[ ص: 462 ] كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون
* * *
ولى الله تعالى نبيه إلى الكعبة ، تكريما للبيت وتشريفا له ولبانيه ، وأتم نعمته عليهم بالإيذان بإزالة الأصنام عنه ، فعل الله تعالى ذلك لتتم الهداية كما أرسل رسولا منهم ، ولذا قال تعالى : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا وفي هذا إجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام ، إذ قال تعالى في ذكر دعائه : ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم فكما أجاب دعاءه عليه السلام بجعله بلدا آمنا وأن يكون مثابة للناس وأمنا أجاب دعاءه بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته .
يمن الله تعالى على العرب بأن جعل فيهم رسولا منهم ليقول مانا عليهم بذلك كما من عليهم بجعل القبلة إلى الحرم الآمن الذي قدسوه وكرموه ، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - أرسل فيهم وهو منهم ، كما قال تعالى : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم
فهو فيهم ومنهم ، وهو أكثر تأليفا لقلوبهم . ورعاية لنفوسهم وهو الحق من ربهم كما قال تعالى : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم وتلاوة الآيات التي جاءت في قوله : كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم تلاوة الآيات هنا أي القرآن بقراءته في ترتيل وفهم ، وإدراك لمعانيه ، وإجابة لأمره ، واعتبار بقصصه ، وذلك عبادة ويعلمكم الكتاب أي تعليمهم علم القرآن من بيان للصلاة والزكاة والحج والصوم وأحكام الأسرة ، [ ص: 463 ] وأحكام الحرب وما يحل فيها وما يحرم ، وعلاقة الإنسان بالإنسان ، وآداب وأخلاق المسلم فهو مأدبة الله تعالى ، وهو سجل المعجزات التي جاء بها الرسل من عهد نوح إلى عيسى عليهم الصلاة والسلام .
والحكمة هي الشريعة ، وما فيها من إصلاح بين الناس ، وإقامة للعلاقة الإنسانية . وفسرها بأنها السنة وقد بيناها عند ذكر قوله تعالى : الشافعي ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك فارجع إليها .
ويزكيكم أي يطهركم من أرجاس الجاهلية ومآثمها كوأد البنات وشرب الخمر ولعب الميسر بله عبادة الأوثان والأنصاب ، وينمي فيهم قوة الخلق والشكيمة ويوجهها نحو مكارم الأخلاق .
وقال الله تعالى : ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون علمهم الله علما لم يكونوا يعلمونه من قبل ; علمهم علم النبوة ، وعلمهم علم البعث والنشور والقيامة والحساب ، وعلمهم علوما تنفعهم في الحياة الدنيا ، وتزودهم بالخير في الآخرة ، وعلمهم مكارم الأخلاق وعلمهم تنظيم الدولة ، وقيام حكم صالح يستظل في ظله البر والفاجر ، وعلمهم العدالة والامتناع عن الظلم . . وأخيرا علمهم علم الإسلام ، وقد جمعه تعالى في قوله جلت حكمته : إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون وجعل منهم دولة الإسلام الفاضلة التي لم تر الإنسانية لها نظيرا من يوم أن خلق السماوات والأرض .
