قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل [ ص: 446 ] آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين
* * *
بين الله سبحانه وتعالى أنه سيقول السفهاء : ما ولاهم عن قبلتهم ، وأن منهم أهل الكتاب ، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجه إلى ربه بقلبه ووجهه راجيا أن تكون القبلة هي البيت الحرام ، فكانت إجابة هذه الرغبة ، وكان التحويل ، والسفهاء قالوا ما قالوا ، ولج بنو إسرائيل في سفههم ، وهم يعلمون أنه الحق ، وهو إلى تحويل القبلة بيت الله الحرام ، وقد قال الله تعالى في ذلك : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام
كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرجو أن يحول من بيت المقدس إلى البيت الحرام ; لأن الكعبة بناء إبراهيم ، ولأن ملته هي ملة إبراهيم ، ولأنه مثابة الناس وأمنهم ، ولأنه مجتمع العرب ، ومؤتلفهم ، ولأن في الاتجاه إليه تأليف قلوبهم ، ومعنى تقلب الوجه الكريم أن يخفضه خضوعا ، ويرفعه رجاء ، فالتقلب التردد بين الرفع لله راجيا ضارعا أن يحوله إلى قبلة يرضاها ، وترضي العرب ، ولا يكون فيها تابعا لبني إسرائيل ، بل يولي وجهه إلى قبلة إبراهيم وإبراهيم أبو الأنبياء .
فتقلب الوجه ، هو الضراعة إلى الله تعالى لكي تكون القبلة هي البيت الحرام ، والرجاء منه بأن يتجه إلى السماء داعيا ، وراجيا أن ينزل قرآن بتحويل القبلة .
وقد قصر بعض المفسرين تقلب الوجه وتردده بين رفعه ضارعا ، وخفضه خاضعا على رجاء نزول قرآن بالتحويل ، وظن أن الدعاء بتحويل القبلة تقدم بالطلب على الله تعالى ، والحق أن التقلب لرجاء الوحي وللضراعة إليه والدعاء ، وليس في [ ص: 447 ] ذلك تقدم على الله في طلب شرعه ; لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فهم أن الاتجاه إلى بيت المقدس ليس دائما ، وأنه سيعود إلى بيت الله الحرام ، فهو إذا دعا بذلك وتضرع إنما يستنجز وعد الله تعالى ، ويرجو أن ينزل قرآن بذلك .
ولقد أجابه سبحانه إلى ما يرضيه ويرجوه فقال تعالى : فلنولينك قبلة ترضاها الفاء هنا تشير إلى أن ما قبلها سبب لما بعدها ; أي أن الله تعالى استجاب لرجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ودعائه ، وقوله : فلنولينك قبلة ترضاها معناها لنمكن لك ونعطيك القبلة التي ترضاها ، من قبيل وليت الأمير أي جعلته واليا ، فالمعنى لنعطينك القبلة التي ترضاها ، أو لنولين وجهك ناحية القبلة التي ترضاها .
وقد أكد الله تعالى إجابة مطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - أو دعائه ورجائه بالقسم المطوي في الكلام الذي دل عليه جواب المصدر بلام القسم ، وتقدير القول : فوالذي يحلف به لنولينك قبلة ترضاها ، وهي الحق الذي قدره الله تعالى في علمه المكنون أن المسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام ، فلا بد أن يتجهوا إلى بنيته .
وإن هذه الآية في معناها سابقة على قوله تعالى : سيقول السفهاء لأن تقدير قول السفهاء لا يكون إلا بعد أن حولهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، كما نص القرآن الكريم .
وقد بين سبحانه القبلة بقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام والفاء للتفريع عما قبلها ، والوجه المراد به حقيقة الوجه ; لأنه يتجه بوجهه نحو البيت الحرام ، وقد يراد به الشخص كله . ويكون الوجه المراد به الذات ، والتعبير بالوجه عن الذات ; لأنه الذي تكون به المواجهة ، ولأنه أظهر جزء في جسم الإنسان .
