( ويستثنى ) من النجس ( ميتة لا دم لها سائل ) عن موضع جرحها إما بأن لا يكون لها دم أصلا أو لها دم لا يجري كالوزغ والزنبور والخنفساء والذباب [ ص: 81 ] ( فلا تنجس مائعا ) كزيت وخل ، وكل رطب بموتها فيه ( على المشهور ) لمشقة الاحتراز عنها ، ولخبر البخاري { إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه ، فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء زاد أبو داود وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء } أمر بغمسه وغمسه يفضي إلى موته ، فلو نجس لما أمر به ، وقيس بالذباب ما في معناه من كل ميتة لا يسيل دمها ، وخرج ما لها دم سائل كحية وضفدع ، ولو شككنا في كونها مما يسيل دمها امتحن بجرح شيء من جنسها للحاجة كما قاله الغزالي في فتاويه ، والثاني تنجسه كغيرها ، فإن غيرته الميتة لكثرتها وإن زال تغيره بعد ذلك من المائع أو الماء القليل مع بقائه على قلته أو طرحت فيه بعد موتها نجسته وإن كانت مما نشؤه منه ، أما طرحها فيه حية وإن لم تكن مما نشؤه منه فغير ضار كما لو وقعت بنفسها حيث لا تغير منها .
وحاصل المعتمد في ذلك كما اقتضاه كلام البهجة منطوقا ومفهوما ، واعتمده الوالد رحمه الله تعالى وأفتى به أنها إن طرحت حية لم يضر سواء أكان نشؤها منه أم لا وسواء أماتت فيه بعد ذلك أم لا إن لم تغيره وإن طرحت ميتة [ ص: 82 ] ضر سواء أكان نشؤها منه أم لا ، وأن وقوعها بنفسها لا يضر مطلقا فيعفى عنه كما يعفى عما يقع بالريح ، وإن كان ميتا ولم يكن نشؤه منه إن لم تغير ، وليس الصبي ولو غير مميز والبهيمة كالريح كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى أيضا ; لأن لهما اختيارا في الجملة ، ولو تعدد الواقع من ذلك فأخرج أحدها على رأس عود مثلا فسقط منه بغير اختياره لم تنجس وهل له إخراج الباقي به ؟ الأوجه كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى ، نعم ; لأن ما على رأس العود محكوم بطهارته ; لأنه جزء من المائع انفصل منه ثم عاد إليه ، ولو وضع خرقة على إناء وصفى بها هذا المائع الذي وقعت فيه الميتة بأن صبه عليها لم يضر ; لأنه يضع المائع وفيه الميتة متصلة به ثم يتصفى منها المائع وتبقى هي منفردة ، لا أنه طرح الميتة في المائع ، كما أفتى بذلك شيخ الإسلام صالح البلقيني .
وها هنا تنبيه لا بأس بالاعتناء بمعرفته ، وهو أن ما لا نفس له سائلة إذا اغتذي بالدم كالحلم الكبار التي توجد في الإبل ثم وقع في الماء لا ينجسه بمجرد الوقوع ، فإن مكث في الماء حتى انشق جوفه وخرج منه الدم احتمل أن ينجس ; لأنه إنما عفا عن الحيوان دون الدم ، ويحتمل أنه يعفى عنه مطلقا وهو الأوجه كما يعفى عما في بطنه من الروث إذا ذاب واختلط بالماء ولم يغير ، وكذلك ما على منفذه من النجاسة ، وأفاد في الخادم أن غير الذباب لا يلحق به في ندب الغمس لانتفاء المعنى الذي لأجله طلب غمس الذباب وهو مقاومة الدواء الداء ، بل يحرم غمس النحل ، ومحل جواز الغمس أو الاستحباب إذا لم يغلب على الظن التغير به وإلا حرم لما فيه من إضاعة المال والميتة يجوز فيها التخفيف والتشديد ( وكذا في قول ) ( نجس لا يدركه طرف ) أي بصر لقلته كنقطة بول وما يعلق برجل الذباب فيعفي عن ذلك في الماء وغيره [ ص: 83 ] لمشقة الاحتراز عنه باعتبار جنسه ، وما من شأنه لا بالنظر لكل فرد فرد منه ، ومقتضى كلامه أنه لا فرق بين وقوعه في محل ووقوعه في محال وهو قوي ، لكن قال الجيلي : صورته أن يقع في محل واحد ، وإلا فله حكم ما يدركه الطرف على الأصح .
