nindex.php?page=treesubj&link=32450_28741الإعجاز اللغوي
لقد مارس أهل العربية فنونها منذ نشأت لغتهم حتى شبت وترعرعت ، وأصبحت في عنفوان شبابها عملاقا معطاء ، واستظهروا شعرها ونثرها ، وحكمها وأمثالها ، وطاوعهم البيان في أساليب ساحرة ، حقيقة ومجازا ، إيجازا وإطنابا ، حديثا ومقالا ، وكلما ارتفعت اللغة وتسامت ، وقفت على أعتاب لغة القرآن في إعجازه اللغوي كسيرة صاغرة ، تنحني أمام أسلوبه إجلالا وخشية ، وما عهد تاريخ العربية حقبة من أحقاب التاريخ . ازدهرت فيها اللغة إلا وتطامن أعلامها وأساتذتها أمام البيان القرآني اعترافا بسموه ، وإدراكا لأسراره ، ولا عجب " فتلك سنة الله في آياته التي يصنعها بيديه ، لا يزيدك العلم بها والوقوف على أسرارها إلا إذعانا لعظمتها ، وثقة بالعجز عنها ، ولا كذلك صناعات الخلق ، فإن فضل العلم بها يمكنك منها ويفتح لك الطريق إلى الزيادة عليها ، ومن هنا كان سحرة
فرعون هم أول المؤمنين برب
موسى وهارون “ .
والذين تملكهم الغرور ، وأصابتهم لوثة الإعجاب بالنفس ، وحاولوا التطاول على أسلوب القرآن ، حاكوه بكلام فارغ ، أشبه بالسخف والتفاهة والهذيان والعبث . وارتدوا على أعقابهم خاسرين ، كالمتنبئين وأشباه المتنبئين ، من الدجالين والمغرورين .
وقد شهد التاريخ فرسانا للعربية خاضوا غمارها وأحرزوا قصب السبق فيها ، فما استطاع أحد منهم أن تحدثه نفسه بمعارضة القرآن ، إلا باء بالخزي والهوان ، بل إن التاريخ سجل هذا العجز على اللغة ، في أزهى عصورها ، وأرقى أدوارها ، حين نزل هذا القرآن ، وقد بلغت العربية أشدها ، وتوافرت لها عناصر الكمال والتهذيب في المجامع العربية وأسواقها ، ووقف القرآن من أصحاب هذه اللغة موقف التحدي . في صور شتى ، متنزلا معهم إلى الأخف من عشر سور إلى
[ ص: 258 ] سورة إلى حديث مثله ، فما استطاع أحد أن يباريه أو يجاريه منهم ، وهم أهل الأنفة والعزة والإباء . ولو وجدوا قدرة على محاكاة شيء منه ، أو وجدوا ثغرة فيه . لما ركبوا المركب الصعب أمام هذا التحدي ، بإشهار السيوف ، بعد أن عجز البيان ، وتحطمت الأقلام .
وتتابعت القرون لدى أهل العربية ، وظل الإعجاز القرآني اللغوي راسخا كالطود الشامخ ، تذل أمامه الأعناق خاضعة ، لا تفكر في أن تدانيه ، فضلا عن أن تساميه ; لأنها أشد عجزا وأقل طمعا في هذا المطلب العزيز . وسيظل الأمر كذلك إلى يوم الدين .
