[ ص: 109 ]
مواضع التقديم والتأخير
102- وكذلك صنعوا في سائر الأبواب، فجعلوا لا ينظرون في الحذف والتكرار والإظهار والإضمار والفصل والوصل، ولا في نوع من أنواع الفروق والوجوه إلا نظرك فيما غيره أهم لك، بل فيما إن لم تعلمه لم يضرك .
لا جرم أن ذلك قد ذهب بهم عن معرفة البلاغة، ومنعهم أن يعرفوا مقاديرها وصد بأوجههم عن الجهة التي هي فيها، والشق الذي يحويها، والمداخل التي تدخل منها الآفة على الناس في شأن العلم . ويبلغ الشيطان مراده منهم في الصد عن طلبه وإحراز فضيلته كثيرة، وهذه من أعجبها - إن وجدت متعجبا .
وليت شعري إن كانت هذه أمورا هينة، وكان المدى فيها قريبا والجدى يسيرا، من أين كان نظم أشرف من نظم؟ وبم عظم التفاوت، واشتد التباين، وترقى الأمر إلى الإعجاز، وإلى أن يقهر أعناق الجبابرة؟ أوهاهنا أمور أخر نحيل في المزية عليها ونجعل الإعجاز كان بها، فتكون تلك الحوالة لنا عذرا في ترك النظر في هذه التي معنا، والإعراض عنها، وقلة المبالاة بها أوليس هذا التهاون ، إن نظر العاقل - خيانة منه لعقله ودينه ودخولا فيما يزري بذي الخطر ويغض من قدر ذوي القدر؟ وهل يكون أضعف رأيا وأبعد من حسن التدبر منك إذ أهمك أن تعرف الوجوه في:
« أأنذرتهم » والإمالة في « رأى القمر » وتعرف « الصراط » [ ص: 110 ] والزراط وأشباه ذلك مما لا يعدو علمك فيه اللفظ وجرس الصوت ولا يمنعك إن لم تعلمه بلاغة ولا يدفعك عن بيان، ولا يدخل عليك شكا ولا يغلق دونك باب معرفة، ولا يفضي بك إلى تحريف وتبديل، وإلى الخطأ في تأويل، وإلى ما يعظم فيه المعاب عليك، ويطيل لسان القادح فيك ولا يعنيك ولا يهمك أن تعرف ما إذا جهلته عرضت نفسك لكل ذلك، وحصلت فيما هنالك . وكان أكثر كلامك في التفسير، وحيث تخوض في التأويل، كلام من لا يبني الشيء على أصله، ولا يأخذه من مأخذه، ومن ربما وقع في الفاحش من الخطأ الذي يبقى عاره وتشنع آثاره . ونسأل الله العصمة من الزلل والتوفيق لما هو أقرب إلى رضاه من القول والعمل .
الخطأ في تقسيم التقديم والتأخير إلى مفيد وغير مفيد
103- واعلم أن من الخطأ أن يقسم الأمر في تقديم الشيء وتأخيره قسمين، فيجعل مفيدا في بعض الكلام وغير مفيد في بعض . وأن يعلل تارة بالعناية وأخرى بأنه توسعة على الشاعر والكاتب، حتى تطرد لهذا قوافيه ولذاك سجعه . ذاك لأن من البعيد أن يكون في جملة النظم ما يدل تارة ولا يدل أخرى . فمتى ثبت في تقديم المفعول مثلا على الفعل في كثير من الكلام أنه قد اختص بفائدة لا تكون تلك الفائدة مع التأخير، فقد وجب أن تكون تلك قضية في كل شيء وكل حال . ومن سبيل من يجعل التقديم وترك التقديم سواء، [ ص: 111 ] أن يدعي أنه كذلك في عموم الأحوال . فأما أن يجعله شريجين فيزعم أنه للفائدة في بعضها وللتصرف في اللفظ من غير معنى في بعض، فمما ينبغي أن يرغب عن القول به.
104 - وهذه مسائل لا يستطيع أحد أن يمتنع من التفرقة بين تقديم ما قدم فيها وترك تقديمه .
