنه قال : " عليكم بالنمط الأوسط فإليه ينزل العالي ، وإليه يرتفع النازل " . علي بن أبي طالب
ولأن التوسط خير دائما ، صار يطلق الوسط على الخير فيقال عن أفاضل الناس أوساطهم ، وعن خيار الأمور أوسطها ، وكل موضع فيه إصلاح أو صلح بين الناس يقال فيه وسط .
والنسبية في قوله تعالى : وكذلك جعلناكم من المشابهة بين خيرية الكعبة وخيرية الأمة ، والمعنى كما جعلنا لكم الكعبة قبلة ، وهي خير بقعة في الأرض جعلناكم أمة وسطا .
وقد فسر بعض العلماء الوسط هنا بالإطلاق الأول ، وهو التوسط بين أمرين ، ومعنى التوسط أن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فوق الأمم ودون الأنبياء ، وهم على ذلك خير [ ص: 439 ] الأمم وأعدلهم ، وأقومهم سبيلا ، وإن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - تعلم الناس ، وإن محمدا يعلمها .
وفسرها بعض العلماء بأن معنى أمة وسطا أي أمة عادلة قويمة ارتضاها الله تعالى دون غيرها من الأمم كما قال : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله
محمد الذين يتبعونه ويهتدون بهديه خير أمة أخرجت للناس ؟ الجواب عن ذلك أن خيرية هذه الأمة أو كونها فوق الأمم كانت لأنها بعيدة عن غلو النصارى في ولماذا كانت أمة عيسى ، وسقوطها في الأوهام الباطلة ، وبعيدة عن حسد اليهود ومقتهم لكل حق ، وفوق ذلك أنها تؤمن بجميع الأنبياء كما تلونا قوله تعالى : قولوا آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فهي أمة الكمال الديني الجامع ، وفوق ذلك هي التالية لملة إبراهيم حقا وصدقا ، من أجل هذا الإيمان الكامل بالأنبياء جميعا والشرائع السماوية كلها ، كان لهم حق الشهادة على غيرهم بأنهم آمنوا بالله الإيمان الكامل ، هل آمنوا برسالاته الإلهية ، أم لم يؤمنوا ، ولذا قال تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا
أي تشهدون للناس بأنهم آمنوا بمثل إيمانكم ، والرسول يشهد لكم بأنكم آمنتم بالله الإيمان الكامل وآمنتم بوحدة الرسالة الإلهية ، فالرسول يشهد بإيمانكم الذي يسمح لكم بأن تشهدوا على غيركم ، فمقياس الإيمان وميزانه عندكم .
واللام في قوله تعالى لتكونوا شهداء على الناس هي للتعليل ، أي لكونكم وسطا وعدولا في إيمانكم تكونون شهداء على الناس ، مع شهادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 440 ] عليكم ، فالخيرية التي اتسمتم بها هي علة الشهادة ، وهي باعثها ، والسبب في أنكم فوق الناس تحكمون لهم أو عليهم .
ويصح أن تكون ( اللام ) ليست للتعليل ، وتكون للعاقبة أو الغاية ، والمعنى أن خيريتكم أو كونكم فوق الناس ودون الأنبياء غايتها وثمرتها أن تكونوا شهداء على الناس ، وأن يكون الرسول شاهدا عليكم ، بأنكم استحققتم هذه الخيرية . والشهداء يصح أن تكون جمعا لشاهد ، أو جمعا لشهيد ، وقد ذكرنا أن من جمع الشاهد ، قوله تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله
وهنا أنسب أن تكون جمعا لشهيد ، وذلك لأن الله تعالى ذكر المفرد في قوله تعالى : ويكون الرسول عليكم شهيدا والشاهد هو الحاضر الذي يعاين الأمر الذي يشهد عليه ، وهذا الأمر الذي يعاينه ، وينظر إليه إما أن يكون بعينه المبصرة ، وإما أن يكون ببصيرته المدركة المؤمنة الفاهمة ، ولا شك أن الشهادة في هذا المقام تكون بالأفئدة التي في الصدور ، لا بالأبصار التي ترى الحسيات ، ويصح أن تكون رؤية القلوب واضحة بينة كرؤية الأبصار .
