[ ص: 623 ]
فصل
48 - وهذا فصل أختم به :
ينبغي أن يقال : ما هذا الذي أخذتم به أنفسكم؟ وما هذا التأويل منكم في عجز العرب عن معارضة القرآن؟ وما دعاكم إليه؟ وما أردتم منه؟ أأن يكون لكم قول يحكى ، وتكونوا أمة على حدة ، أم قد أتاكم في هذا الباب علم لم يأت الناس؟
فإن قالوا : أتانا فيه علم
قيل : أفمن نظر ذلك العلم أم خبر؟
فإن قالوا : من نظر.
قيل لهم : فكأنكم تعنون أنكم نظرتم في نظم القرآن ونظم كلام العرب ووازنتم فوجدتموه لا يزيد إلا بالقدر الذي لو خلوا والاجتهاد وإعمال الفكر ، ولم تفرق عنهم خواطرهم عند القصد إليه ، والصمد له لأتوا بمثله؟
فإن قالوا : كذلك نقول.
قيل لهم : فأنتم تدعون الآن أن نظركم في الصاحة نظر لا يغيب عنه شيء من أمرها ، وأنكم قد أحطتم علما بأسرارها ، وأصبحتم ولكم فيها فهم وعلم لم يكن للناس قبلكم.
وإن قالوا : عرفنا ذلك بخبر.
قيل : فهاتوا عرفونا ذلك ، وأنى لهم تعريف ما لم يكن ، وتثبيت ما لم يوجد!
[ ص: 624 ]
ولو كان الناس إذا عن لهم القول نظروا في مؤداه ، وتبينوا عاقبته ، وتذكروا وصية الحكماء حين نهوا عن الورود حتى يعرف الصدر ، وحذروا أن تجيء أعجاز الأمور بغير ما أوهمت الصدور إذا لكفوا البلاء ، ولعدم هذا وأشباهه من فاسد الآراء ، ولكن يأبى الذي في طباع الإنسان من التسرع ، ثم من حسن الظن بنفسه ، والشغف بأن يكون متبوعا في رأيه ، إلا أن يخدعه وينسيه أنه موصى بذلك ، ومدعو إليه ، ومحذر من سوء المغبة إذا هو تركه وقصر فيه . وهي الآفة لا يسلم منها ومن جنايتها إلا من عصم الله . وإليه عز اسمه الرغبة في أن يوفق للتي هي أهدى ، ويعصم من كل ما يوتغ الدين ، ويثلم اليقين ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
[ ص: 625 ]
بسم الله الرحمن الرحيم
49 - قول من قال : "إنه يجوز أن يقدر الواحد من الناس من بعد انقضاء زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومضي وقت التحدي ، على أن يأتي بما يشبه القرآن ويكون مثله ، لأن ذلك لا يخرج عن أن يكون قد كان معجزا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وحين تحدي العرب إليه" قول لا يصح إلا لمن لا يجعل القرآن معجزا في نفسه ، ويذهب فيه إلى "الصرفة".
فأما الذي عليه العلماء من أنه معجز في نفسه ، وأنه في نظمه وتأليفه على وصف لا يهتدي الخلق إلى الإتيان بكلام هو في نظمه وتأليفه على ذلك الوصف ، فلا يصح البتة ذاك- لا فرق بين أن يكون الفعل معجزا في جنسه كإحياء الموتى ، وبين أن يكون معجزا لوقوعه على وصف ، وإذا كان كذلك ، فكما أنه محال أن يكون ههنا إحياء ميت لا من فعل الله ، كذلك محال أن يكون ههنا نظم مثل نظم القرآن لا من فعله تعالى . فهذا هو.
ثم إنه قول إذ نقر عنه انكشف عن أمر منكر ، وهو إخراج أن يكون وحيا من الله ، وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد تلقاه عن جبريل عليه السلام- والذهاب إلى أن يكون قد كان على سبيل الإلهام ، وكالشيء يلقى في نفس الإنسان ويهدى له من طريق الخاطر والهاجس الذي يهجس في القلب . وذلك مما يستعاذ بالله منه ، فإنه تطرق للإلحاد ، والله ولي العصمة والتوفيق .