والشطر الناحية والاتجاه ، والنحو ، ولقد جاء في تفسير أبي السعود العمادي : وقيل الشطر اسم لما ينفصل من الشيء ، ودار شطر ، إذا كانت منفصلة عن الدور ، ثم استعمل لجانبيه وإن لم ينفصل .
[ ص: 448 ] ويستعمل أيضا في نصف الشيء أو جزئه ، ومهما يكن من الأصل اللغوي فالمراد هنا الجهة أو الناحية أو نحو ذلك ، والبيت الحرام قبلة الناس في مشارف الأرض ومغاربها ، روي عن أنه قال إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ابن عباس البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجد قبلة لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي " .
وقوله تعالى : فول وجهك شطر المسجد الحرام الخطاب فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو إجابة لما رجاه ، فخصه أولا بالإجابة إرضاء وتقريبا وإيناسا ، وتشريفا ، ولتبيين منزلته عند الله تعالى .
وقد بين من بعد ذلك أن هذا حكم عام ، وليس بخاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقال : وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره
وقد كان النص السابق ربما يفيد معنى الخصوص ، وإن كان لا يدل عليه ، فقد يفيد خصوص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وخصوص المكان الذي يقيم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فكان هذا النص يفيد عموم الخطاب ، وعموم الناس ، وعموم الأمكنة ، وكل يتعرف مكانه وموضع اتجاهه ، ففي أي مكان حيث يكون يتجه إليه مجتهدا يتعرف مكان اتجاهه ، جاعلا وجهه صوب الكعبة على جانب من جوانبها ، وعلى أي ريح من ريحها ما دام متجها نحوها ، غير مستدبر لها .
وقد أشار القرآن الكريم إلى سفه الذين قالوا ويقولون : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها وكان اليهود مبعث هذا التشكيك ، وإن كانوا لم ينالوا فيه مأربا . وقد بين سبحانه وتعالى أنهم دائبون على إنكارهم وسفههم ، وإثارتهم للريب وإن لم يستطيعوا ، فقال تعالى مبينا مبالغتهم في الجحود مع علمهم بالحق : وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم والضمير في قوله [ ص: 449 ] تعالى : ليعلمون أنه الحق قد يعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حاضر في الأنفس وفي العقول فكأنه حضور عقلي لا يقل عن العود على مذكور ، لأنه مبشر به في كتبهم ، معلوم عند أحبارهم ، ومعنى أنه الحق أي أن ما جاء به هو الحق ، فليس فيما أتى به الباطل .
ولعل ذلك قد يكون بعيدا من ناحية الصياغة البيانية ، لا من ناحية الحقائق المنزلة ; ولذا نرجح أن الضمير يعود على التحويل أو التولي الذي رجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وكان يقلب وجهه رجاء أن ينزل به وحي الله تعالى ، ورجحنا ذلك ; لأنه في الموضوع ، ولأن السياق البياني يتلاقى معه ، ولأنه الجدير بأن يوصف بالمصدر وهو الحق ، فالنبي عند الكلام في شأنه يقال إنه جاء بالحق أو الصدق ، أو نحو هذا من البيان .
وإن ذلك هو الحق عندهم ، فقد علموا مما عندهم من كتب أن النبي وجدوده كانوا في " ( فاران ) ، وأن ( فاران ) هي بيت عبادة أولاد إسماعيل ، و ( فاران ) هي مكة وما حولها .
وأكد الله تعالى علمهم بالحق فقال : أنه الحق من ربهم فأكد سبحانه كونه الحق بأن المؤكدة ، وبالقصر بتعريف الطرفين ، فهو الحق ، ولا حق سواه ، ثم إنه وصفه بأنه من عند ربهم الذي خلقهم ورباهم ، وخلق الأرض كلها ، وله مشارق الأرض ومغاربها ، فهو أعلم حيث تكون القبلة التي يختارها كما أنه أعلم حيث يجعل رسالته .