ولا يستطيع أحد أن يدعي عدم الحاجة إلى معارضة القرآن ، وإن كان ذلك ممكنا ، فإن التاريخ يشهد بأنه قد توافرت الدواعي الملحة لدى القوم لمعارضة القرآن ، حيث وقفوا من الرسالة وصاحبها موقف الجحود والنكران ، واستثار القرآن حميتهم ، وسفه أحلامهم ، وتحداهم تحديا سافرا يثير حفيظة الجبان الرعديد مع ما كانوا عليه من أنفة وعزة . فسلكوا مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- مسالك شتى ، ساوموه بالمال والملك ليكف عن دعوته ، وقاطعوه ومن معه حتى يموتوا جوعا . واتهموه بالسحر والجنون ، وتآمروا على حبسه ، أو قتله أو إخراجه . وقد دلهم على الطريق الوحيد لإسكاته وهو أن يجيئوه بكلام مثل الذي جاءهم به ، " ألم يكن ذلك أقرب إليهم وأبقى عليهم لو كان أمره في يدهم ؟ ولكنهم طرقوا الأبواب كلها إلا هذا الباب ، وكان القتل والأسر والفقر والذل وكل أولئك أهون عليهم من ركوب هذا الطريق الوعر الذي دلهم عليه ، فأي شيء يكون العجز إن لم يكن هذا هو العجز " ؟
والقرآن الذي عجز
العرب عن معارضته لم يخرج عن سنن كلامهم . ألفاظا وحروفا ، تركيبا وأسلوبا ، ولكنه في اتساق حروفه ، وطلاوة عبارته ، وحلاوة أسلوبه ، وجرس آياته ، ومراعاة مقتضيات الحال في ألوان البيان ، في الجمل الاسمية والفعلية ، وفي النفي والإثبات ، وفي الذكر والحذف ، وفي التعريف والتنكير ، وفي التقديم والتأخير ، وفي الحقيقة والمجاز ، وفي الإطناب والإيجاز . وفي العموم والخصوص ، وفي الإطلاق والتقييد ، وفي النص والفحوى ، وهلم جرا ، ولكن القرآن في هذا ونظائره بلغ الذروة التي تعجز أمامها القدرة اللغوية لدى البشر .
[ ص: 259 ] عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس :
" أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقرأ عليه القرآن ، فكأنه رق له ، فبلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه فقال له : يا عم : إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالا ليعطوكه ، فإنك أتيت محمدا لتتعرض لما قبله . قال : قد علمت قريش أني من أكثرها مالا ، قال : فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له وكاره ، قال : وماذا أقول ؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني لا برجزه ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقوله شيئا من هذا ، ووالله إن لقوله الذي يقول لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ، قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أفكر ، فلما فكر قال : هذا سحر يؤثر ، يأثره عن غيره ، فنزلت : nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذرني ومن خلقت وحيدا .
وحيثما قلب الإنسان نظره في القرآن وجد أسرارا من الإعجاز اللغوي .
يجد ذلك في نظامه الصوتي البديع بجرس حروفه ، حين يسمع حركاتها وسكناتها ، ومداتها وغناتها ، وفواصلها ومقاطعها ، فلا تمل أذنه السماع ، بل لا تفتأ تطلب منه المزيد .
ويجد ذلك في ألفاظه التي تفي بحق كل معنى في موضعه ، لا ينبو منها لفظ يقال إنه زائد ، ولا يعثر الباحث على موضع يقول إنه يحتاج إلى إثبات لفظ ناقص .
ويجد ذلك في ضروب الخطاب التي يتقارب فيها أصناف الناس في الفهم بما تطيقه عقولهم ، فيراها كل واحد منهم مقدرة على مقياس عقله ووفق حاجته ، من العامة والخاصة
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر .
ويجد ذلك في إقناع العقل وإمتاع العاطفة ، بما يفي بحاجة النفس البشرية تفكيرا ووجدانا في تكافؤ واتزان ، فلا تطغى قوة التفكير على قوة الوجدان ، ولا قوة الوجدان على قوة التفكير .
[ ص: 260 ] وهكذا حيثما قلب النظر قامت أمامه حجة القرآن في التحدي والإعجاز .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبو بكر الباقلاني : " والذي يشتمل عليه بديع نظمه المتضمن للإعجاز وجوه : منها ما يرجع إلى الجملة ، وذلك أن نظم القرآن على تصرف وجوهه واختلاف مذاهبه خارج عن المعهود من نظام جميع كلامهم ، ومباين للمألوف من ترتيب خطابهم ، وله أسلوب يختص به ويتميز في تصرفه عن أساليب الكلام المعتاد ، وذلك أن الطرق التي يتقيد بها الكلام البديع المنظوم ، تنقسم إلى أعاريض الشعر على اختلاف أنواعه ، ثم إلى أنواع الكلام الموزون غير المقفى ، ثم إلى أصناف الكلام المعدل المسجع ، ثم إلى معدل موزون غير مسجع ، ثم إلى ما يرسل إرسالا فتطلب فيه الإصابة والإفادة وإفهام المعاني المعترضة على وجه بديع ، وترتيب لطيف ، وإن لم يكن معتدلا في وزنه ، وذلك شبيه بجملة الكلام الذي لا يتعمل يتصنع له ، وقد علمنا أن القرآن خارج عن هذه الوجوه ، ومباين لهذه الطرق ، فليس من باب السجع ، وليس من قبيل الشعر ، وتبين بخروجه عن أصناف كلامهم ، وأساليب خطابهم أنه خارج عن العادة ، وأنه معجز ، وهذه خصوصية ترجع إلى جملة القرآن ، وتميز حاصل في جميعه . .
وليس
للعرب كلام مشتمل على هذه الفصاحة والغرابة والتصرف البديع ، والمعاني اللطيفة ، والفوائد الغزيرة ، والحكم الكثيرة ، والتناسب في البلاغة ، والتشابه في البراعة على هذا الطول - وعلى هذا القدر ، وإنما تنسب إلى حكيمهم كلمات معدودة ، وألفاظ قليلة ، وإلى شاعرهم قصائد محصورة يقع فيها الاختلال والاختلاف ، والتكلف والتعسف ، وقد جاء القرآن على كثرته وطوله متناسبا في الفصاحة على ما وصفه الله عز من قائل :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى [ ص: 261 ] ذكر الله ،
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . فأخبر أن كلام الآدمي إن امتد وقع فيه التفاوت وبان عليه الاختلال . .
وعجيب نظم القرآن وبديع تأليفه لا يتفاوت ولا يتباين على ما يتصرف إليه من الوجوه التي يتصرف فيها - من ذكر قصص ومواعظ ، واحتجاج وحكم وأحكام ، وإعذار وإنذار ، ووعد ووعيد ، وتبشير وتخويف ، وأخلاق كريمة ، وشيم رفيعة ، وسير مأثورة ، وغير ذلك من الوجوه التي يشتمل عليها ، ونجد كلام البليغ الكامل ، والشاعر المفلق ، والخطيب المصقع يختلف على حسب اختلاف هذه الأمور ، فمن الشعراء من يجود في المدح دون الهجو ، ومنهم من يبرز في الهجو دون المدح ، ومنهم من يسبق في التقريظ دون التأبين ، ومنهم من يقرب في وصف الإبل والخيل ، أو سير الليل ، أو وصف الحرب ، أو وصف الروض ، أو وصف الخمر ، أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعر ويتداوله الكلام . ولذلك ضرب المثل
بامرئ القيس إذا ركب . والنابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب ، ومثل ذلك يختلف في الخطب والرسائل وسائر أجناس الكلام . .
وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التي قدمنا ذكرها على حد واحد في حسن النظم ، وبديع التأليف والوصف ، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا . . فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر “ .
وإذا عجز المتناهون في الفصاحة ، ومعرفة وجوه الخطاب ، وطرق البلاغة ، وفنون القول ، وقامت الحجة عليهم ، فقد لزمت الحجة من دونهم من العرب ، ولزمت غيرهم من الأعاجم ; لأن تحقق عجز من استكمل معرفة تصاريف الخطاب ، ووجوه الكلام ، وأساليب البيان ; يقطع بعجز من دونه من باب أولى .