وهنا إشارة بيانية يجب أن نذكرها ، وهي أنه تعالى عدى الشهادة بـ " على " دون اللام ، فقال تعالى : لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا مع أن الشهادة قد تكون لهم ، وقد تكون عليهم . والجواب عن ذلك أن الشهادة هنا حكم ، أو هي متضمنة معنى الحكم ، ولذا تعدت بعلى ، لتكون بمعنى الحكم ، وقد تكون الشهادة بمعنى تعليم الناس ، وشهادة الرسول بمعنى تعليم أمته .
وقد يسأل سائل : لماذا كانت القبلة أولا إلى بيت المقدس ، ثم حولت إلى الكعبة ، بعد أن كانت في مكة ملتزمة إلى أمد يسير ; إذ كان مع الاتجاه إلى بيت [ ص: 441 ] المقدس كان الاتجاه أيضا إلى الكعبة بعدم استدبارها كما نقلنا فيما سلف من قول .
ونقول في الجواب عن ذلك إن هناك بيانا لحكمة ذلك ذكره القرآن الكريم ، وحكما أعظم وأعلى ، وهناك سبب قد نتلمسه والسبب الذي نتلمسه هو أولا : بيان وحدة الأديان السماوية ، وثانيا : الإشارة إلى أن بيت المقدس مسجده مقدس كالكعبة ، وإن كان دونها تقديسا ، وثالثا : إن الكعبة كانت الأصنام تحوطها في ذلك الوقت . وأن التحويل إلى الكعبة كان إيذانا بتحطيم الأوثان وزوال دولتها ; إذ كان التحويل في النصف من شعبان ، وكان يوم الفرقان بغزوة بدر حول منتصف رمضان كما هو ثابت في سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي سيرة الإسلام .
هذا ما نتلمسه وقد يكون غير ذلك .
أما ما ذكره الله سبحانه وتعالى ، وهو المحكم الذي لا يأتيه الباطل أبدا ، فقد ذكره سبحانه في قوله تعالت كلماته : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه أي ما جعلنا القبلة التي كنت عليها متبعا في صلاتك لها إلا لنعلم من يستمر على تبعيته للرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن ينقلب على عقبيه .
وما القبلة التي كان عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - : أهي بيت المقدس ; فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجه إليه قبل هذا التحويل ، وذلك ظاهر ، لا يحتاج إلى تأويل . . أم هي الكعبة ؟ ، وهي التي كان عليها بمكة ، وإن اشترك معها الاتجاه إلى بيت المقدس بأمر ربه كما ذكرنا من قبل ، وكان يتجه إليهما ، ولم يتغير ذلك الاتجاه إلا بعد أن هاجر ، وللمفسرين في ذلك اتجاهان :
أولهما - أن القبلة التي كانوا عليها هي بيت المقدس ، وقد كان الاختبار للمهاجرين ، وللذين دخلوا في الإسلام ، وفي قلوبهم مرض أو ضعف في الإيمان .
أما المهاجرون فقد ألفوا البيت الحرام ، والاتجاه إليه ، وقد كان مطافهم وشرفهم في الجاهلية ، وقبلتهم في الإسلام ، وإن كان الله تعالى قد أمر بالاتجاه إلى بيت المقدس ، فقد كانوا يتجهون للاثنين على ما أشرنا وروينا ، فكانت القبلة على ما [ ص: 442 ] ألفوا من غير منافرة ولا استدبار لها ، فلما كانت الهجرة ، وكانت القبلة إلى بيت المقدس فقط ، واستدبروها كان الاختبار ، وقد أحسنوا الاختبار ، وما كان لمهاجر في سبيل الله أن يرتد على عقبيه .
وأما الذين في قلوبهم مرض ، فكان الاتجاه إلى بيت المقدس ثم التحول عنه مظهرا ما بطن من كفر المنافقين ، ومن ضعف إيمان من الضعفاء في إيمانهم ولذا ارتد منهم من ارتد ، وأظهر الكفر من أظهر فمحص الله الذين آمنوا . هذا على تفسير القبلة التي كانوا عليها ببيت المقدس .