بين الله تعالى نعمة الرسالة المحمدية في العرب ، وفي الإنسانية كلها ، وإن ذلك يقتضي أن يشكر صاحب هذه النعم وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها ولذلك قال تعالى : فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون الفاء هنا هي ما تسمى فاء السببية ، وهي ما يكون قبلها سببا لما بعدها ، وذكر الله تعالى امتلاء النفس بعظمته وقدرته وجلالته والإحساس بنعمه الظاهرة والباطنة ، وليس ذكره جلت قدرته بترديد اللسان فقط ، ولا بترطيب القول بذكر [ ص: 464 ] جلاله وإنما تكون أولا بامتلاء النفس بذكره ، حتى يكون كأنه سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ، نطق اللسان أو صمت أو جهر به أو خفت ، كما قال تعالى : ادعوا ربكم تضرعا وخفية و واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين وإن الله تعالى يقول اذكروني أذكركم ; اذكروني في كل حياتكم وفي قلوبكم أذكركم بالنعم والغفران ، اذكروني بالشكر أذكركم بالزيادة لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد روى الإمام في مسنده عن أحمد : ( أنا مع عبدي حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ هو خير منه وإن اقترب إلي شبرا اقتربت إليه ذراعا وإن اقترب إلي ذراعا ، اقتربت منه باعا وإن أتاني يمشي أتيت إليه هرولة ، وقد أخرجه أبي هريرة . وإن ذكر الله تعالى يكون في القلب ، ويبدو في العمل . فالطاعات التي يقصد بها وجه الله تعالى ويبتهل فيها إليه ويطلب رضوانه بها هي ذكر لله . البخاري
وكل أعمال كالتجارة والصناعة والزراعة إذا قام بحقها ، وتوكل على الله تعالى حق توكله هي ذكر لله ، وكل عمل لا يعمل إلا لحب الله تعالى ، فالصانع في مصنعه ، والزارع في مزرعته . . والتاجر في متجره إذا قصد وجه الله تعالى ونفع الناس يكون ذاكرا لله تعالى ، وإن المؤمن لا يفرغ قلبه من ذكره ، إذا قام بحق الله تعالى ، وإن ذكر الله تعالى يصحبه الخوف من الله فيتقي الله تعالى في كل عمل يعمله ويكون دائما في حذر من غضب الله تعالى ، وقد قال تعالى في وصف المؤمنين : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون
[ ص: 465 ] إن ، روى ذكر الله تعالى هو الخير كله ابن ماجه . أن أعرابيا قال : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأنبئني منها بشيء أتشبث به قال : " لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله عز وجل "
وإن ، ولذا قال تعالى بعد الأمر بالذكر : أعلى درجات الذكر شكر الله تعالى واشكروا لي ولا تكفرون وهنا نجد الشكر تعدى باللام وقد قال : إن ذلك هو الأفصح ، ولكن يجوز اشكر لي واشكرني . الفراء
وشكر العبد لله تعالى ; الثناء عليه ، وأن تكون نعمه لما خلقت له من طاعة ، خلق له السمع فشكره لنعمته ألا يسمع زور القول ولا ينفذه ، وشكر نعمة اللسان ألا ينطق إلا بالحق ، وشكر نعمة اليد ألا يبطش إلا لتحقيق العدل ، وألا يعمل إلا ما هو حق وألا يعتدي على حق غيره ، وألا يؤذي ، وأن يحمي الضعيف وينصر المظلوم ، ويغيث المستغيث ، ويدفع الكوارث عن المؤمنين ، وأن يفك العاني . . وشكر نعمة الرجل ألا يسعى إلا في خير ، وألا يسعى في ظلم ، وأن يذكر دائما أن من سعى مع ظالم فقد ظلم .
وإن شكر نعم الله تعالى ليرجو به الشاكر زيادتها ، ولقد قال تعالى : وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد
وإذا كان الله تعالى قد أمر بالشكر ، وهو الطاعات ، والأخذ بالهدى المحمدي ، فقد نهى عن الكفر فقال : ولا تكفرون والنهي عن الكفر معطوف على قوله تعالى : واشكروا لي يجعلنا نتصور أن تكفرون فيها ياء المتكلم محذوفة أو بالياء كما في قوله تعالى : فلا تخشوا الناس واخشون ويكون معنى كفر الله تعالى عدم ذكره ، وعدم معرفة حقيقة نعمه ، ولكن الظاهر أن المراد النهي عن الكفر المطلق ، وهو ألا يعتقد بالوحدانية وألا يؤمن برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو مقابل للشكر لأن حقيقة الشكر ابتداء هي القيام بالطاعات كلها ، وهو مع ذكر الله تعالى الإحساس بأنه كله لله تعالى . وفقنا الله تعالى للشكر وجنبنا الكفر .
* * *