"
nindex.php?page=treesubj&link=32450_28741الْإِعْجَازُ اللُّغَوِيُّ
لَقَدْ مَارَسَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فُنُونَهَا مُنْذُ نَشَأَتْ لُغَتُهُمْ حَتَّى شَبَّتْ وَتَرَعْرَعَتْ ، وَأَصْبَحَتْ فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِهَا عِمْلَاقًا مِعْطَاءً ، وَاسْتَظْهَرُوا شِعْرَهَا وَنَثْرَهَا ، وَحِكَمَهَا وَأَمْثَالَهَا ، وَطَاوَعَهُمُ الْبَيَانُ فِي أَسَالِيبَ سَاحِرَةٍ ، حَقِيقَةً وَمَجَازًا ، إِيجَازًا وَإِطْنَابًا ، حَدِيثًا وَمَقَالًا ، وَكُلَّمَا ارْتَفَعَتِ اللُّغَةُ وَتَسَامَتْ ، وَقَفَتْ عَلَى أَعْتَابِ لُغَةِ الْقُرْآنِ فِي إِعْجَازِهِ اللُّغَوِيِّ كَسِيرَةً صَاغِرَةً ، تَنْحَنِي أَمَامَ أُسْلُوبِهِ إِجْلَالًا وَخَشْيَةً ، وَمَا عَهِدَ تَارِيخُ الْعَرَبِيَّةِ حِقْبَةً مِنْ أَحْقَابِ التَّارِيخِ . ازْدَهَرَتْ فِيهَا اللُّغَةُ إِلَّا وَتَطَامَنَ أَعْلَامُهَا وَأَسَاتِذَتُهَا أَمَامَ الْبَيَانِ الْقُرْآنِيِّ اعْتِرَافًا بِسُمُوِّهِ ، وَإِدْرَاكًا لِأَسْرَارِهِ ، وَلَا عَجَبَ " فَتِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي آيَاتِهِ الَّتِي يَصْنَعُهَا بِيَدَيْهِ ، لَا يَزِيدُكَ الْعِلْمُ بِهَا وَالْوُقُوفُ عَلَى أَسْرَارِهَا إِلَّا إِذْعَانًا لِعَظَمَتِهَا ، وَثِقَةً بِالْعَجْزِ عَنْهَا ، وَلَا كَذَلِكَ صِنَاعَاتُ الْخَلْقِ ، فَإِنَّ فَضْلَ الْعِلْمِ بِهَا يُمَكِّنُكَ مِنْهَا وَيَفْتَحُ لَكَ الطَّرِيقَ إِلَى الزِّيَادَةِ عَلَيْهَا ، وَمِنْ هُنَا كَانَ سَحَرَةُ
فِرْعَوْنَ هُمْ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِرَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ “ .
وَالَّذِينَ تَمَلَّكُهُمُ الْغُرُورُ ، وَأَصَابَتْهُمْ لَوْثَةُ الْإِعْجَابِ بِالنَّفْسِ ، وَحَاوَلُوا التَّطَاوُلَ عَلَى أُسْلُوبِ الْقُرْآنِ ، حَاكُوهُ بِكَلَامٍ فَارِغٍ ، أَشْبَهَ بِالسُّخْفِ وَالتَّفَاهَةِ وَالْهَذَيَانِ وَالْعَبَثِ . وَارْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ ، كَالْمُتَنَبِّئِينَ وَأَشْبَاهِ الْمُتَنَبِّئِينَ ، مِنَ الدَّجَّالِينَ وَالْمَغْرُورِينَ .
وَقَدْ شَهِدَ التَّارِيخُ فُرْسَانًا لِلْعَرَبِيَّةِ خَاضُوا غِمَارَهَا وَأَحْرَزُوا قَصَبَ السَّبْقِ فِيهَا ، فَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ تُحَدِّثَهُ نَفْسُهُ بِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ ، إِلَّا بَاءَ بِالْخِزْيِ وَالْهَوَانِ ، بَلْ إِنَّ التَّارِيخَ سَجَّلَ هَذَا الْعَجْزَ عَلَى اللُّغَةِ ، فِي أَزْهَى عُصُورِهَا ، وَأَرْقَى أَدْوَارِهَا ، حِينَ نَزَلَ هَذَا الْقُرْآنُ ، وَقَدْ بَلَغَتِ الْعَرَبِيَّةُ أَشُدَّهَا ، وَتَوَافَرَتْ لَهَا عَنَاصِرُ الْكَمَالِ وَالتَّهْذِيبِ فِي الْمَجَامِعِ الْعَرَبِيَّةِ وَأَسْوَاقِهَا ، وَوَقَفَ الْقُرْآنُ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ اللُّغَةِ مَوْقِفَ التَّحَدِّي . فِي صُوَرٍ شَتَّى ، مُتَنَزِّلًا مَعَهُمْ إِلَى الْأَخَفِّ مِنْ عَشْرِ سُوَرٍ إِلَى
[ ص: 258 ] سُورَةٍ إِلَى حَدِيثٍ مِثْلِهِ ، فَمَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ أَنْ يُبَارِيَهُ أَوْ يُجَارِيَهُ مِنْهُمْ ، وَهُمْ أَهْلُ الْأَنَفَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْإِبَاءِ . وَلَوْ وَجَدُوا قُدْرَةً عَلَى مُحَاكَاةِ شَيْءٍ مِنْهُ ، أَوْ وَجَدُوا ثَغْرَةً فِيهِ . لَمَا رَكِبُوا الْمَرْكَبَ الصَّعْبَ أَمَامَ هَذَا التَّحَدِّي ، بِإِشْهَارِ السُّيُوفِ ، بَعْدَ أَنْ عَجَزَ الْبَيَانُ ، وَتَحَطَّمَتِ الْأَقْلَامُ .