ثم بين ما يعقب أقوالهم وإثارتهم للريب ، فقال تعالت كلماته : وما الله بغافل عما يعملون أي أن الله تعالى عليم بهم علم من لا يغفل عن أفعالهم من بث للشك ، وغمز من القول ، ومنهم ساخر بأعمال الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي هي من عند ربه ، فهم مراقبون في أعمالهم ، وذنوبهم وآثامهم لا تخفى عليه ، و " هو آخذهم بها يوم القيامة .
[ ص: 450 ] إذا كان الذين أوتوا الكتاب قد أثاروا عاصفة من الشك حول تحويل القبلة من بيت المقدس ، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال ، فليس ذلك لجهل منهم بالحق كما بينا ، ولكن للتعصب الذي استولى على قلوبهم ، والتعصب إذا سكن القلوب حال بينها وبين الإدراك السليم فلا تغني الآيات والنذر ، ولا تزيدهم البينات إلا خسارا ; لذا قال تعالى : ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك
اللام في قوله تعالى : ولئن أتيت الذين هي اللام الموطئة للقسم أي الدالة على أن ثمة قسما محفوظا ، وأن جوابه سد مسد جواب الشرط ، وهو ما تبعوا قبلتك أي والذي يقسم به إن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية قاطعة ملائمة للعقل الحر الخالي من العناد والتكبر والتعصب لكي يتبعوا قبلتك ما اتبعوها ; لأنهم ليسوا طلاب حق يقنعهم الدليل ، بل هم معاندون مكابرون ، لا تزيدهم الحجة القوية إلا إصرارا ، ولقد قال تعالى : بكل آية أي لو جمعت الحجج كلها ، ورميت بها ، ما تزايلوا عن إنكارهم الذي سيطر عليهم عداوة وبغضاء واستكبارا .
وقال المفسرون : إن الكلام السامي فيه إظهار في موضع الإضمار فقد قال : ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب وكان موضع الإضمار ، لأنهم ذكروا بهذا الاسم في الآية السابقة ، وكان الإظهار لبيان موضع الإنكار عليهم في تعصبهم ، وإنغاض رءوسهم عن الحق وقد قامت أماراته وأدلته مما بين أيديهم ، ومع ذلك إذا زدتهم آيات أخرى ما تبعوا قبلتك .
ولقد قال الله تعالى بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه لا يتبع قبلتهم ، لأن الحق لا يخضع للباطل المعاند المستكبر ، ولذا قال : وما أنت بتابع قبلتهم أي أنت على الحق ، ولست بتابع باطلهم ، وقد أكد سبحانه وتعالى أنه عليه الصلاة والسلام لا يتبع قبلتهم بالجملة الاسمية الدالة على استمرار نفي تبعيته عليه السلام لقبلتهم ، وبضمير الخطاب وهو أنت ، أي أنت بصفتك التي في علمهم ، وهو أنك المرسل وهم الكذابون المبطلون ، وأكده أيضا بالباء في بتابع الدالة على استغراق النفي [ ص: 451 ] وتأكيده ، وكان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وقومه في اتباع القبلة تبعا له وهم من ورائه وهو إمامهم .
كان النفي وكانت المحاجة موجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم كانوا يحاجون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو عليه الصلاة والسلام الذي يمكنه أن يأتي لهم بكل آية ، ولقد روي أن اليهود عندما تحولت القبلة أصابهم غم شديد بمقدار ما كان قد أصابهم من فرح عندما كانت القبلة متجهة شطر بيت المقدس ، وقد كانوا يقولون : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره وكان ذلك تغريرا وخداعا ، وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون
وإنه في الواقع أن أهل الكتاب ليست لهم قبلة واحدة ، فاليهود لهم قبلتهم إلى الصخرة كما سارت عليه تقاليدهم ، والنصارى كانت قبلتهم إلى المشرق حيثما كانوا كما روته التقاليد ، لا كما جاءت به نصوص عندهم ، ولقد عبر القرآن بإفراد القبلة دون جمعها مع تعددها ; لإثبات أنها كلها باطلة في أصلها ، لانتهاء دياناتهم ، وبطلان ما هم عليه ، بما فيها قبلتهم .