ثانيهما - تفسيرها بالكعبة ، فالمعنى على هذا : وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ، وهي الكعبة قبل الهجرة ، ثم الرجوع إليها إلا للاختبار ، وقد وقع من المنافقين ما أظهر ما كانوا يخفون ، وارتد بعض ضعفاء الإيمان ، وبذلك كان التمحيص ، وقد فسر بعضهم كنت عليها وهي الكعبة بمعنى صرت عليها ، مثل قوله تعالى : كنتم خير أمة أخرجت للناس أي صرتم بإيمانكم خير أمة أخرجت للناس .
وإني أرى أن تفسيرها ببيت المقدس هو الأقرب والأظهر ، والتفسير لكتاب الله تعالى بما يكون ضاحيا واضحا أولى وإنه لا يحتاج إلى تأويل ، ومن المقررات اللغوية أن ما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج إلى تأويل .
ولقول الله تعالى : وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله أي وإن كانت القبلة في تحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة لكبيرة إلا على الذين أودع الله قلوبهم هداية ثابتة مطمئنة لا تزعزعها الرياح ، ولا مكان فيها للشبهات التي يثيرها من لا يؤمنون .
فـ " إن " هنا مخففة من " إن " الثقيلة ، والدليل على ذلك دخول اللام المؤكدة ، وهي لا تدخل على " إن " إذا كانت نافية ، وكانت دالة على تأكيد القول ببقاء الحال لمن ضل ، وبعدها عمن اهتدى .
[ ص: 443 ] والله سبحانه وتعالى العليم الخبير الذي أحاط بكل شيء علما يبين أن الاختبار كبير لا يثبت فيه من تزلزل إيمانه الشبهات وتطيحه الشكوك ; ولذلك أكد عظم الاختبار بـ " إن " المخففة من الثقيلة وبالفعل الماضي كانت وباللام .
بقي أن نشير إلى أمر لا بد من بيانه ، وهو قوله تعالى : إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وهو : هل كان الله تعالى لا يعلم من يتبع الرسول من غيره ، وهو يحيط بكل شيء علما ؟ ويجاب عن ذلك بجوابين :
أولهما - أن علم الله تعالى محيط بكل شيء ، وهو يعلمه من قبل أن يقع ، ومن بعد وقوعه ويعلمه واقعا ، فذلك العلم لا غيره هو الذي يظهر به الفعل ويستبين ، فالمعنى ليظهر من يتبع ممن لا يتبع ، وليتبين الآثم من المطيع ومن يستمر على اتباعه ومن ينقلب على عقبيه .
والثاني - أن الضمير في لنعلم ليس لله وحده ، ولكنه للجماعة المؤمنة والنبي - صلى الله عليه وسلم - مع الله تعالى ، وكون الله معهم لا يستلزم أنه لا يعلم ، إنما الذي لا يعلم هم المؤمنون ، فالاختبار وظهور الطائع المتبع ، والعاصي المرتد على عقبيه إنما هو للمؤمنين وهم داخلون في قوله تعالى : لنعلم والتعبير عن الأعلى ، ويقصد من دونه كثير في اللغة العربية فإذا قال رئيس دولة استولينا على كذا ، فإن الاستيلاء الفعلي يكون من الجند لا منه ، وكأن يقول رئيس دولة صادقا أو غير صادق نظمنا الإدارة ، وأحكمنا العمل ، والذي عمل ونظم غيره .
وقد عبر سبحانه وتعالى عن الذين لم يحسنوا البلاء وكشفهم الاختبار فارتدوا أو أعلنوا كفرهم ، وما كانوا مؤمنين بقوله تعالى : ممن ينقلب على عقبيه والعقب هو مؤخر القدم ، والمرتد على عقبيه ، هو الخارج عن الإسلام ، وهذا التعبير على عقبيه استعارة تمثيلية ، فقد شبه الخارج عن الإسلام الذي دخل فيه أو أوشك أن يدخل الإيمان قلبه بحال المرتد إلى الوراء سائرا على عقبيه ، سيرا مضطربا غير متماسك ، فقد سجل عليه أنه رجع إلى الوراء بعد أن تقدم إلى الأمام ، وأن رجوعه مضطرب بغير خطوات تسير بل على الأعقاب ينقلب ، وهذا التشبيه على أساس أن الانقلاب بمعنى الرجوع إلى الوراء ، بعد أن سار بضع خطوات إلى الأمام .
