ذنب كما سحب الرداء يذب عن عرف وعرف كالقناع المسبل تتوهم الجوزاء في أرساغه
والبدر فوق جبينه المتهلل
فالبيت الأول وحش الابتداء ، منقطع عما سبق من الكلام . وقد ذكرنا أنه لا يهتدي لوصل الكلام ، ونظام بعضه إلى بعضه ، وإنما يتصنع لغير هذا الوجه .
وكان يحتاج أن يقول : ذنب كالرداء ، فقد حذف ، والوصل غير متسق ولا مليح ، وكان من سبيله أن لا يخفى عليه ، ولا يذهب عن مثله .
ثم قوله : " كما سحب الرداء " ، قبيح في تحقيق التشبيه ، وليس بواقع ولا مستقيم في العبارة ، إلا على إضمار أنه ذنب يسحبه كما يسحب الرداء !
وقوله : " يذب عن عرف " ، ليس بحسن ولا صادق . والمحمود ما ذكره امرؤ القيس ، وهو قوله :
فويق الأرض ليس بأعزل
وأما قوله : " تتوهم الجوزاء في أرساغه " ، فهو تشبيه مليح ، ولكنه لم يسبق إليه ، ولا انفرد به .
[ ص: 232 ] ولو نسخت لك ما قاله الشعراء في تشبيه الغرة بالهلال والبدر والنجم وغير ذلك من الأمور ، وتشبيه الحجول - لتعجبت من بدائع قد وقعوا عليها ، وأمور مليحة قد ذهبوا إليها ، وليس ذلك موضع كلامنا ، فتتبع ذلك في أشعارهم ، تعلم ما وصفت لك .
واعلم أنا تركنا بقية كلامه في وصف الفرس ؛ لأنه ذكر عشرين بيتا في ذلك .
والذي ذكرناه في هذا المعنى يدل على ما بعده ، ولا يعدو ما تركناه أن يكون حسنا مقولا ، وبديعا منقولا ؛ أو يكون متوسطا إلى حد لا يفوت طريقة الشعراء .
ولو تتبعت أقاويل الشعراء في وصف الخيل ، علمت أنه وإن جمع فأوعى ، وحشر فنادى ، ففيهم من سبقه في ميدانه ، ومنهم من ساواه في شأوه ، ومنهم من داناه . فالقبيل واحد ، والنسيج متشاكل . ولولا كراهة التطويل لنقلت جملة من أشعارهم في ذلك ، لتقف على ما قلت .
فتجاوزنا إلى الكلام على ما قاله في المدح في هذه القصيدة .
* * *
قال :
لمحمد بن علي الشرف الذي لا يلحظ الجوزاء إلا من عل
وسحابة لولا تتابع مزنها فينا لراح المزن غير مبخل
والجود يعذله عليه حاتم سرفا ولا جود لمن لم يعذل
البيت الأول منقطع عما قبله ، على ما وصفنا به شعره : من قطعه [ ص: 233 ] المعاني ، وفصله بينها ، وقلة تأتيه لتجويد الخروج والوصل ، وذلك نقصان في الصناعة ، وتخلف في البراعة ، وهذا إذا وقع في مواضع قليلة عذر فيها ، وأما إذا كان بناء الغالب من كلامه على هذا ، فلا عذر له .
وأما المعنى الذي ذكره ، فليس بشيء مما سبق إليه ، وهو شيء مشترك فيه ، وقد قالوا في نحوه : إن مجده سماء السماء ، وقالوا في نحوه الكثير الذي يصعب نقل جميعه ، وكما قال : المتنبي
وعزمة بعثتها همة زحل من تحتها بمكان الترب من زحل
وحدثني إسماعيل بن عباد : أنه رأى قام لرجل ، ثم قال لمن حضره : أتدري من هذا ؟ هذا الذي قال في أبيه أبا الفضل بن العميد : البحتري
لمحمد بن علي الشرف الذي
فذلك يدل على استعظامه للميت ، بما مدح به من البيت .
والبيت الثاني في تشبيه جوده بالسحاب قريب ، وهو حديث مكرر ، ليس ينفك مديح شاعر منه ، وكان من سبيله أن يبدع فيه زيادة إبداع ، كما قد يقع لهم في نحو هذا ، ولكنه لم يتصنع له ، وأرسله إرسالا .
