548- وإذ قد عرفت ما لزمهم في " الاستعارة " و " المجاز " فالذي يلزمهم في " الإيجاز " أعجب وذلك أنه يلزمهم إن كان " اللفظ " فصيحا لأمر يرجع إليه نفسه دون معناه- أن يكون كذلك موجزا لأمر يرجع إلى نفسه، وذلك من المحال الذي يضحك منه، لأنه لا معنى للإيجاز إلا أن يدل بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى . وإذا لم تجعله وصفا للفظ من أجل معناه، أبطلت معناه أعني أبطلت معنى الإيجاز .
[ ص: 464 ]
549- ثم إن هاهنا معنى شريفا قد كان ينبغي أن نكون قد ذكرناه في أثناء ما مضى من كلامنا، وهو أن العاقل إذا نظر علم علم ضرورة أنه لا سبيل له إلى أن يكثر معاني الألفاظ أو يقللها، لأن المعاني المودعة في الألفاظ لا تتغير على الجملة عما أراده واضع اللغة . وإذا ثبت ذلك، ظهر منه أنه لا معنى لقولنا : " كثرة المعنى مع قلة اللفظ " غير أن المتكلم يتوصل بدلالة المعنى على المعنى إلى فوائد، لو أنه أراد الدلالة عليها باللفظ لاحتاج إلى لفظ كثير .
الرأي الفاسد وخطره إذا قاله عالم له صيت ومنزلة
550- واعلم أن القول الفاسد والرأي المدخول إذا كان صدره عن قوم لهم نباهة وصيت وعلو منزلة في أنواع من العلوم غير العلم الذي قالوا ذلك القول فيه، ثم وقع في الألسن فتداولته ونشرته، وفشا وظهر وكثر الناقلون له والمشيدون بذكره- صار ترك النظر فيه سنة، والتقليد دينا . ورأيت الذين هم أهل ذلك العلم وخاصته والممارسون له، والذين هم خلقاء أن يعرفوا وجه الغلط والخطأ فيه - لو أنهم نظروا فيه - كالأجانب الذين ليسوا من أهله في قبوله والعمل به والركون إليه، ووجدتهم قد أعطوه مقادتهم وألانوا له جانبهم، وأوهمهم النظر إلى منتماه ومنتسبه، ثم اشتهاره وانتشاره وإطباق الجمع بعد الجمع عليه- أن الضن به أصوب، والمحاماة عليه أولى . ولربما -بل كلما- ظنوا أنه لم يشع ولم يتسع ولم يروه خلف عن [ ص: 465 ] سلف، وآخر عن أول، إلا لأن له أصلا صحيحا، وأنه أخذ من معدن صدق، واشتق من نبعة كريمة، وأنه لو كان مدخولا لظهر الدخل الذي فيه على تقادم الزمان وكرور الأيام . وكم من خطأ ظاهر ورأي فاسد حظي بهذا السبب عند الناس، حتى بوأوه في أخص موضع من قلوبهم ومنحوه المحبة الصادقة من نفوسهم، وعطفوا عليه عطف الأم على واحدها . وكم من داء دوي قد استحكم بهذه العلة حتى أعيا علاجه، وحتى بعل به الطبيب .
ولولا سلطان هذا الذي وصفت على الناس، وأن له أخذة تمنع القلوب عن التدبر، وتقطع عنها دواعي التفكر لما كان لهذا الذي ذهب إليه القوم في أمر " اللفظ " هذا التمكن وهذه القوة ، ولا كان يرسخ في النفوس هذا الرسوخ، وتنشعب عروقه هذا الشعب، مع الذي بان من تهافته وسقوطه وفحش الغلط فيه، وأنك لا ترى في أديمه من أين نظرت، وكيف صرفت وقلبت مصحا، ولا تراه باطلا فيه شوب من الحق، وزيفا فيه [ ص: 466 ] شيء من الفضة، ولكن ترى الغش بحتا والغيط صرفا ونسأل الله التوفيق .