وَتَتَابَعَتِ الْقُرُونُ لَدَى أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ، وَظَلَّ الْإِعْجَازُ الْقُرْآنِيُّ اللُّغَوِيُّ رَاسِخًا كَالطَّوْدِ الشَّامِخِ ، تَذِلُّ أَمَامَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً ، لَا تُفَكِّرُ فِي أَنْ تُدَانِيَهُ ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَسَامِيَهُ ; لِأَنَّهَا أَشَدُّ عَجْزًا وَأَقَلُّ طَمَعًا فِي هَذَا الْمَطْلَبِ الْعَزِيزِ . وَسَيَظَلُّ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
وَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدَّعِيَ عَدَمَ الْحَاجَةِ إِلَى مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا ، فَإِنَّ التَّارِيخَ يَشْهَدُ بِأَنَّهُ قَدْ تَوَافَرَتِ الدَّوَاعِي الْمُلِحَّةُ لَدَى الْقَوْمِ لِمُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ ، حَيْثُ وَقَفُوا مِنَ الرِّسَالَةِ وَصَاحِبِهَا مَوْقِفَ الْجُحُودِ وَالنُّكْرَانِ ، وَاسْتَثَارَ الْقُرْآنُ حَمِيَّتَهُمْ ، وَسَفَّهَ أَحْلَامَهُمْ ، وَتَحَدَّاهُمْ تَحَدِّيًا سَافِرًا يُثِيرُ حَفِيظَةَ الْجَبَانِ الرِّعْدِيدِ مَعَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَفَةٍ وَعِزَّةٍ . فَسَلَكُوا مَعَ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَسَالِكَ شَتَّى ، سَاوَمُوهُ بِالْمَالِ وَالْمُلْكِ لِيَكُفَّ عَنْ دَعْوَتِهِ ، وَقَاطَعُوهُ وَمَنْ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتُوا جُوعًا . وَاتَّهَمُوهُ بِالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ ، وَتَآمَرُوا عَلَى حَبْسِهِ ، أَوْ قَتْلِهِ أَوْ إِخْرَاجِهِ . وَقَدْ دَلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَحِيدِ لِإِسْكَاتِهِ وَهُوَ أَنْ يَجِيئُوهُ بِكَلَامٍ مِثْلِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ ، " أَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ أَقْرَبَ إِلَيْهِمْ وَأَبْقَى عَلَيْهِمْ لَوْ كَانَ أَمْرُهُ فِي يَدِهِمْ ؟ وَلَكِنَّهُمْ طَرَقُوا الْأَبْوَابَ كُلَّهَا إِلَّا هَذَا الْبَابَ ، وَكَانَ الْقَتْلُ وَالْأَسْرُ وَالْفَقْرُ وَالذُّلُّ وَكُلُّ أُولَئِكَ أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ مِنْ رُكُوبِ هَذَا الطَّرِيقِ الْوَعْرِ الَّذِي دَلَّهُمْ عَلَيْهِ ، فَأَيُّ شَيْءٍ يَكُونُ الْعَجْزَ إِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْعَجْزَ " ؟
وَالْقُرْآنُ الَّذِي عَجَزَ
الْعَرَبُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ سُنَنِ كَلَامِهِمْ . أَلْفَاظًا وَحُرُوفًا ، تَرْكِيبًا وَأُسْلُوبًا ، وَلَكِنَّهُ فِي اتِّسَاقِ حُرُوفِهِ ، وَطَلَاوَةِ عِبَارَتِهِ ، وَحَلَاوَةِ أُسْلُوبِهِ ، وَجَرْسِ آيَاتِهِ ، وَمُرَاعَاةِ مُقْتَضَيَاتِ الْحَالِ فِي أَلْوَانِ الْبَيَانِ ، فِي الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ ، وَفِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، وَفِي الذِّكْرِ وَالْحَذْفِ ، وَفِي التَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ ، وَفِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَفِي الْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ . وَفِي الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ ، وَفِي الْإِطْلَاقِ وَالتَّقْيِيدِ ، وَفِي النَّصِّ وَالْفَحْوَى ، وَهَلُمَّ جَرًّا ، وَلَكِنَّ الْقُرْآنَ فِي هَذَا وَنَظَائِرِهِ بَلَغَ الذِّرْوَةَ الَّتِي تَعْجِزُ أَمَامَهَا الْقُدْرَةُ اللُّغَوِيَّةُ لَدَى الْبَشَرِ .