وقد وقع في المصراع الثاني ضرب من الخلل ، وذلك : أن المزن إنما يبخل إذا منع نيله ، وذلك موجود في كل نيل ممنوح ، وكلاهما محمود مع الإسعاف ، فإن أسعف أحدهما ومنع الآخر لم يمكن التشبيه ، وإن كان إنما شبه غالب حال أحدهما بالآخر ، وذكر قصور أحدهما عن صاحبه ، حتى إنه قد يبخل في وقت [ ص: 234 ] والآخر لا يبخل بحال - فهذا جيد ، وليس في حمل الألفاظ على الإشارة إلى هذا شيء .
والبيت الثالث ، وإن كان معناه مكررا ، فلفظه مضطرب بالتأخير والتقديم ، يشبه ألفاظ المبتدئين .
وأما قوله :
فضل وإفضال وما أخذ المدى بعد المدى كالفاضل المتفضل
سار إذا ادلج العفاة إلى الندى لا يصنع المعروف غير معجل
فالبيت الأول منقطع عما قبله ، وليس فيه شيء غير التجنيس الذي ليس ببديع ، لتكرره على كل لسان .
وقوله : " ما أخذ المدى بعد المدى " ، فإنه لفظ مليح ، وهو كقول القائل :
قد أركب الآلة بعد الآله
وروي : " الحالة بعد الحاله " . وكقول امرئ القيس :
سمو حباب الماء حالا على حال
ولكنها طريقة مذللة ، فهو فيها تابع .
وأما البيت الثاني فقريب في اللفظ والمعنى .
وقوله : " لا يصنع المعروف " ليس بلفظ محمود .
وأما قوله :
عال على نظر الحسود كأنما جذبته أفراد النجوم بأحبل
أوما رأيت المجد ألقى رحله في آل طلحة ثم لم يتحول
[ ص: 235 ] فالبيت الأول منكر جدا في جر النجوم بالأرسان من موضعه إلى العلو ! والتكلف فيه واقع .
والبيت الثاني أجنبي عنه ، بعيد منه ، وافتتاحه رديء . وما وجه الاستفهام والتقرير والاستبانة والتوقيف ؟
والبيتان أجنبيان من كلامه ، غريبان في قصيدته .
ولم يقع له في المدح في هذه القصيدة شيء جيد .
ألا ترى أنه قال بعد ذلك :
نفسي فداؤك يا محمد من فتى يوفي على ظلم الخطوب فتنجلي
إني أريد أبا سعيد ، والعدى بيني وبين سحابه المتهلل
كأن هذا ليس من طبعه ولا من سبكه .
وقوله :
مضر الجزيرة كلها وربيعة الـ خابور توعدني وأزد الموصل
قد جدت بالطرف الجواد فثنه لأخيك من أدد أبيك بمنصل
البيت الأول حسن المعنى ، وإن كانت ألفاظه بذكر الأماكن لا يتأتى فيه التحسين .
وهذا المعنى قد يمكن إيراده بأحسن من هذا اللفظ وأبدع منه وأرق منه ، كقوله :
إذا غضبت عليك بنو تميم رأيت الناس كلهم غضابا
والبيت الثاني قد تعذر عليه وصله بما سبق من الكلام على وجه يلطف ، وهو قبيح اللفظ ، حيث يقول فيه : " فثنه لأخيك من أدد أبيك " ، ومن أخذه بهذا التعرض لهذا السجع ، وذكر هذا النسب ، حتى أفسد به شعره !
[ ص: 236 ] وأما قوله بعد ذلك في وصف السيف ، يقول :
يتناول الروح البعيد منالها عفوا ويفتح في القضاء المقفل
بإبانة في كل حتف مظلم وهداية في كل نفس مجهل
ماض وإن لم تمضه يد فارس بطل ومصقول وإن لم يصقل
ليس لفظ البيت الأول بمضاه لديباجة شعره ، ولا له بهجة نظمه ؛ لظهور أثر التكلف عليه ، وتبين ثقل فيه .