ومن أبين شيء في ذلك الاستفهام بالهمزة، فإن موضع الكلام على أنك إذا قلت : أفعلت؟ فبدأت بالفعل كان الشك في الفعل نفسه، وكان غرضك من استفهامك أن تعلم وجوده .
وإذا قلت : أأنت فعلت؟ فبدأت بالاسم، كان الشك في الفاعل من هو، وكان التردد فيه . ومثال ذلك أنك تقول : أبنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أقلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أفرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ تبدأ في هذا ونحوه بالفعل، لأن السؤال عن الفعل نفسه والشك فيه لأنك في جميع ذلك متردد في وجود الفعل وانتفائه مجوز أن يكون قد كان، وأن يكون لم يكن .
وتقول : أأنت بنيت هذه الدار؟ أأنت قلت هذا الشعر؟ أأنت كتبت هذا الكتاب؟ فتبدأ في ذلك كله بالاسم . ذاك لأنك لم تشك في الفعل أنه كان، كيف؟ وقد أشرت إلى الدار مبنية، والشعر مقولا، والكتاب مكتوبا، وإنما شككت في الفاعل من هو؟
[ ص: 112 ] فهذا من الفرق لا يدفعه دافع ولا يشك فيه شاك ، ولا يخفى فساد أحدهما في موضع الآخر .
فلو قلت : أأنت بنيت الدار التي كنت على أن تبنيها؟ أأنت قلت الشعر الذي كان في نفسك أن تقوله؟ أأنت فرغت من الكتاب الذي كنت تكتبه؟ خرجت من كلام الناس . وكذلك لو قلت : أبنيت هذه الدار؟ أقلت هذا الشعر؟ أكتبت هذا الكتاب؟ قلت ما ليس بقول. ذاك لفساد أن تقول في الشيء المشاهد الذي هو نصب عينيك : أموجود أم لا؟
ومما يعلم به ضرورة أنه لا تكون البداية بالفعل كالبداية بالاسم أنك تقول : أقلت شعرا قط؟ أرأيت اليوم إنسانا؟ فيكون كلاما مستقيما . ولو قلت : أأنت قلت شعرا قط؟ أأنت رأيت إنسانا؟ أحلت، وذاك أنه لا معنى للسؤال عن الفاعل من هو في مثل هذا، لأن ذلك إنما يتصور إذا كانت الإشارة إلى فعل مخصوص نحو أن تقول : من قال هذا الشعر؟ ومن بنى هذه الدار؟ ومن أتاك اليوم ومن أذن لك في الذي فعلت؟ وما أشبه ذلك مما يمكن أن ينص فيه على معين . فأما قيل شعر على الجملة، ورؤية إنسان على الإطلاق، فمحال ذلك فيه، لأنه ليس مما يختص بهذا دون ذاك حتى يسأل عن عين فاعله .
ولو كان تقديم الاسم لا يوجب ما ذكرنا من أن يكون السؤال عن [ ص: 113 ] الفاعل من هو؟ وكان يصح أن يكون سؤالا عن الفعل أكان أم لم يكن؟ لكان ينبغي أن يستقيم ذلك.
105- واعلم أن هذا الذي ذكرت لك في الهمزة " وهي للاستفهام " قائم فيها إذا هي كانت للتقرير . فإذا قلت: أأنت فعلت ذاك؟ كان غرضك أن تقرره بأنه الفاعل .
الاستفهام للتقرير
يبين ذلك قوله تعالى حكاية عن قول نمروذ « أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم » [سورة الأنبياء : 62 ] لا شبهة في أنهم لم يقولوا ذلك له عليه السلام وهم يريدون أن يقر لهم بأن كسر الأصنام قد كان، ولكن أن يقر بأنه منه كان، وكيف؟ . وقد أشاروا له إلى الفعل في قولهم : « أأنت فعلت هذا » . وقال هو عليه السلام في الجواب : « بل فعله كبيرهم هذا » [سورة الأنبياء : 63 ] . ولو كان التقرير بالفعل لكان الجواب : فعلت أو لم أفعل.
