151- وإذ قد بدأنا في الحذف بذكر المبتدأ، وهو حذف اسم إذ لا يكون المبتدأ إلا اسما، فإني أتبع ذلك ذكر المفعول به إذا حذف خصوصا، فإن الحاجة إليه أمس وهو بما نحن بصدده أخص، واللطائف كأنها فيه أكثر، ومما يظهر بسببه من الحسن والرونق أعجب وأظهر .
99- قاعدة ضابطة في معنى حذف الفاعل والمفعول
152- وهاهنا أصل يجب ضبطه، وهو أن حال الفعل مع المفعول الذي يتعدى إليه حاله مع الفاعل . فكما أنك إذا قلت : " ضرب زيد " . فأسندت الفعل إلى الفاعل كان غرضك من ذلك أن تثبت الضرب فعلا له، لا أن تفيد وجوب الضرب في نفسه وعلى الإطلاق . كذلك إذا عديت الفعل إلى المفعول فقلت : " ضرب زيد عمرا " . كان غرضك أن تفيد التباس الضرب الواقع من الأول بالثاني ووقوعه عليه، فقد اجتمع الفاعل والمفعول في أن عمل الفعل فيهما إنما كان من أجل أن يعلم التباس المعنى الذي اشتق منه بهما - فعمل الرفع في الفاعل ليعلم التباس الضرب به من جهة وقوعه منه- والنصب في المفعول، ليعلم التباسه به من جهة وقوعه عليه . ولم يكن ذلك [ ص: 154 ] ليعلم وقوع الضرب في نفسه . بل إذا أريد الإخبار بوقوع الضرب ووجوده في الجملة من غير أن ينسب إلى فاعل أو مفعول، أو يتعرض لبيان ذلك فالعبارة فيه أن يقال : " كان ضرب " أو " وقع ضرب " أو " وجد ضرب " . وما شاكل ذلك من ألفاظ تفيد الوجود المجرد في الشيء .
الأغراض في ذكر الأفعال المتعدية وأقسامها
153- وإذ قد عرفت هذه الجملة فاعلم أن أغراض الناس تختلف في ذكر الأفعال المتعدية، فهم يذكرونها تارة ومرادهم أن يقتصروا على إثبات المعاني التي اشتقت منها للفاعلين، من غير أن يتعرضوا لذكر المفعولين . فإذا كان الأمر كذلك، كان الفعل المتعدي كغير المتعدي مثلا، في أنك لا ترى له مفعولا لا لفظا ولا تقديرا .
القسم الأول حذف المفعول لإثبات معنى الفعل لا غير
154- ومثال ذلك قول الناس: " فلان يحل ويعقد ويأمر وينهى ويضر وينفع " . وكقولهم : " هو يعطي ويجزل ويقري ويضيف " . المعنى في جميع ذلك على إثبات المعنى في نفسه للشيء على الإطلاق وعلى الجملة، من غير أن يتعرض لحديث المفعول، حتى كأنك قلت : " صار إليه الحل والعقد، وصار بحيث يكون منه حل وعقد وأمر ونهي وضر ونفع، " وعلى هذا القياس .
155- وعلى ذلك قوله تعالى : « قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون » [ سورة الزمر : 9 ] المعنى : هل يستوي من له علم ومن لا علم له؟ من غير أن يقصد النص على معلوم . وكذلك قوله تعالى : « هو الذي يحيي ويميت » [ سورة غافر :68 ] وقوله تعالى: « وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا » [ سورة القمر :43، 44 ] وقوله : « وأنه هو أغنى وأقنى » [ سورة القمر : 48 ] المعنى : [ ص: 155 ] هو الذي منه الإحياء والإماتة والإغناء والإقناء . وهكذا كل موضع كان القصد فيه أن تثبت المعنى في نفسه فعلا للشيء، وأن تخبر بأن من شأنه أن يكون منه أو لا يكون إلا منه، أو لا يكون منه . فإن الفعل لا يعدى هناك، لأن تعديته تنقص الغرض وتغير المعنى . ألا ترى أنك إذا قلت : " هو يعطي الدنانير " كان المعنى على أنك قصدت أن تعلم السامع أن الدنانير تدخل في عطائه أو أنه يعطيها خصوصا دون غيرها وكان غرضك على الجملة بيان جنس ما تناوله الإعطاء لا الإعطاء في نفسه . ولم يكن كلامك مع من نفى أن يكون كان منه إعطاء بوجه من الوجوه بل مع من أثبت له إعطاء ، إلا أنه لم يثبت إعطاء الدنانير، فاعرف ذلك فإنه أصل كبير عظيم النفع .