وأما القضاء المقفل " وفتحه ، فكلام غير محمود ولا مرضي ! واستعارة لو لم يستعرها كان أولى به ! وهلا عيب عليه كما عيب على قوله : أبي تمام
فضربت الشتاء في أخدعيه ضربة غادرته عودا ركوبا
وقالوا : يستحق بهذه الاستعارة أن يصفع في أخدعيه ! وقد اتبعه في استعارة الأخدع ، ولوعا باتباعه ، فقال في البحتري : الفتح بن خاقان
وإني وإن أبلغتني شرف العلا وأعتقت من ذل المطامع أخدعي
إن شيطانه حيث زين له هذه الكلمة ، وتابعه حين حسن عنده هذه اللفظة - لخبيث مارد ، ورديء معاند ، أراد أن يطلق أعنة الذم فيه ، ويسرح جيوش العتب إليه ! ولم يقنع بقفل القضاء ؛ حتى جعل للحتف ظلمة تجلى بالسيف ، وجعل السيف هاديا في النفس المجهل الذي لا يهتدي إليه ! وليس في هذا مع تحسين اللفظ وتنميقه شيء ؛ لأن [ ص: 237 ] السلاح وإن كان معيبا ، فإنه يهتدي إلى النفس .
وكان يجب أن يبدع في هذا إبداع في قوله : المتنبي
كأن الهام في الهيجا عيون وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم فما يخطرن إلا في فؤاد
فالاهتداء على هذا الوجه في التشبيه بديع حسن .
وفي الببت الأول شيء آخر : وذلك أن قوله : " ويفتح في القضاء " ؛ في هذا الموضع حشو رديء ، يلحق بصاحبه اللكنة ، ويلزمه الهجنة .
وأما البيت الثالث ، فإنه أصلح هذه الأبيات ، وإن كان ذكر الفارس حشوا ، وتكلفا ولغوا ؛ لأن هذا لا يتغير بالفارس والراجل . على أنه ليس فيه بديع .
وأما قوله :
يغشى الوغى والترس ليس بجنة من حده والدرع ليس بمعقل
مصغ إلى حكم الردى ، فإذا مضى لم يلتفت ، وإذا قضى لم يعدل
متوقد يبري بأول ضربة ما أدركت ، ولو انها في يذبل
البيتان الأولان من الجنس الذي يكثر كلامه عليه ، وهي طريقته التي يجتبيها ، وذلك من السبك الكتابي والكلام المعتدل ، إلا أنه لم يبدع فيهما بشيء ، وقد زيد عليه فيهما .
[ ص: 238 ] ومن قصد إلى أن يكمل عشرة أبيات في وصف السيف ، فليس من حكمه أن يأتي بأشياء منقولة ، وأمور مذكورة ، وسبيله أن يغرب ويبدع ، كما أبدع في قوله : المتنبي
سله الركض بعد وهن بنجد فتصدى للغيث أهل الحجاز
هذا في باب صقاله وأضوائه وكثرة مائه ، وكقوله :
ريان لو قذف الذي أسقيته لجرى من المهجات بحر مزبد
وقوله : " مصغ إلى حكم الردى " - إن تأملته - مقلوب ، كان ينبغي أن يقول : يصغي الردى إلى حكمه ، كما قال الآخر :
فالسيف يأمر والأقدار تنتظر
وقوله : " وإذا قضى لم يعدل " ، متكرر على ألسنتهم في الشعر خاصة ، في نفس هذا المعنى .
والبيت الثالث سليم ، وهو كالأولين في خلوه من البديع .
فأما قوله :
فإذا أصاب فكل شيء مقتل وإذا أصيب فما له من مقتل
وكأنما سود النمال وحمرها دبت بأيد في قراه وأرجل
البيت الأول يقصد بمثله صنعة اللفظ ، وهو في المعنى متفاوت ، لأن [ ص: 239 ] المضرب قد لا يكون مقتلا ، وقد يطلق الشعراء ذلك ، ويرون أن هذا أبدع من قول ، وأنه بضده : المتنبي
القاتل السيف في جسم القتيل به وللسيوف كما للناس آجال
وهذه طريقة لهم يتمدحون بها في قصف الرمح طعنا ، وتقطيع السيف ضربا .