ولقد قال تعالى في اختلاف قبلتهم : وما بعضهم بتابع قبلة بعض أي ليس اليهود قابلين لأن يتبعوا قبلة النصارى إلى المشرق حيثما كانوا ، كأنهم يعبدون الشمس في شروقها في مطلعها ، وليس النصارى بمختارين قبلة اليهود قبلة لهم ، فكلا الفريقين يتعصب لقبلته ، ويعاند الآخر ، ويستكبر عن اتباع قبلته ، فهم في عناد مستمر ، وكلاهما يتبع هواه ، ولا يتبع نصا جاء به دينه ، فليس في التوراة نص على قبلة معينة حتى يكون ما هم عليه اتباعا لنص ، وكذلك النصارى ليس في الإنجيل نص على قبلة ، وإنهم بعد نزول القرآن وبيان القبلة يتمسكون بأهوائهم في التعصب والعناد ; ولذا قال تعالى : ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم
أي لئن اتبعت ما يدعون إليه ، وليس له مصدر ديني عندهم ، وهو يخالف ما جاءك من العلم الحق في أمر القبلة وغيرها فقد اتبعت الهوى ، والأهواء جمع هوى ، وهو ما يبتدعونه على حسب هواهم ، إذ اتخذوا إلههم هواهم ، ومن اتبع [ ص: 452 ] هوى الفاسدين الذين يكون هواهم منبعثا من شهواتهم الجامحة لا من دين " اتبعوه ، ولا من نصوص ، بل هواهم ، وليس كمن قال فيه الرسول - صلى الله عليه وسلم - : " " ، بل أهواؤهم تبعا لشهواتهم ، وتبعا لانحراف في نفوسهم . لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به
لئن اللام فيها دالة على القسم ، والجواب جواب القسم وقد سد مسد جواب الشرط ، وهو قوله تعالى منبها النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أنه لا يقع في اتباع أهوائهم إلا الظالمون إنك إذا لمن الظالمين ففي هذا تحذير للنبي - صلى الله عليه وسلم - في ظاهر اللفظ وهو تحذير لأمته ، وخصوصا من يقعون تحت مثل هذا الإغراء بإتيان الهوى ، وإنه يجب الحذر من أن يكون في سلك الظالمين .
وقوله تعالى : إنك إذا لمن الظالمين فيه إذن الدالة على الشرطية والجزاء والدالة على ترتب الحكم على ما كان من اتباع أهوائهم ، إذ معنى إذن ، أنه إذا كان ذلك الاتباع قد وقع ، فبسببه تكون من الظالمين ، فوقوع ( إذن ) بين اسم إن وخبرها فيه إشارة إلى سبب الحكم وهو هذا الاتباع الذي لا يمكن أن يكون ممن جاءه العلم النبوي بمقتضى الرسالة الإلهية .
هذا وإن الكلام فرضي لا واقعي ، ولكنه فرضي فيه تحذير من الوقوع فيه ، فالمعنى : إن فرض واتبعت أهواءهم مع علمك ببطلان ما عندهم ، فقد سايرت الذين ظلموا ورسخوا في ظلمهم ، فإنك إذن معدود في سلكهم وجمعهم الآثم . وقد أكد الله سبحانه وتعالى الظلم ممن يتبع الهوى ، وهو عالم غير غافل أولا بإن ، وثانيا باللام ، وثالثا بالجملة الاسمية الدالة على الاستمرار والثبات ، وإن ذلك كله للتحذير من اتباع الهوى ، وموافقة الآثمين في إثمهم ، والله سبحانه وتعالى هو العاصم من الضلال .
* * *