المعتزلة في مسألة اللفظ وبيان تقصيرهم الرد على
551- وكيف لا يكون في إسار الأخذة، ومحولا بينه وبين الفكرة من يسلم أن الفصاحة لا تكون في أفراد الكلمات، وأنها إنما تكون فيها إذا ضم بعضها إلى بعض، ثم لا يعلم أن ذلك يقتضي أن تكون وصفا لها من أجل معانيها لا من أجل أنفسها، ومن حيث هي ألفاظ ونطق لسان؟
ذاك لأنه ليس من عاقل يفتح عين قلبه، إلا وهو يعلم ضرورة أن المعنى في ضم بعضها إلى بعض " ، تعليق بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض، لا أن ينطق بعضها في إثر بعض، من غير أن يكون فيما بينها تعلق ويعلم كذلك ضرورة - إذا فكر - أن التعلق يكون فيما بين معانيها، لا فيما بينها أنفسها . ألا ترى أنا لو جهدنا كل الجهد أن نتصور تعلقا فيما بين لفظين لا معنى تحتهما لم نتصور ؟
ومن أجل ذلك انقسمت الكلم قسمين : " مؤتلف " وهو الاسم مع الاسم والفعل مع الاسم . و " غير مؤتلف " وهو ما عدا ذلك كالفعل مع الفعل والحرف مع الحرف . ولو كان التعلق يكون بين الألفاظ، لكان ينبغي أن لا يختلف حالها في الائتلاف، وأن لا يكون في الدنيا كلمتان إلا ويصح أن يأتلفا لأنه لا تنافي بينهما من حيث هي ألفاظ .
[ ص: 467 ] وإذا كان كل واحد منهم قد أعطى يده بأن الفصاحة لا تكون في الكلم أفرادا وأنها إنما تكون إذا ضم بعضها إلى بعض . وكان يكون المراد بضم بعضها إلى بعض، تعليق معانيها بعضها ببعض، لا كون بعضها في النطق على إثر بعض كان واجبا، إذا علم ذلك، أن يعلم أن الفصاحة تجب لها من أجل معانيها، لا من أجل أنفسها، لأنه محال أن يكون سبب ظهور الفصاحة فيها، تعلق معانيها بعضها ببعض . ثم تكون الفصاحة وصفا يجب لها لأنفسها لا لمعانيها . وإذا كان العلم بهذا ضرورة، ثم رأيتهم لا يعلمونه . فليس إلا أن اعتزامهم على التقليد قد حال بينهم وبين الفكرة وعرض لهم منه شبه الأخذة .
المعتزلة على نسق " الألفاظ " في شأن الفصاحة تعويل
552- واعلم أنك إذا نظرت وجدت مثلهم مثل من يرى خيال الشيء فيحسبه الشيء . وذاك أنهم قد اعتمدوا في كل أمرهم على النسق الذي يرونه في الألفاظ، وجعلوا لا يحفلون بغيره، ولا يعولون في الفصاحة والبلاغة على شيء سواه، حتى انتهوا إلى أن زعموا أن من عمد إلى شعر فصيح فقرأه ونطق بألفاظه على النسق الذي وضعها الشاعر عليه، كان قد أتى بمثل ما أتى به الشاعر في فصاحته وبلاغته ، إلا أنهم زعموا أنه يكون في إتيانه به محتذيا لا مبتدئا .
[ ص: 468 ]
553- ونحن إذا تأملنا وجدنا الذي يكون في الألفاظ من تقديم شيء منها على شيء، إنما يقع في النفس أنه " نسق " إذا اعتبرنا ما توخي من معاني النحو في معانيها . فأما مع ترك اعتبار ذلك فلا يقع ولا يتصور بحال . أفلا ترى أنك لو فرضت في قوله :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
أن لا يكون " نبك " جوابا للأمر، ولا يكون معدى " بمن " إلى " ذكرى " ولا يكون " ذكرى " مضافة إلى " حبيب " ولا يكون " منزل " معطوفا بالواو على " حبيب " لخرج ما ترى فيه من التقديم والتأخير عن أن يكون " نسقا " ؟ ذاك لأنه إنما يكون تقديم الشيء على الشيء نسقا وترتيبا، إذا كان ذلك التقديم قد كان لموجب أوجب أن يقدم هذا ويؤخر ذاك . فأما أن يكون مع عدم الموجب نسقا فمحال لأنه لو كان يكون تقديم اللفظ على اللفظ من غير أن يكون له موجب " نسقا " لكان ينبغي أن يكون توالي الألفاظ في النطق على أي وجه كان " نسقا " . حتى إنك لو قلت : “ " نبك قفا حبيب ذكرى من " : لم تكن قد أعدمته النسق والنظم، وإنما أعدمته الوزن فقط . وقد تقدم هذا فيما مضى، ولكنا أعدناه هاهنا لأن الذي أخذنا فيه من إسلام القوم أنفسهم إلى التقليد، اقتضى إعادته .