وفي قوله : " وإذا أصيب فما له من مقتل " تعسف ؛ لأنه يريد بذلك أنه لا ينكسر ، فالتعبير بما عبر به عن المعنى الذي ذكرناه يتضمن التكلف وضربا من المحال ، وليس بالنادر ، والذي عليه الجملة ما حكيناه عن غيره .
ونحوه قال بعض أهل الزمان :
يقصف في الفارس السمهري وصدر الحسام فريقا فريقا
والبيت الثاني أيضا هو معنى مكرر على ألسنة الشعراء .
وأما تصنيعه بسود النمال وحمرها ، فليس بشيء ، ولعله أراد بالحمر الذر ، والتفصيل بارد ! والإعراب به منكر ! وهو - كما حكي عن بعضهم أنه قال - : كان كذا حين كانت الثريا بحذاء رأسي على سواء ، أو منحرفا قدر شبر ، أو نصف شبر ، أو إصبعا ، أو ما يقارب ذلك ! فقيل له : هذا من الورع الذي يبغضه الله ، ويمقته الناس ! !
ورب زيادة كانت نقصانا .
وصفة النمل بالسواد والحمرة في هذا من ذلك الجنس ، وعليه خرج بقية البيت في قوله :
دبت بأيد في قراه وأرجل
وكان يكفي ذكر الأرجل عن ذكر الأيدي .
[ ص: 240 ] ووصف الفرند بمدب النمل شيء لا يشذ عن أحد منهم .
وأما قوله :
وكأن شاهره إذا استضوى به الز حفان يعصي بالسماك الأعزل
حملت حمائله القديمة بقلة من عهد عاد غضة لم تذبل
البيت الأول منهما فيه ضرب من التكلف ، وهو منقول من أشعارهم وألفاظهم ، وإنما يقول :
وتراه في ظلم الوغى فتخاله قمرا يشد على الرجال بكوكب
فجعل ذلك الكوكب السماك ، واحتاج إلى أن يجعله أعزل ، للقافية ! ولو لم يحتج إلى ذلك كان خيرا له ؛ لأن هذه الصفة في هذا الموضع تغض من الموصوف ؛ وموضع التكلف الذي ادعيناه ، الحشو الذي ذكره من قوله : " إذا استضوى به الزحفان " وكان يكفي أن يقول : كأن صاحبه يعصي بالسماك ؛ وهذا ، وإن كان قد تعمل فيه للفظ ، فهو لغو ، على ما بينا .
وأما البيت الثاني ففيه لغو من جهة قوله : " حمائله القديمة " ، ولا يوصف السيف بأن حمائله قديمة ، ولا فضيلة له في ذلك .
[ ص: 241 ] ثم تشبيه السيف بالبقلة من تشبيهات العامة ، والكلام الرذل النذل ؛ لأن العامة قد يتفق منها تشبيه واقع حسن .
ثم انظر إلى هذا المقطع الذي هو بالعي أشبه منه بالفصاحة ، وإلى اللكنة أقرب منه إلى البراعة .
وقد بينا أن مراعاة الفواتح والخواتم ، والمطلع والمقاطع ، والفصل والوصل ، بعد صحة الكلام ، ووجود الفصاحة فيه - مما لا بد منه ، وأن الإخلال بذلك يخل بالنظم ، ويذهب رونقه ، ويحيل بهجته ، ويأخذ ماءه وبهاءه .
* * *
وقد أطلت عليك فيما نقلت ، وتكلفت ما سطرت ؛ لأن هذا القبيل قبيل موضوع متعمل مصنوع .
وأصل الباب في الشعر على أن ينظر إلى جملة القصة ، ثم يتعمل الألفاظ ، ولا ينظر بعد ذلك إلى مواقعها ، ولا يتأمل مطارحها . وقد يقصد تارة إلى تحقيق الأغراض ، وتصوير المعاني التي في النفوس ، ولكنه يلحق بأصل بابه ، ويميل بك إلى موضوعه ، وبحسب الاهتمام بالصنعة يقع فيها التفاضل .
وإن أردت أن تعرف وصاف الفرس ، فقد ذكرت لك أن الشعراء قد تصرفوا في ذلك بما يقع إليك - إن كنت من أهل الصنعة - مما يطول علي نقله ، وكذلك في السيف .