فهذا قسم من خلو الفعل عن المفعول، وهو أن لا يكون له مفعول يمكن النص عليه .
القسم الثاني: حذف مفعول مقصود لدلالة الحال عليه وهو قسمان أولهما الجلي .
156- وقسم ثان: وهو أن يكون له مفعول مقصود قصده معلوم ، إلا أنه يحذف من اللفظ لدليل الحال عليه وينقسم إلى جلي لا صنعة فيه وخفي تدخله الصنعة .
فمثال الجلي قولهم : " أصغيت إليه " : وهم يريدون " أذني " و " أغضيت عليه " : والمعنى " جفني " .
القسم الثاني الخفي الذي تدخله الصنعة ومثاله الأول
157- وأما الخفي الذي تدخله الصنعة فيتفنن ويتنوع . فنوع منه أن تذكر الفعل وفي نفسك له مفعول مخصوص قد علم مكانه، إما بجري ذكر، أو دليل حال ، إلا أنك تنسيه نفسك وتخفيه [ ص: 156 ] وتوهم أنك لم تذكر ذلك الفعل إلا لأن تثبت نفس معناه، من غير أن تعديه إلى شيء، أو تعرض فيه لمفعول .
158- ومثاله قول : البحتري
شجو حساده وغيظ عداه أن يرى مبصر ويسمع واع
المعنى : لا محالة: أن يرى مبصر محاسنه، ويسمع واع أخباره وأوصافه . ولكنك تعلم على ذلك أنه كأنه يسرق علم ذلك من نفسه، ويدفع صورته عن وهمه، ليحصل له معنى شريف وغرض خاص . وذاك أنه يمدح خليفة، وهو المعتز ويعرض بخليفة وهو المستعين ، فأراد أن يقول : إن محاسن المعتز وفضائله، المحاسن والفضائل يكفي فيها أن يقع عليها بصر ويعيها سمع حتى يعلم أنه المستحق للخلافة ، والفرد الوحيد الذي ليس لأحد أن ينازعه مرتبتها، فأنت ترى حساده وليس شيء أشجى لهم وأغيظ من علمهم بأن هاهنا مبصرا يرى وسامعا يعي حتى ليتمنون أن لا يكون في الدنيا من له عين يبصر بها وأذن يعي معها، كي يخفى مكان استحقاقه لشرف الإمامة فيجدوا بذلك سبيلا إلى منازعته إياها .
مثال ثان من الخفي
159- وهذا نوع آخر منه، وهو أن يكون معك مفعول معلوم مقصود قصده، قد علم أنه ليس للفعل الذي ذكرت مفعول سواه بدليل الحال أو ما سبق من الكلام إلا أنك تطرحه وتتناساه وتدعه يلزم ضمير النفس لغرض غير الذي مضى، وذلك الغرض أن تتوفر العناية على إثبات الفعل للفاعل وتخلص له وتنصرف بجملتها وكما هي إليه .
[ ص: 157 ]
ومثاله قول عمرو بن معدي كرب :
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم نطقت ولكن الرماح أجرت
" أجرت " فعل متعد ومعلوم أنه لو عداه لما عداه إلا إلى ضمير المتكلم نحو : " ولكن الرماح أجرتني " وأنه لا يتصور أن يكون هاهنا شيء آخر يتعدى إليه، لاستحالة أن يقول : " فلو أن قومي أنطقتني رماحهم " ثم يقول : " ولكن الرماح أجرت غيري " . إلا أنك تجد المعنى يلزمك أن لا تنطق بهذا المفعول ولا تخرجه إلى لفظك . والسبب في ذلك أن تعديتك له توهم ما هو خلاف الغرض، وذلك أن الغرض هو أن يثبت أنه كان من الرماح إجرار وحبس للألسن عن النطق، وأن يصحح وجود ذلك . ولو قال " أجرتني " جاز أن يتوهم أنه لم يعن بأن يثبت للرماح إجرارا، بل الذي عناه أن يبين أنها أجرته . فقد يذكر الفعل كثيرا والغرض منه ذكر المفعول، مثاله أنك تقول : " أضربت زيدا ؟ " وأنت لا تنكر أن يكون كان من المخاطب ضرب ، وإنما تنكر أن يكون وقع الضرب منه على زيد، وأن يستجيز ذلك أو يستطيعه . فلما كان في تعدية " أجرت " ما يوهم ذلك، وقف فلم يعد البتة ولم ينطق بالمفعول، لتخلص العناية لإثبات الإجرار للرماح وتصحيح أنه كان منها وتسلم بكليتها لذلك.
[ ص: 158 ]
161- ومثله قول جرير :
أمنيت المنى وخلبت حتى تركت ضمير قلبي مستهاما
الغرض أن يثبت أنه كان منها تمنية وخلابة وأن يقول لها : أهكذا تصنعين؟ وهذه حيلتك في فتنة الناس .
مثال من بارع الحذف الخفي
ومن بارع ذلك ونادره ما تجده في هذه الأبيات . روى في كتاب " الشعر " بإسناد قال : لما تشاغل المرزباني رضي الله عنه بأهل الردة استبطأته أبو بكر الصديق الأنصار فكلموه، فقال : إما كلفتموني أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما ذاك عندي ولا عند أحد من الناس ولكني والله ما أوتى من مودة لكم ولا حسن رأي فيكم، وكيف لا نحبكم ؟ فوالله ما وجدت مثلا لنا ولكم إلا ما قال طفيل الغنوي لبني جعفر بن كلاب :
جزى الله عنا جعفرا حين أزلقت بنا نعلنا في الواطئين فزلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي لاقوه منا لملت
هم خلطونا بالنفوس وألجؤوا إلى حجرات أدفأت وأظلت
[ ص: 159 ]
فيها حذف مفعول مقصود قصده في أربعة مواضع قوله : " لملت " و " ألجؤوا " و " أدفأت " و " أظلت " لأن الأصل : " لملتنا " و " ألجؤونا إلى حجرات أدفأتنا وأظلتنا " . إلا أن الحال على ما ذكرت لك، من أنه في حد المتناسي، حتى كأن لا قصد إلى مفعول، وكأن الفعل قد أبهم أمره فلم يقصد به قصد شيء يقع عليه، كما يكون إذا قلت : " قد مل فلان " تريد أن تقول : قد دخله الملال . من غير أن تخص شيئا، بل لا تزيد على أن تجعل الملال من صفته وكما تقول : " هذا بيت يدفئ ويظل " . تريد أنه بهذه الصفة .
163- واعلم أن لك في قوله : " أجرت " و " لملت " فائدة أخرى زائدة على ما ذكرت من توفير العناية على إثبات الفعل، وهي أن تقول : كان من سوء بلاء القوم ومن تكذيبهم عن القتال ما يجر مثله وما القضية فيه أنه لا يتفق على قوم إلا خرس شاعرهم فلم يستطع نطقا . وتعديتك الفعل تمنع من هذا المعنى لأنك إذا قلت : ولكن الرماح أجرتني لم يمكن أن يتأول على معنى أنه كان منها ما شأن مثله أن يجر، قضية مستمرة في كل شاعر قوم، بل قد يجوز أن يوجد مثله في قوم آخرين فلا يجر شاعرهم . ونظيره [ ص: 160 ] أنك تقول : " قد كان منك ما يؤلم " تريد ما الشرط في مثله أن يؤلم كل أحد وكل إنسان . ولو قلت : " ما يؤلمني " . لم يفد ذلك لأنه قد يجوز أن يؤلمك الشيء لا يؤلم غيرك .
وهكذا قوله : " ولو أن أمنا تلاقي الذي لاقوه منا لملت " يتضمن أن من حكم مثله في كل أم أن تمل وتسأم، وأن المشقة في ذلك إلى حد يعلم أن الأم تمل له الابن وتتبرم به مع ما في طباع الأمهات، من الصبر على المكاره في مصالح الأولاد . وذلك أنه وإن قال " أمنا " فإن المعنى على أن ذلك حكم كل أم مع أولادها . ولو قلت : " لملتنا " لم يحتمل ذلك، لأنه يجري مجرى أن تقول : لو لقيت أمنا ذلك لدخلها ما يملها منا . وإذا قلت : " ما يملها منا " فقيدت لم يصلح لأن يراد به معنى العموم وأنه بحيث يمل كل أم من كل ابن .
وكذلك قوله : " إلى حجرات أدفأت وأظلت " لأن فيه معنى قولك : " حجرات من شأن مثلها أن تدفئ وتظل " أي هي بالصفة التي إذا كان البيت [ ص: 161 ] عليها أدفأ وأظل . ولا يجيء هذا المعنى مع إظهار المفعول إذ لا تقول : " حجرات من شأن مثلها أن تدفئنا وتظلنا " ، هذا لغو من الكلام فاعرف هذه النكتة فإنك تجدها في كثير من هذا الفن مضمومة إلى المعنى الآخر، الذي هو توفير العناية على إثبات الفعل، والدلالة على أن القصد من ذكر الفعل أن تثبته لفاعله لا أن تعلم التباسه بمفعوله .
زيادة بيان في الحذف الخفي
164- وإن أردت أن تزداد تبينا لهذا الأصل، أعني وجوب أن تسقط المفعول لتتوفر العناية على إثبات الفعل لفاعله ولا يدخلها شوب فانظر إلى قوله تعالى : « ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ووجد من دونهم امرأتين تذودان قال ما خطبكما قالتا لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير . فسقى لهما ثم تولى إلى الظل » [ سورة القصص : 23، 42 ] ففيها حذف مفعول في أربعة مواضع، إذ المعنى : " وجد عليه أمة من الناس يسقون " أغنامهم أو مواشيهم- و " امرأتين تذودان " غنمهما وقالتا : " لا نسقي " غنمنا، " فسقى لهما " غنمهما .
ثم إنه لا يخفى على ذي بصر أنه ليس في ذلك كله إلا أن يترك ذكره ويؤتى بالفعل مطلقا . وما ذاك إلا أن الغرض في أن يعلم أنه كان من الناس في تلك الحال سقي، ومن المرأتين ذود وأنهما قالتا : لا يكون منا سقي حتى يصدر الرعاء، وأنه كان من موسى عليه السلام من بعد ذلك سقي . فأما ما كان المسقي؟ أغنما أم إبلا أم غير ذلك، فخارج عن الغرض وموهم خلافه . وذاك أنه لو قيل : " وجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما " جاز [ ص: 162 ] أن يكون لم ينكر الذود من حيث هو ذود، بل من حيث هو ذود غنم، حتى لو كان مكان الغنم إبل لم ينكر الذود كما أنك إذا قلت : " ما لك تمنع أخاك ؟ " كنت منكرا المنع، لا من حيث هو منع، بل من حيث هو منع أخ، فاعرفه تعلم أنك لم تجد لحذف المفعول في هذا النحو من الروعة والحسن ما وجدت، إلا لأن في حذفه وترك ذكره فائدة جليلة، وأن الغرض لا يصح إلا على تركه .
مثال آخر للحذف الخفي
165- ومما هو كأنه نوع آخر غير ما مضى قول : البحتري
إذا بعدت أبلت وإن قربت شفت فهجرانها يبلي ولقيانها يشفي
قد علم أن المعنى : " إذا بعدت عني أبلتني وإن قربت مني شفتني " إلا أنك تجد الشعر يأبى ذكر ذلك، ويوجب اطراحه . وذاك لأنه أراد أن يجعل البلى كأنه واجب في بعادها أن يوجبه ويجلبه، وكأنه كالطبيعة فيه ، وكذلك حال الشفاء مع القرب، حتى كأنه قال : أتدري ما بعادها؟ هو الداء المضني وما قربها؟ هو الشفاء والبرء من كل داء . ولا سبيل لك إلى هذه اللطيفة وهذه النكتة إلا بحذف المفعول البتة فاعرفه .
[ ص: 163 ]
وليس لنتائج هذا الحذف أعني حذف المفعول نهاية، فإنه طريق إلى ضروب من الصنعة وإلى لطائف لا تحصى.
نوع آخر وهو: الإضمار على شريطة التفسير ومثاله
166- وهذا نوع منه آخر : اعلم أن هاهنا بابا من الإضمار والحذف يسمى الإضمار على شريطة التفسير . وذلك مثل قولهم : " أكرمني وأكرمت عبد الله " . أردت : أكرمني عبد الله وأكرمت عبد الله . ثم تركت ذكره في الأول استغناء بذكره في الثاني . فهذا طريق معروف ومذهب ظاهر، وشيء لا يعبأ به، ويظن أنه ليس فيه أكثر مما تريك الأمثلة المذكورة منه .
وفيه إذا أنت طلبت الشيء من معدنه من دقيق الصنعة ومن جليل الفائدة ما لا تجده إلا في كلام الفحول . فمن لطيف ذلك ونادره قول : البحتري
لو شئت لم تفسد سماحة حاتم كرما ولم تهدم مآثر خالد
الأصل لا محالة: لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها ، ثم حذف ذلك من الأول استغناء بدلالته في الثاني عليه . ثم هو على ما تراه وتعلمه من الحسن والغرابة وهو على ما ذكرت لك من أن الواجب في حكم البلاغة أن لا ينطق بالمحذوف ولا يظهر إلى اللفظ . فليس يخفى أنك لو رجعت فيه إلى ما هو أصله فقلت : " لو شئت أن لا تفسد سماحة حاتم لم تفسدها " صرت إلى كلام غث، وإلى شيء يمجه السمع وتعافه النفس . وذلك أن في البيان، [ ص: 164 ] إذا ورد بعد الإبهام وبعد التحريك له أبدا لطفا ونبلا لا يكون إذا لم يتقدم ما يحرك.
وأنت إذا قلت : " لو شئت " علم السامع أنك قد علقت هذه المشيئة في المعنى بشيء، فهو يضع في نفسه أن ههنا شيئا تقتضي مشيئته له أن يكون أو أن لا يكون . فإذا قلت : " لم تفسد سماحة حاتم " عرف ذلك الشيء.
ومجيء " المشيئة " بعد " لو " وبعد حروف الجزاء هكذا موقوفة غير معداة إلى شيء، كثير شائع كقوله تعالى : « ولو شاء الله لجمعهم على الهدى » [ سورة الأنعام :35 ] « ولو شاء لهداكم أجمعين » [ سورة النحل :9 ] . والتقدير في ذلك كله على ما ذكرت، فالأصل : لو شاء الله أن يجمعهم على الهدى لجمعهم - ولو شاء أن يهديكم أجمعين لهداكم - إلا أن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا .
متى يكون إظهار المفعول أحسن من حذفه
168- وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن، وذلك نحو قول الشاعر :
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
فقياس هذا لو كان على حد : " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " [ سورة الأنعام : 35 ] أن يقول : " لو شئت بكيت دما " ولكنه كأنه ترك تلك الطريقة وعدل إلى هذه لأنها أحسن في هذا الكلام خصوصا . وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما . فلما كان كذلك، كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع ويؤنسه به.
[ ص: 165 ]
169- وإذا استقريت وجدت الأمر كذلك أبدا متى كان مفعول " المشيئة " أمرا عظيما، أو بديعا غريبا، كان الأحسن أن يذكر ولا يضمر . يقول الرجل يخبر عن عزة : " لو شئت أن أرد على الأمير رددت " و " لو شئت أن ألقى الخليفة كل يوم لقيت " . فإذا لم يكن مما يكبره السامع فالحذف كقولك : " لو شئت خرجت " و " لو شئت قمت " و " لو شئت أنصفت " و " لو شئت لقلت " . وفي التنزيل : « لو نشاء لقلنا مثل هذا » [ سورة الأنفال : 31 ] وكذا تقول : " لو شئت كنت كزيد " قال :
لو شئت كنت ككرز في عبادته أو كابن طارق حول البيت والحرم
وكذلك الحكم في غيره من حروف المجازاة أن تقول : إن شئت [ ص: 166 ] قلت" و " إن أردت دفعت " : قال الله تعالى : « فإن يشأ الله يختم على قلبك » [ سورة الشورى : 34 ] وقال عز اسمه : « من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم » [ سورة الأنعام : 39 ] . ونظائر ذلك من الآي ترى الحذف فيها المستمر .
أمثلة ما يعلم أنه ليس فيه لغير الحذف وجه
ومما يعلم أن ليس فيه لغير الحذف وجه قول طرفة :
وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت مخافة ملوي من القد محصد
وقول حميد :
إذا شئت غنتني بأجزاع بيشة أو الزرق من تثليث أو بيلملما
مطوقة ورقاء تسجع كلما دنا الصيف وانجاب الربيع فأنجما
وقول : البحتري
إذا شاء غادى صرمة أو غدا على عقائل سرب أو تقنص ربربا
وقوله :
لو شئت عدت بلاد نجد عودة فحللت بين عقيقه وزروده
معلوم أنك لو قلت : " وإن شئت أن لا ترقل لم ترقل " : أو قلت : " إذا شئت أن تغنيني بأجزاع بيشة غنتني " وإذا شاء أن يغادي صرمة [ ص: 167 ] غادى، ولو شئت أن تعود بلاد نجد عودة عدتها- أذهبت الماء والرونق وخرجت إلى كلام غث، ولفظ رث .
وأما قول الجوهري :
فلم يبق مني الشوق غير تفكري فلو شئت أن أبكي بكيت تفكرا
فقد نحا به نحو قوله : " ولو شئت أن أبكي دما لبكيته " فأظهر مفعول " شئت " ولم يقل : " فلو شئت بكيت تفكرا " لأجل أن له غرضا لا يتم إلا بذكر المفعول، وذلك أنه لم يرد أن يقول : " ولو شئت أن أبكي تفكرا بكيت كذلك " . ولكنه أراد أن يقول : قد أفناني النحول فلم يبق مني وفي غير خواطر تجول حتى لو شئت بكاء فمريت شؤوني، وعصرت عيني ليسيل منها دمع لم أجده، ولخرج بدل الدمع التفكر . فالبكاء الذي أراد إيقاع المشيئة عليه مطلق مبهم غير معدى إلى التفكر البتة ، والبكاء الثاني مقيد معدى إلى التفكر . وإذا كان الأمر كذلك صار الثاني كأنه شيء غير الأول وجرى مجرى أن تقول : " لو شئت أن تعطي درهما أعطيت درهمين " . في أن الثاني لا يصلح أن يكون تفسيرا للأول .
[ ص: 168 ]
172-واعلم أن هذا الذي ذكرنا ليس بصريح : " أكرمت وأكرمني عبد الله " ولكنه شبيه به في أنه إنما حذف الذي حذف من مفعول " المشيئة " و " الإرادة " لأن الذي يأتي في جواب " لو " وأخواتها يدل عليه.