قال ابن الرفعة : وفي كلام الإمام إشارة إليه ، كذا نقله الزركشي وأقره وهو غريب .
قال الشيخ : والأوجه تصويره باليسير عرفا لا بوقوعه في محل واحد ، وكلام الأصحاب جار على الغالب بقرينة تعليلهم السابق ، ولو رأى ذبابة على نجاسة فأمسكها حتى ألصقها ببدنه أو ثوبه أو طرحها في نحو ماء قليل اتجه التنجيس قياسا على ما لو ألقى ما لا نفس له سائلة ميتا في ذلك ، ولو وقع الذباب على دم ثم طار ووقع على نحو ثوب اتجه العفو جزما ; لأنا إذا قلنا به في الدم المشاهد فلأن نقول به فيما لم يشاهد منه بطريق الأولى ، وقيد بعضهم العفو عما لا يدركه الطرف بما إذا لم يكثر بحيث لم يجتمع منه في دفعات ما يحس وهو كما قال ; وعلم أنه لا فرق بين الذباب وغيره كنحل وزنبور وفراش ، على أن بعضهم أطلق الذباب على جميع ذلك ، [ ص: 84 ] وضبط في المجموع ذلك بما يكون بحيث لو خالف لونه لون الثوب لم ير لقلته وبما تقرر علم أن يسير الدم ونحوه مما لا يعفى عن قليله إذا وقع على ثوب أحمر وكان بحيث لو قدر أنه أبيض رئي لم يعف عنه وإن لم ير على الأحمر ; لأن المانع من رؤيته اتحاد لونهما ، والعبرة بكونه لا يرى للبصر المعتدل مع عدم مانع ، فلو رأى قوي النظر ما لا يراه غيره .
قال الزركشي : فالظاهر العفو عما في سماع نداء الجمعة ، نعم يظهر فيما لا يدركه البصر المعتدل في الظل ويدركه بواسطة الشمس أنه لا أثر لإدراكه له بواسطتها لكونها تزيد في التجلي فأشبهت رؤيته حينئذ رؤية حديد البصر ، وشمل إطلاق المصنف ما لو كان من مغلظة وهو كذلك ( قلت : ذا القول أظهر ) من مقابله ( والله أعلم ) ويلحق بما تقدم ما في معناه مما على منفذ حيوان طاهر غير آدمي كطير وهرة وما تلقيه الفئران في بيوت الأخلية من النجاسات كما أفتى به الوالد رحمه الله تعالى ، وما يقع من بعر الشاة في اللبن في حال الحلب مع مشقة الاحتراز عنه كما نقله ابن العماد ، فلو شك أوقع في حال الحلب أو لا ، فالأوجه أنه ينجس إذا شرط العفو لم نتحققه ، وكون الأصل [ ص: 85 ] طهارة ما وقع فيه يعارضه كون الأصل في الواقع أنه ينجس فتساقطا وبقي العمل بأصل عدم العفو ، ويعفى عما يماسه العسل من الكوارة التي تجعل من روث نحو البقر ، وعن روث نحو سمك لم يضعه في الماء عبثا ، وعليه يحمل كلام الشيخ أبي حامد أنه لا فرق بين وقوعه في الماء بنفسه وبين جعله فيه ، وألحق الأذرعي بما نشؤه من الماء ، والزركشي ما لو نزل طائر وإن لم يكن من طيور الماء في ماء وذرق فيه أو شرب منه وعلى فمه نجاسة ولم تتحلل عنه لتعذر الاحتراز عن ذلك ، ويعفى عن قليل دخان النجاسة في الماء وغيره كما صرح به الإسنوي ، ونقل المحب الطبري عن ابن الصباغ واعتمده أنه يعفى عن جرة البعير فلا تنجس ما شرب منه ، ويعفى عما تطاير من ريقه المتنجس ويلحق به فم ما يجتر إذا التقم غير ثدي أمه وفم صبي تنجس لمشقة الاحتراز عنه ، لا سيما في حق المخالط له كما صرح به ابن الصلاح ، ويؤيده ما في المجموع أنه يعفى عما تحقق إصابة بول ثور الدياسة له بل ما نحن فيه أولى .
وألحق بعضهم بذلك أفواه المجانين وجزم به الزركشي ، وأفتى جمع من أهل اليمن بالعفو عما يبقى في نحو الكرش مما يشق غسله وتنقيته منه . والضابط في جميع ذلك أن العفو منوط بما يشق الاحتراز عنه غالبا


