فصل
بيان في شأن الكناية والاستعارة والتمثيل
304- الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة فقلت : " خرج زيد " وبالانطلاق عن عمرو فقلت : " عمرو منطلق " وعلى هذا القياس.
وضرب آخر أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض . ومدار هذا الأمر على " الكناية " و " الاستعارة " و " التمثيل " . وقد مضت الأمثلة فيها مشروحة مستقصاة أو لا ترى أنك إذا قلت : " هو كثير رماد القدر " أو قلت : " طويل النجاد " أو قلت في المرأة : " نؤوم الضحى " فإنك في جميع ذلك لا تفيد غرضك الذي تعني من مجرد اللفظ، ولكن يدل اللفظ على معناه الذي يوجبه ظاهره ثم يعقل السامع من ذلك المعنى على سبيل الاستدلال معنى ثانيا هو غرضك كمعرفتك من " كثير رماد القدر أنه مضياف، ومن " طويل النجاد " أنه طويل القامة ومن " نؤوم الضحى " في المرأة أنها مترفة مخدومة لها من يكفيها أمرها .
وكذا إذا قال : رأيت أسدا - ودلك الحال على أنه لم يرد السبع، - علمت أنه أراد التشبيه إلا أنه بالغ فجعل الذي رآه بحيث لا يتميز من الأسد في شجاعته . [ ص: 263 ] وكذلك تعلم في قوله : " بلغني أنك تقدم رجلا وتؤخر أخرى " أنه أراد التردد في أمر البيعة واختلاف العزم في الفعل وتركه على ما مضى الشرح فيه .
بيان في شرح قوله : المعنى ومعنى المعنى وهو فصل جيد
305 - وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة وهي أن تقول: " المعنى " و " معنى المعنى " تعني بالمعنى المفهوم من ظاهر اللفظ والذي تصل إليه بغير واسطة- و " بمعنى المعنى " أن تعقل من اللفظ معنى، ثم يفضي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر، كالذي فسرت لك.
306- وإذ قد عرفت ذلك فإذا رأيتهم يجعلون الألفاظ زينة للمعاني وحلية عليها- أو يجعلون المعاني كالجواري والألفاظ كالمعارض لها وكالوشي المحبر واللباس الفاخر والكسوة الرائقة، إلى أشباه ذلك مما يفخمون به أمر اللفظ ويجعلون المعنى ينبل به ويشرف .
فاعلم أنهم يصفون كلاما قد أعطاك المتكلم أغراضه فيه من طريق معنى المعنى، فكنى وعرض، ومثل واستعار، ثم أحسن في ذلك كله وأصاب ووضع كل شيء منه في موضعه، وأصاب به شاكلته، وعمد فيما كنى به وشبه ومثل، لما حسن مأخذه ودق مسلكه ولطفت إشارته . وأن المعرض وما في معناه ليس هو اللفظ المنطوق به، ولكن معنى اللفظ الذي دللت به على المعنى الثاني، كمعنى قوله :
[ ص: 264 ]
فإني جبان الكلب مهزول الفصيل
الذي هو دليل على أنه مضياف، فالمعاني الأول المفهومة من أنفس الألفاظ هي المعارض والوشي والحلي وأشباه ذلك ، والمعاني الثواني التي يومأ إليها بتلك المعاني، هي التي تكسى تلك المعارض وتزين بذلك الوشي والحلي .
[ ص: 265 ]
307- وكذلك إذا جعلوا المعنى يتصور من أجل اللفظ بصورة، ويبدو في هيئة، ويتشكل بشكل يرجع المعنى في ذلك كله إلى الدلالات المعنوية، ولا يصلح شيء منه حيث الكلام على ظاهره، وحيث لا يكون كناية ولا تمثيل به ولا استعارة، ولا استعانة في الجملة بمعنى على معنى وتكون الدلالة على الغرض من مجرد اللفظ، فلو أن قائلا قال : " رأيت الأسد " وقال آخر : لقيت الليث لم يجز أن يقال في الثاني أنه صور المعنى في غير صورته الأولى، ولا أن يقال : أبرزه في معرض سوى معرضه ولا شيئا من هذا الجنس .
وجملة الأمر أن صور المعاني لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهر ما وضعت له في اللغة ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر .
308- واعلم أن هذا كذلك ما دام النظم واحدا، فأما إذا تغير النظم فلا بد حينئذ من أن يتغير المعنى على ما مضى من البيان في " مسائل التقديم والتأخير " وعلى ما رأيت في المسألة التي مضت الآن أعني قولك : " إن زيدا كالأسد " و " كأن زيدا الأسد " ذاك لأنه لم يتغير من اللفظ شيء وإنما تغير النظم فقط . وأما فتحك " أن " عند تقديم الكاف وكانت مكسورة فلا اعتداد بها لأن معنى الكسر باق بحاله .
[ ص: 266 ]
واعلم أن السبب في أن أحالوا في أشباه هذه المحاسن التي ذكرتها لك على اللفظ أنها ليست بأنفس المعاني بل هي زيادات فيها وخصائص ، ألا ترى أن ليست المزية التي تجدها لقولك : كأن زيدا الأسد على قولك : " زيد كالأسد " لشيء خارج عن التشبيه الذي هو أصل المعنى وإنما هو زيادة فيه وفي حكم الخصوصية في الشكل نحو أن يصاغ خاتم على وجه وآخر على وجه آخر تجمعهما صورة الخاتم ويفترقان بخاصة وشيء يعلم إلا أنه لا يعلم منفردا . ولما كان الأمر كذلك لم يمكنهم أن يطلقوا اسم المعاني على هذه الخصائص إذا كان لا يفترق الحال حينئذ بين أصل المعنى وبين ما هو زيادة في المعنى وكيفية له وخصوصية فيه . فلما امتنع ذلك توصلوا إلى الدلالة عليها بأن وصفوا اللفظ في ذلك بأوصاف يعلم أنها لا تكون أوصافا له من حيث هو لفظ كنحو وصفهم له بأنه لفظ شريف، وأنه قد زان المعنى، وأن له ديباجة، وأن عليه طلاوة، وأن المعنى منه في مثل الوشي، وأنه عليه كالحلي إلى أشباه ذلك مما يعلم ضرورة أنه لا يعنى بمثله الصوت والحرف. ثم إنه لما جرت به العادة واستمر عليه العرف، وصار الناس يقولون : اللفظ واللفظ لز من ذلك بأنفس أقوام باب من الفساد، وخامرهم منه شيء لست أحسن وصفه .