مثال آخر نادر لطيف في الحذف
173- وإذا أردت ما هو صريح في ذلك ثم هو نادر لطيف ينطوي على معنى دقيق وفائدة جليلة فانظر إلى بيت : البحتري
قد طلبنا فلم نجد لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا
المعنى : قد طلبنا لك مثلا، ثم حذف لأن ذكره في الثاني يدل عليه ، ثم إن للمجيء به كذلك من الحسن والمزية والروعة ما لا يخفى . ولو أنه قال : قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده، لم تر من هذا الحسن الذي تراه شيئا . وسبب ذلك أن الذي هو الأصل في المدح والغرض بالحقيقة هو نفي الوجود عن المثل . فأما الطلب فكالشيء يذكر ليبنى عليه الغرض ويؤكد به أمره . وإذا كان هذا كذلك، فلو أنه قال : قد طلبنا لك في السؤدد والمجد والمكارم مثلا فلم نجده لكان يكون قد ترك أن يوقع نفي الوجود على صريح لفظ " المثل " وأوقعه على ضميره . ولن تبلغ الكناية [ ص: 169 ] مبلغ التصريح أبدا .
مثال آخر من خطبة قيس بن خارجة بن سنان
ويبين: هذا كلام، ذكره في كتاب البيان والتبيين وأنا أكتب لك الفصل حتى تستبين الذي هو المراد، قال : " والسنة في خطبة النكاح أن يطيل الخاطب ويقصر المجيب . ألا ترى أن أبو عثمان الجاحظ قيس بن خارجة بن سنان لما ضرب بسيفه مؤخرة راحلة الحاملين في شأن حمالة داحس والغبراء وقال : ما لي فيها أيها العشمتان؟ قالا : بل ما عندك؟ قال : عندي قرى كل نازل، ورضا كل ساخط، وخطبة من لدن تطلع الشمس إلى أن تغرب . آمر فيها بالتواصل وأنهى فيها عن التقاطع . قالوا : فخطب يوما إلى الليل فما أعاد كلمة ولا معنى . فقيل لأبي يعقوب : لا اكتفى بالأمر بالتواصل عن النهي عن التقاطع؟ أوليس الأمر بالصلة هو النهي عن القطيعة؟ قال : أوما علمت أن الكناية والتعريض لا يعملان في العقول عمل الإيضاح والتكشيف " .
انتهى الفصل الذي أردت أن أكتبه. فقد بصرك هذا أن لن يكون إيقاع نفي الوجود على صريح لفظ المثل، كإيقاعه على ضميره .
[ ص: 170 ]
أمثلة أخرى للحذف
175- وإذ قد عرفت هذا، فإن هذا المعنى بعينه قد أوجب في بيت أن يضع اللفظ على عكس ما وضعه ذي الرمة ، فيعمل الأول من الفعلين وذلك قوله : البحتري
ولم أمدح لأرضيه بشعري لئيما أن يكون أصاب مالا
أعمل " لم أمدح " الذي هو الأول في صريح لفظ " اللئيم " و " أرضى " الذي هو الثاني ، في ضميره . وذلك لأن إيقاع نفي المدح على اللئيم صريحا والمجيء به مكشوفا ظاهرا، هو الواجب من حيث كان أصل الغرض . وكان الإرضاء تعليلا له . ولو أنه قال : " ولم أمدح لأرضى بشعري لئيما " لكان يكون قد أبهم الأمر فيما هو الأصل، وأبانه فيما ليس بالأصل، فاعرفه .
ولهذا الذي ذكرنا من أن للتصريح عملا لا يكون مثل ذلك العمل للكناية، كان لإعادة اللفظ في مثل قوله تعالى : « وبالحق أنزلناه وبالحق نزل » [ سورة الإسراء : 105 ] وقوله تعالى : « قل هو الله أحد . الله الصمد » [ سورة الإخلاص : 1، 2 ] من الحسن والبهجة ومن الفخامة والنبل ما لا يخفى موضعه على بصير . وكان لو ترك فيه الإظهار إلى الإضمار فقيل : " وبالحق أنزلناه وبه نزل " . و " قل هو الله أحد هو الصمد " لعدمت الذي أنت واجده الآن .