الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل مضارع في الاستفهام

                          107- وإذ قد بينا الفرق بين تقديم الفعل وتقديم الاسم والفعل ماض، فينبغي أن ننظر فيه والفعل مضارع . والقول في ذلك أنك إذا قلت : أتفعل؟ وأأنت تفعل لم يخل من أن تريد الحال أو الاستقبال . فإن أردت الحال كان المعنى شبيها بما مضى في الماضي، فإذا قلت : أتفعل؟ كان المعنى على أنك أردت أن تقرره بفعل هو يفعله، وكنت كمن يوهم أنه لا يعلم بالحقيقة أن الفعل كائن . وإذا قلت : أأنت تفعل؟ كان المعنى على أنك تريد أن تقرره بأنه الفاعل . وكان أمر الفعل في وجوده ظاهرا، وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن . وإن أردت ب " تفعل " المستقبل كان المعنى : إذا بدأت بالفعل على أنك تعمد بالإنكار إلى الفعل نفسه، وتزعم أنه لا يكون . أو أنه لا ينبغي أن يكون، فمثال الأول :

                          [ ص: 117 ]


                          أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟



                          فهذا تكذيب منه لإنسان تهدده بالقتل وإنكار أن يقدر على ذلك ويستطيعه . ومثله أن يطمع طامع في أمر لا يكون مثله، فتجهله في طمعه فتقول : أيرضى عنك فلان وأنت مقيم على ما يكره؟ أتجد عنده ما تحب وقد فعلت وصنعت وعلى ذلك قوله تعالى : « أنلزمكموها وأنتم لها كارهون » [سورة هود: 28 ] .

                          ومثال الثاني قولك لرجل يركب الخطر : أتخرج في هذا الوقت؟ أتذهب في غير الطريق؟ أتغرر بنفسك- وقولك للرجل يضيع الحق : أتنسى قديم إحسان فلان؟ أتترك صحبته وتتغير عن حالك معه لأن تغير الزمان كما قال :


                          أأترك أن قلت دراهم خالد     زيارته إني إذا للئيم



                          تفسير تقديم الفعل المضارع

                          108- وجملة الأمر أنك تنحو بالإنكار نحو الفعل، فإن بدأت بالاسم فقلت : أأنت تفعل؟ أو قلت : أهو يفعل؟ كنت وجهت الإنكار إلى نفس المذكور، وأبيت أن تكون بموضع أن يجيء منه الفعل وممن يجيء منه، وأن يكون بتلك المثابة .

                          [ ص: 118 ]

                          تفسير ذلك أنك إذا قلت : أأنت تمنعني؟ أأنت تأخذ على يدي؟ صرت كأنك قلت : إن غيرك الذي يستطيع منعي والأخذ على يدي، ولست بذاك، ولقد وضعت نفسك في غير موضعك . هذا إذا جعلته لا يكون منه الفعل للعجز، ولأنه ليس في وسعه .

                          وقد يكون أن تجعله لا يجيء منه لأنه لا يختاره ولا يرتضيه وأن نفسه نفس تأبى مثله وتكرهه . ومثاله أن تقول : أهو يسأل فلانا؟ هو أرفع همة من ذلك . أهو يمنع الناس حقوقهم؟ هو أكرم من ذاك .

                          وقد يكون أن تجعله لا يفعله لصغر قدره وقصر همته، وأن نفسه نفس لا تسمو وذلك قولك : أهو يسمح بمثل هذا؟ أهو يرتاح للجميل؟ هو أقصر همة من ذلك، وأقل رغبة في الخير مما تظن.

                          109- وجملة الأمر أن تقديم الاسم يقتضي أنك عمدت بالإنكار إلى ذات من قيل إنه يفعل، أو قال هو : إني أفعل . وأردت ما تريده إذا قلت : ليس هو بالذي يفعل وليس مثله يفعل . ولا يكون هذا المعنى إذا بدأت بالفعل فقلت : أتفعل؟ ألا ترى أن من المحال أن تزعم أن المعنى في قول الرجل لصاحبه : أتخرج في هذا الوقت؟ أتغرر بنفسك؟ أتمضي في غير الطريق؟ أنه أنكر أن يكون بمثابة من يفعل ذلك، وبموضع من يجيء منه ذاك . لأن العلم محيط بأن الناس لا يريدونه، وأنه لا يليق بالحال التي يستعمل فيها هذا الكلام . وكذلك محال أن يكون المعنى في قوله جل وعلا : « أنلزمكموها وأنتم لها كارهون » [سورة هود : 28 ] [ ص: 119 ] أنا لسنا بمثابة من يجيء منه هذا الإلزام، وأن غيرنا من يفعله - جل الله تعالى - .

                          وقد يتوهم المتوهم في الشيء من ذلك أنه يحتمل فإذا نظر لم يحتمل، فمن ذلك قوله :


                          أيقتلني والمشرفي مضاجعي



                          وقد يظن الظان أنه يجوز أن يكون في معنى أنه ليس بالذي يجيء منه أن يقتل مثلي، ويتعلق بأنه قال قبل :


                          يغط غطيط البكر شد خناقه     ليقتلني والمرء ليس بقتال



                          ولكنه إذا نظر علم أنه لا يجوز وذاك لأنه قال : " والمشرفي مضاجعي " فذكر ما يكون منعا من الفعل . ومحال أن يقول هو ممن لا يجيء منه الفعل ثم يقول : إني أمنعه لأن المنع يتصور فيمن يجيء منه الفعل، ومع من يصح منه، لا من هو منه محال، ومن هو نفسه عنه عاجز، فاعرفه .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية