تفاوت الكناية والاستعارة والتمثيل
فصل
الاستعارة وبدائعها
67- اعلم أن من شأن هذه الأجناس أن تجري فيها الفضيلة، وأن تتفاوت التفاوت الشديد . أفلا ترى أنك تجد في الاستعارة العامي المبتذل كقولنا : رأيت أسدا ووردت بحرا ولقيت بدرا، والخاصي النادر الذي لا تجده إلا في كلام الفحول ولا يقوى عليه إلا أفراد الرجال كقوله :
وسالت بأعناق المطي الأباطح
أراد أنها سارت سيرا حثيثا في غاية السرعة وكانت سرعة في لين وسلاسة، حتى كأنها كانت سيولا وقعت في تلك الأباطح فجرت بها.
ومثل هذه الاستعارة في الحسن واللطف وعلو الطبقة في هذه اللفظة بعينها قول الآخر :
سالت عليه شعاب الحي حين دعا أنصاره بوجوه كالدنانير
[ ص: 75 ]
أراد أنه مطاع في الحي وأنهم يسرعون إلى نصرته وأنه لا يدعوهم لحرب أو نازل خطب إلا أتوه وكثروا عليه وازدحموا حواليه، حتى تجدهم كالسيول تجيء من هاهنا وهاهنا، وتنصب من هذا المسيل وذلك حتى يغص بها الوادي ويطفح منها .
69 - ومن بديع الاستعارة ونادرها - إلا أن جهة الغرابة فيه غير جهتها في هذا، قول يزيد بن مسلمة بن عبد الملك يصف فرسا له وأنه مؤدب، وأنه إذا نزل عنه وألقى عنانه في قربوس سرجه وقف مكانه إلى أن يعود إليه :
عودته فيما أزور حبائبي إهماله وكذاك كل مخاطر
وإذا احتبى قربوسه بعنانه علك الشكيم إلى انصراف الزائر
فالغرابة هاهنا في الشبه نفسه وفي أن استدرك أن هيئة العنان في موقعه من قربوس السرج كالهيئة في موضع الثوب من ركبة المحتبي .
70 - وليست الغرابة في قوله :
وسالت بأعناق المطي الأباطح
على هذه الجملة، وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطي في سرعة [ ص: 76 ] سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح فإن هذا شبه معروف ظاهر . ولكن الدقة واللطف في خصوصية أفادها بأن جعل " سال " فعلا للأباطح ثم عداه بالباء ثم بأن أدخل الأعناق في البين فقال : " بأعناق المطي " ولم يقل بالمطي ولو قال : " سالت المطي في الأباطح " لم يكن شيئا .
وكذلك الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى " سال " ولكن في تعديته ب " على " والباء وبأن جعله فعلا لقوله : " شعاب الحي " . ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا الحسن . وهذا موضع يدق الكلام فيه.
71- وهذه أشياء من هذا الفن :
اليوم يومان مذ غيبت عن بصري نفسي فداؤك ما ذنبي فأعتذر
أمسي وأصبح لا ألقاك واحزنا لقد تأنق في مكروهي القدر
سوار بن المضرب وهو لطيف جدا :
بعرض تنوفة للريح فيها نسيم لا يروع الترب وان
بعض الأعراب :
ولرب خصم جاهدين ذوي شذا تقذي صدورهم بهتر هاتر
[ ص: 77 ]
لد ظأرتهم على ما ساءهم وخسأت باطلهم بحق ظاهر
المقصود : لفظ " خسأت "
ابن المعتز :
حتى إذا ما عرف الصيد الضار وأذن الصبح لنا في الإبصار
المعنى : حتى إذا تهيأ لنا أن نبصر شيئا لما كان تعذر الإبصار منعا من الليل، جعل إمكانه عند ظهور الصبح إذنا من الصبح .
وله :
بخيل قد بليت به يكد الوعد بالحجج
وله :
يناجيني الإخلاف من تحت مطله فتختصم الآمال واليأس في صدري
[ ص: 78 ]
ومما هو في غاية الحسن وهو من الفن الأول قول الشاعر أنشده : الجاحظ
لقد كنت في قوم عليك أشحة بنفسك إلا أن ما طاح طائح
يودون لو خاطوا عليك جلودهم ولا تدفع الموت النفوس الشحائح
قال : وإليه ذهب في قوله : بشار
وصاحب كالدمل الممد حملته في رقعة من جلدي
72- ومن سر هذا الباب أنك ترى اللفظة المستعارة قد استعيرت في عدة مواضع، ثم ترى لها في بعض ذلك ملاحة لا تجدها في الباقي . مثال ذلك أنك تنظر إلى لفظة " الجسر " في قول : أبي تمام
لا يطمع المرء أن يجتاب لجته بالقول ما لم يكن جسرا له العمل
وقوله :
بصرت بالراحة العظمى فلم ترها تنال إلا على جسر من التعب
فترى لها في الثاني حسنا لا تراه في الأول ، ثم تنظر إليها في قول ربيعة الرقي:
[ ص: 79 ]
قولي : نعم، ونعم إن قلت واجبة قالت : عسى وعسى جسر إلى نعم
فترى لها لطفا وخلابة وحسنا ليس الفضل فيه بقليل.
ومما هو أصل في شرف الاستعارة أن ترى الشاعر قد جمع بين عدة استعارات، قصدا إلى أن يلحق الشكل بالشكل وأن يتم المعنى والشبه فيما يريد . مثاله قول امرئ القيس :
فقلت له لما تمطى بصلبه وأردف أعجازا وناء بكلكل
لما جعل لليل صلبا قد تمطى به ثنى ذلك فجعل له أعجازا قد أردف بها الصلب، وثلث فجعل له كلكلا قد ناء به، فاستوفى له جملة أركان الشخص، وراعى ما يراه الناظر من سواده، إذا نظر قدامه، وإذا نظر إلى خلفه، وإذا رفع البصر ومده في عرض الجو.