الإعجاز العلمي
يخطئ كثير من الناس حين يحرصون على أن يتضمن القرآن الكريم كل نظرية .
[ ص: 262 ]
[ ص: 263 ] والقرآن الكريم يجعل التفكير السديد والنظر الصائب في الكون وما فيه أعظم وسيلة من وسائل الإيمان بالله .
إنه يحث المسلم على التفكير في مخلوقات الله في السماء والأرض : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار .
ويحثه على التفكير في نفسه ، وفي الأرض التي يعمرها ، وفي الطبيعة التي تحيط به : أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى .
وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت .
ويثير فيه الحس العلمي للتفكير والفهم والتعقل : كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون .
وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون .
كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون .
إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون .
قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون .
[ ص: 264 ] انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون .
قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون .
ويرفع القرآن مكانة المسلم بفضيلة العلم : يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات .
ولا يسوي بين عالم وجاهل : قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون .
ويأمر المسلم أن يسأل ربه نعمة العلم : وقل رب زدني علما .
ويجمع الله علوم الفلك والنبات وطبقات الأرض والحيوان ويجعل ذلك من بواعث خشيته : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء .
وهكذا فإن إعجاز القرآن العلمي في أنه يحث المسلمين على التفكير ، ويفتح لهم أبواب المعرفة ، ويدعوهم إلى ولوجها ، والتقدم فيها ، وقبول كل جديد راسخ من العلوم .
وفي القرآن مع هذا إشارات علمية سيقت مساق الهداية ، فالتلقيح في النبات : ذاتي وخلطي ، والذاتي : ما اشتملت زهرته على عضوي التذكير والتأنيث ، والخلطي : هو ما كان عضو التذكير فيه منفصلا عن عضو التأنيث كالنخيل ، فيكون التلقيح بالنقل . ومن وسائل ذلك الرياح ، وجاء في هذا قول الله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح .
" والأوكسجين " ضروري لتنفس الإنسان ، ويقل في طبقات الجو العليا ، فكلما [ ص: 265 ] ارتفع الإنسان في أجواء السماء أحس بضيق الصدر وصعوبة التنفس ، والله تعالى يقول : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء .
وقد ساد الاعتقاد بأن الذرة هي الجزء الذي لا يقبل التجزئة ، وفي القرآن : وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ، ولا أصغر من الذرة سوى تحطيم الذرة .
وفي علم الأجنة جاء قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب .
وقوله : خلق الإنسان من علق .
وقوله : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا .
وفي وحدة الكون وحاجة الحياة إلى عنصر الماء يقول تعالى : أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون .
تلك الإشارات العلمية ونظائرها في القرآن جاءت في سياق الهداية الإلهية ، وللعقل البشري أن يبحث فيها ويتدبر .
يقول الأستاذ سيد قطب في تفسير قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج : " اتجه الجواب إلى واقع حياتهم العملي لا إلى مجرد العلم النظري ، وحدثهم عن وظيفة الأهلة في واقعهم وفي حياتهم ولم [ ص: 266 ] يحدثهم عن الدورة الفلكية للقمر ، وكيف تتم ؟ وهي داخلة في مدلول السؤال . . إن القرآن قد جاء لما هو أكبر من تلك المعلومات الجزئية ، ولم يجئ ليكون كتاب علم فلكي ، أو كيماوي أو طبي . . كما يحاول بعض المتحمسين له أن يلتمسوا فيه هذه العلوم ، أو كما يحاول بعض الطاعنين فيه أن يلتمسوا مخالفاته لهذه العلوم .
إن كلتا المحاولتين دليل على سوء الإدراك لطبيعة هذا الكتاب ووظيفته ومجال عمله . إن مجاله هو النفس الإنسانية والحياة الإنسانية ، وإن وظيفته أن ينشئ تصورا عاما للوجود وارتباطه بخالقه ، ولوضع الإنسان في هذا الوجود وارتباطه بربه ، وأن يقيم على أساس هذا التصور نظاما للحياة يسمح للإنسان أن يستخدم كل طاقاته ومن بينها طاقته العقلية ، التي تقوم هي بعد تنشئتها على استقامة ، وإطلاق المجال لها لتعمل -بالبحث العلمي- في الحدود المتاحة للإنسان ، وبالتجريب والتطبيق ، وتصل إلى ما تصل إليه من نتائج ، ليست نهائية ولا مطلقة بطبيعة الحال . .
وإني لأعجب لسذاجة المتحمسين لهذا القرآن الذين يحاولون أن يضيفوا إليه ما ليس منه ، وأن يحملوا عليه ما لم يقصد إليه ، وأن يستخرجوا منه جزئيات في علوم الطب والكيمياء والفلك وما إليها . . كأنما ليعظموه بهذا ويكبروه . .
إن الحقائق القرآنية حقائق نهائية قاطعة مطلقة . . أما ما يصل إليه البحث الإنساني - أيا كانت الأدوات المتاحة له- فهي حقائق غير نهائية ولا قاطعة ، وهي مقيدة بحدود تجاربه وظروف هذه التجارب وأدواتها ، فمن الخطأ المنهجي -بحكم المنهج العلمي الإنساني ذاته- أن نعلق الحقائق النهائية القرآنية بحقائق غير نهائية ، وهي كل ما يصل إليه العلم البشري .
هذا بالقياس إلى الحقائق العلمية ، والأمر أوضح بالقياس إلى النظريات والفروض التي تسمى " علمية " . . فهي قابلة دائما للتغيير والتعديل والنقص والإضافة ، بل قابلة لأن تنقلب رأسا على عقب ، بظهور أداة كشف جديدة ، أو بتفسير جديد لمجموعة الملاحظات القديمة .
وكل محاولة لتعليق الإشارات القرآنية العامة بما يصل إليه العلم من نظريات [ ص: 267 ] متجددة متغيرة -أو حتى بحقائق علمية ليست مطلقة كما أسلفنا- تحتوي أولا على خطأ منهجي أساسي ، كما أنها تنطوي على معان ثلاثة ، كلها لا يليق بجلال القرآن الكريم .
الأولى : هي الهزيمة الداخلية التي تخيل لبعض الناس أن العلم هو المهيمن والقرآن تابع ، ومن هنا يحاولون تثبيت القرآن بالعلم ، أو الاستدلال له من العلم ، على حين أن القرآن كتاب كامل في موضوعه ، ونهائي في حقائقه ، والعلم لا يزال في موضوعه ينقض اليوم ما أثبته بالأمس ، وكل ما يصل إليه غير نهائي ولا مطلق ; لأنه مقيد بوسط الإنسان وعقله وأدواته ، وكلها ليس من طبيعتها أن تعطي حقيقة واحدة نهائية مطلقة .
والثانية : سوء فهم طبيعة القرآن ووظيفته . وهي أنه حقيقة نهائية مطلقة تعالج بناء الإنسان بناء يتفق -بقدر ما تسمح طبيعة الإنسان النسبية- مع طبيعة هذا الوجود وناموسه الإلهي ، حتى لا يصطدم الإنسان بالكون من حوله ، بل يصادقه ويعرف بعض أسراره ، ويستخدم بعض نواميسه من خلافته ، نواميسه التي تكشف له بالنظر والبحث والتجريب والتطبيق ، وفق ما يهديه إليه عقله الموهوب له ليعمل لا ليتسلم المعلومات المادية جاهزة .
والثالثة : هي التأويل المستمر -مع التمحل والتكلف- لنصوص القرآن كي نحملها ونلهث بها وراء الفروض والنظريات التي لا تثبت ولا تستقر ، وكل يوم يجد فيها جديد “ . "