[ ص: 444 ] ويصح أن يفسر الانقلاب بمعنى أن يجعل أعلاه أسفله ، وأسفله أعلاه ، فيكون المعنى أنه شبه حال من يرتد بحال من انتكس فصار رأسه في أسفل ، وعقباه في موضع رأسه ، وفي هذا بيان أن من تكون هذه حاله معكوس منكوس قد نقض إنسانيته وكل مقومات الإنسانية في نفسه .
وإن بعض المؤمنين خافوا من أن تضيع صلاتهم الماضية ، وخصوصا أن بعضهم قد مات ، وصلاته بعد الهجرة كانت على القبلة إلى بيت المقدس ، فشكا الأحياء منهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر الله تعالى مطمئنا أنه لا تضيع صلواتهم ; ولذا قال تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم والمراد من الإيمان هنا الصلاة ، وعبر عن الصلاة بالإيمان ; لأن الصلاة ركنه ، وقوامه ، فلا يعد الاعتقاد والإذعان إيمانا من غير صلاة متجهة إلى الله تعالى ، وإذا كان الاعتقاد به سلامة النفس والعقل ، فالصلاة بها تأليف القلوب ، وتطهيرها من الآثام ، وقد قال تعالى : إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر ولقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا دين من غير صلاة " فالتعبير عن الصلاة بالإيمان بيان لمكانها .
ولقد عبر سبحانه عن أن الله تعالى لا يضيع الإيمان بقوله : وما كان الله ليضيع إيمانكم أي ما كان من شأن الله تعالى ، وسنته في الوجود أن يضيع إيمان المؤمنين ، ونفي الضياع يقتضي غيره والجزاء عليه بثوابه عنه يوم الحساب ، وإن الله تعالى لا يضيع عمل عامل ، فقد قال تعالت كلماته في استجابة دعاء الضارعين إليه : فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض وقال تعالى : إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا فذلك شأن الله وما سنه ، وهو العادل الحكيم .
وإنه لا عقاب من غير شرع ينزل ببيان الأمر والنهي ، فالذين صلوا على القبلة التي كانوا عليها كانوا طائعين ، ولم يكونوا مخالفين عاصين ، ولا عقوبة في طاعة .
[ ص: 445 ] وإن الله مع ما ذكر رءوف رحيم ; ولذا قال تعالى : إن الله بالناس لرءوف رحيم الرأفة في معناها اللغوي أشد من الرحمة ، أو أعلى منها ، وإن هذين الوصفين من صفات الذات العلية أو من أسماء الله تعالى ، وهما متغايران وإن لم يكونا متعارضين ، بل هما في حقيقتهما متلازمان ، فحيث كانت الرأفة كانت الرحمة لا محالة ، فالله رحيم بعباده في غفران ذنوبهم ، وفي نعمه عليهم ظاهرة وباطنة ، وفي كشف الضر عنهم ، وفي قبول توبتهم ، وفي أنه منع اليأس من رحمته ، وهكذا وسعت رحمة الله تعالى كل شيء ، ولو كان في بعض الرحمة آلام ، كقطع العضو المئوف ليسلم الباقي .
والرأفة في أن الله يريد توبة العاصي ، ولا يريد به خسارا ، وفي الهداية إلى الصراط المستقيم ، فيعين من كتب عليه الخروج من الشقاء ، وهكذا نجد الرحمة والرأفة متقاربتين ، وإن كانتا متغايرتين كتغاير الأخ عن أخيه ، وإن الرأفة رحمة صافية لا ألم فيها ، أما الرحمة فقد يكون فيها ألم كالرحمة بالمريض في أخذ الدواء المر . وقد أكد سبحانه وتعالى وصفه بالرأفة والرحمة بالوصف برءوف ورحيم ، وبالجملة الاسمية وبالتأكيد بإن ، وباللام . نضرع إلى الله تعالى أن يعمنا برحمته ، وأن يغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا ، ويهدينا ، إلى سواء الصراط ، وأن يرحم المسلمين بالرجوع إليه .
* * *