فإن قلت : أوليس إذ قال : " أفعلت؟ " فهو يريد أيضا أن يقرره بأن الفعل كان منه، لا بأنه كان على الجملة، فأي فرق بين الحالين؟
[ ص: 114 ] فإنه إذا قال : " أفعلت " فهو يقرره بالفعل من غير أن يردده بينه وبين غيره، وكان كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أن ذلك الفعل كان على الحقيقة . وإذا قال : أأنت فعلت؟ كان قد ردد الفعل بينه وبين غيره، ولم يكن منه في نفس الفعل تردد . ولم يكن كلامه كلام من يوهم أنه لا يدري أكان الفعل أم لم يكن ، بدلالة أنك تقول ذلك والفعل ظاهر موجود مشار إليه، كما رأيت في الآية.
106- واعلم أن الهمزة فيما ذكرنا تقرير بفعل قد كان وإنكار له لم كان، وتوبيخ لفاعله عليه .
ولها مذهب آخر وهو أن يكون الإنكار أن يكون الفعل قد كان من أصله . ومثاله قوله تعالى : « أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما » [سورة الإسراء : 40 ] وقوله عز وجل : « أصطفى البنات على البنين ما لكم كيف تحكمون » [سورة الصافات: 153، 154 ] . فهذا رد على المشركين وتكذيب لهم في قولهم ما يؤدي إلى هذا الجهل العظيم . وإذا قدم الاسم في هذا صار الإنكار في الفاعل ومثاله قولك للرجل قد انتحل شعرا : أأنت قلت هذا الشعر؟ كذبت لست ممن يحسن مثله . أنكرت أن يكون القائل ولم تنكر الشعر .
[ ص: 115 ] وقد يكون أن يراد إنكار الفعل من أصله، ثم يخرج اللفظ مخرجه إذا كان الإنكار في الفاعل، مثال ذلك قوله تعالى : « قل آلله أذن لكم » [سورة يونس : 59 ] الإذن راجع إلى قوله : « قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا » [سورة يونس: 59 ] . ومعلوم أن المعنى على إنكار أن يكون قد كان من الله تعالى إذن فيما قالوه، من غير أن يكون هذا الإذن قد كان من غير الله فأضافوه إلى الله ، إلا أن اللفظ أخرج مخرجه إذا كان الأمر كذلك، لأن يجعلوا في صورة من غلط فأضاف إلى الله تعالى إذنا كان من غير الله، فإذا حقق عليه ارتدع .
ومثال ذلك قولك للرجل يدعي أن قولا كان ممن تعلم أنه لا يقوله : أهو قال ذاك بالحقيقة أم أنت تغلط؟ تضع الكلام وضعه إذا كنت علمت أن ذلك القول قد كان من قائل لينصرف الإنكار إلى الفاعل، فيكون أشد لنفي ذلك وإبطاله .
ونظير هذا قوله تعالى : « قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين » [سورة الأنعام : 143 ] أخرج اللفظ مخرجه إذا كان قد ثبت تحريم في أحد أشياء ثم أريد معرفة عين المحرم، مع أن المراد إنكار التحريم من أصله، ونفي أن يكون قد حرم شيء مما ذكروا أنه محرم . وذلك أن الكلام وضع على أن يجعل التحريم كأنه قد كان ثم يقال لهم : أخبرونا عن هذا التحريم الذي زعمتم فيم هو؟ أفي هذا أم ذاك أم في الثالث؟ ليتبين بطلان قولهم ويظهر مكان الفرية منهم على الله تعالى .
[ ص: 116 ]
ومثل ذلك قولك للرجل يدعي أمرا وأنت تنكره : متى كان هذا؟ أفي ليل أم نهار؟ تضع الكلام وضع من سلم أن ذلك قد كان ثم تطالبه ببيان وقته لكي يتبين كذبه إذا لم يقدر أن يذكر له وقتا ويفتضح . ومثله قولك : من أمرك بهذا منا؟ وأينا أذن لك فيه؟ وأنت لا تعني أن أمرا قد كان بذلك من واحد منكم إلا أنك تضع الكلام هذا الوضع لكي تضيق عليه، وليظهر كذبه حين لا يستطيع أن يقول : فلان، وأن يحيل على واحد .