[ ص: 259 ] عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ :
" أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ ، فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ ، فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ : يَا عَمُّ : إِنَّ قَوْمَكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالًا لِيُعْطُوكَهُ ، فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَتَعَرَّضَ لِمَا قِبَلَهُ . قَالَ : قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالًا ، قَالَ : فَقُلْ فِيهِ قَوْلًا يَبْلُغُ قَوْمُكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ وَكَارِهٌ ، قَالَ : وَمَاذَا أَقُولُ ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمُ بِالشِّعْرِ مِنِّي لَا بِرَجَزِهِ وَلَا بِقَصِيدِهِ وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا ، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ لَحَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً ، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ ، مُغْدِقٌ أَسْفَلَهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى ، وَإِنَّهُ لَيُحَطِّمُ مَا تَحْتَهُ ، قَالَ : وَاللَّهِ لَا يَرْضَى قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ ، قَالَ : فَدَعْنِي حَتَّى أُفَكِّرَ ، فَلَمَّا فَكَّرَ قَالَ : هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، يَأْثَرُهُ عَنْ غَيْرِهِ ، فَنَزَلَتْ : nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=11ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا .
وَحَيْثُمَا قَلَّبَ الْإِنْسَانُ نَظَرَهُ فِي الْقُرْآنِ وَجَدَ أَسْرَارًا مِنَ الْإِعْجَازِ اللُّغَوِيِّ .
يَجِدُ ذَلِكَ فِي نِظَامِهِ الصَّوْتِيِّ الْبَدِيعِ بِجَرْسِ حُرُوفِهِ ، حِينَ يَسْمَعُ حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا ، وَمَدَّاتِهَا وَغُنَّاتِهَا ، وَفَوَاصِلَهَا وَمَقَاطِعَهَا ، فَلَا تَمَلُّ أُذُنُهُ السَّمَاعَ ، بَلْ لَا تَفْتَأُ تَطْلُبُ مِنْهُ الْمَزِيدَ .
وَيَجِدُ ذَلِكَ فِي أَلْفَاظِهِ الَّتِي تَفِي بِحَقِّ كُلِّ مَعْنًى فِي مَوْضِعِهِ ، لَا يَنْبُو مِنْهَا لَفْظٌ يُقَالُ إِنَّهُ زَائِدٌ ، وَلَا يَعْثُرُ الْبَاحِثُ عَلَى مَوْضِعٍ يَقُولُ إِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى إِثْبَاتِ لَفْظٍ نَاقِصٍ .
وَيَجِدُ ذَلِكَ فِي ضُرُوبِ الْخِطَابِ الَّتِي يَتَقَارَبُ فِيهَا أَصْنَافُ النَّاسِ فِي الْفَهْمِ بِمَا تُطِيقُهُ عُقُولُهُمْ ، فَيَرَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقَدَّرَةً عَلَى مِقْيَاسِ عَقْلِهِ وَوَفْقِ حَاجَتِهِ ، مِنَ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=54&ayano=17وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ .
وَيَجِدُ ذَلِكَ فِي إِقْنَاعِ الْعَقْلِ وَإِمْتَاعِ الْعَاطِفَةِ ، بِمَا يَفِي بِحَاجَةِ النَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ تَفْكِيرًا وَوِجْدَانًا فِي تَكَافُؤٍ وَاتِّزَانٍ ، فَلَا تَطْغَى قُوَّةُ التَّفْكِيرِ عَلَى قُوَّةِ الْوِجْدَانِ ، وَلَا قُوَّةُ الْوِجْدَانِ عَلَى قُوَّةِ التَّفْكِيرِ .
[ ص: 260 ] وَهَكَذَا حَيْثُمَا قَلَّبَ النَّظَرَ قَامَتْ أَمَامَهُ حُجَّةُ الْقُرْآنِ فِي التَّحَدِّي وَالْإِعْجَازِ .
قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=12604الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ : " وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ بَدِيعُ نَظْمِهِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْإِعْجَازِ وُجُوهٌ : مِنْهَا مَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّ نَظْمَ الْقُرْآنِ عَلَى تَصَرُّفِ وُجُوهِهِ وَاخْتِلَافِ مَذَاهِبِهِ خَارِجٌ عَنِ الْمَعْهُودِ مِنْ نِظَامِ جَمِيعِ كَلَامِهِمْ ، وَمُبَايِنٌ لِلْمَأْلُوفِ مِنْ تَرْتِيبِ خِطَابِهِمْ ، وَلَهُ أُسْلُوبٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَيَتَمَيَّزُ فِي تَصَرُّفِهِ عَنْ أَسَالِيبِ الْكَلَامِ الْمُعْتَادِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الطُّرُقَ الَّتِي يَتَقَيَّدُ بِهَا الْكَلَامُ الْبَدِيعُ الْمَنْظُومُ ، تَنْقَسِمُ إِلَى أَعَارِيضِ الشِّعْرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ ، ثُمَّ إِلَى أَنْوَاعِ الْكَلَامِ الْمَوْزُونِ غَيْرِ الْمُقَفَّى ، ثُمَّ إِلَى أَصْنَافِ الْكَلَامِ الْمُعَدَّلِ الْمُسَجَّعِ ، ثُمَّ إِلَى مُعَدَّلٍ مَوْزُونٍ غَيْرِ مُسَجَّعٍ ، ثُمَّ إِلَى مَا يُرْسَلُ إِرْسَالًا فَتَطَلَّبُ فِيهِ الْإِصَابَةُ وَالْإِفَادَةُ وَإِفْهَامُ الْمَعَانِي الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى وَجْهٍ بَدِيعٍ ، وَتَرْتِيبٍ لَطِيفٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدِلًا فِي وَزْنِهِ ، وَذَلِكَ شَبِيهٌ بِجُمْلَةِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَتَعَمَّلُ يَتَصَنَّعُ لَهُ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْقُرْآنَ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ ، وَمُبَايِنٌ لِهَذِهِ الطُّرُقِ ، فَلَيْسَ مِنْ بَابِ السَّجْعِ ، وَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الشِّعْرِ ، وَتَبَيَّنَ بِخُرُوجِهِ عَنْ أَصْنَافِ كَلَامِهِمْ ، وَأَسَالِيبِ خِطَابِهِمْ أَنَّهُ خَارِجٌ عَنِ الْعَادَةِ ، وَأَنَّهُ مُعْجِزٌ ، وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ تَرْجِعُ إِلَى جُمْلَةِ الْقُرْآنِ ، وَتَمَيُّزٌ حَاصِلٌ فِي جَمِيعِهِ . .
وَلَيْسَ
لِلْعَرَبِ كَلَامٌ مُشْتَمِلٌ عَلَى هَذِهِ الْفَصَاحَةِ وَالْغَرَابَةِ وَالتَّصَرُّفِ الْبَدِيعِ ، وَالْمَعَانِي اللَّطِيفَةِ ، وَالْفَوَائِدِ الْغَزِيرَةِ ، وَالْحِكَمِ الْكَثِيرَةِ ، وَالتَّنَاسُبِ فِي الْبَلَاغَةِ ، وَالتَّشَابُهِ فِي الْبَرَاعَةِ عَلَى هَذَا الطُّولِ - وَعَلَى هَذَا الْقَدْرِ ، وَإِنَّمَا تُنْسَبُ إِلَى حَكِيمِهِمْ كَلِمَاتٌ مَعْدُودَةٌ ، وَأَلْفَاظٌ قَلِيلَةٌ ، وَإِلَى شَاعِرِهِمْ قَصَائِدُ مَحْصُورَةٌ يَقَعُ فِيهَا الِاخْتِلَالُ وَالِاخْتِلَافُ ، وَالتَّكَلُّفُ وَالتَّعَسُّفُ ، وَقَدْ جَاءَ الْقُرْآنُ عَلَى كَثْرَتِهِ وَطُولِهِ مُتَنَاسِبًا فِي الْفَصَاحَةِ عَلَى مَا وَصَفَهُ اللَّهُ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ :
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=23اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى [ ص: 261 ] ذِكْرِ اللَّهُ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=4&ayano=82وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا . فَأَخْبَرَ أَنَّ كَلَامَ الْآدَمِيِّ إِنِ امْتَدَّ وَقَعَ فِيهِ التَّفَاوُتُ وَبَانَ عَلَيْهِ الِاخْتِلَالُ . .
وَعَجِيبُ نَظْمِ الْقُرْآنِ وَبَدِيعِ تَأْلِيفِهِ لَا يَتَفَاوَتُ وَلَا يَتَبَايَنُ عَلَى مَا يَتَصَرَّفُ إِلَيْهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَتَصَرَّفُ فِيهَا - مِنْ ذِكْرِ قِصَصِ وَمَوَاعِظَ ، وَاحْتِجَاجٍ وَحِكَمٍ وَأَحْكَامٍ ، وَإِعْذَارٍ وَإِنْذَارٍ ، وَوَعْدٍ وَوَعِيدٍ ، وَتَبْشِيرٍ وَتَخْوِيفٍ ، وَأَخْلَاقٍ كَرِيمَةٍ ، وَشِيَمٍ رَفِيعَةٍ ، وَسِيَرٍ مَأْثُورَةٍ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهَا ، وَنَجِدُ كَلَامَ الْبَلِيغِ الْكَامِلِ ، وَالشَّاعِرِ الْمُفَلَّقِ ، وَالْخَطِيبِ الْمِصْقَعِ يَخْتَلِفُ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ هَذِهِ الْأُمُورِ ، فَمِنَ الشُّعَرَاءِ مَنْ يُجَوِّدُ فِي الْمَدْحِ دُونَ الْهَجْوِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَبْرُزُ فِي الْهَجْوِ دُونَ الْمَدْحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْبِقُ فِي التَّقْرِيظِ دُونَ التَّأْبِينِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقْرِبُ فِي وَصْفِ الْإِبِلِ وَالْخَيْلِ ، أَوْ سَيْرِ اللَّيْلِ ، أَوْ وَصْفِ الْحَرْبِ ، أَوْ وَصْفِ الرَّوْضِ ، أَوْ وَصْفِ الْخَمْرِ ، أَوِ الْغَزَلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الشِّعْرُ وَيَتَدَاوَلُهُ الْكَلَامُ . وَلِذَلِكَ ضُرِبَ الْمَثَلُ
بِامْرِئِ الْقَيْسِ إِذَا رَكِبَ . وَالنَّابِغَةِ إِذَا رَهِبَ ، وَبِزُهَيْرٍ إِذَا رَغِبَ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي الْخُطَبِ وَالرَّسَائِلِ وَسَائِرِ أَجْنَاسِ الْكَلَامِ . .
وَقَدْ تَأَمَّلْنَا نَظْمَ الْقُرْآنِ فَوَجَدْنَا جَمِيعَ مَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ فِي حُسْنِ النَّظْمِ ، وَبَدِيعِ التَّأْلِيفِ وَالْوَصْفِ ، لَا تَفَاوُتَ فِيهِ وَلَا انْحِطَاطَ عَنِ الْمَنْزِلَةِ الْعُلْيَا . . فَعَلِمْنَا بِذَلِكَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْبَشَرُ “ .
وَإِذَا عَجَزَ الْمُتَنَاهَوْنَ فِي الْفَصَاحَةِ ، وَمَعْرِفَةِ وُجُوهِ الْخِطَابِ ، وَطُرُقِ الْبَلَاغَةِ ، وَفُنُونِ الْقَوْلِ ، وَقَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ ، فَقَدْ لَزِمَتِ الْحُجَّةُ مِنْ دُونِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ ، وَلَزِمَتْ غَيْرَهُمْ مِنَ الْأَعَاجِمِ ; لِأَنَّ تَحَقُّقَ عَجْزِ مَنِ اسْتَكْمَلَ مَعْرِفَةَ تَصَارِيفِ الْخِطَابِ ، وَوُجُوهِ الْكَلَامِ ، وَأَسَالِيبِ الْبَيَانِ ; يَقْطَعُ بِعَجْزِ مَنْ دُونَهُ مِنْ بَابٍ أَوْلَى .
"