الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله والملامسة وإلقاء الحجر ) ، ومثلها المنابذة ، وهذه بيوع كانت في الجاهلية فنهي عنها ، وهو أن يتراوض الرجلان على سلعة أي يتساوما فإذا لمسها المشتري أو نبذها إليه البائع أو وضع المشتري عليها حصاة لزم البيع رضي البائع أو لم يرض ، والأول بيع الملامسة ، والثاني بيع المنابذة ، والثالث إلقاء الحجر ، ولأن فيه تعليقا بالحظر ، ولا بد في هذه البيوع أن يسبق الكلام منهما على الثمن ( قوله وثوب من ثوبين ) لجهالة المبيع ، وتقدم في خيار الشرط أنه إذا جعل للمشتري خيار التعيين جاز فيما دون الثلاثة فلذا أطلقه هنا ، وفي المعراج ، وكذا عبد من عبدين لا يجوز ، ولا خلاف فيه لأحد حتى لو قبضهما ، وماتا معا يضمن نصف قيمة كل واحد منهما لأن أحدهما مضمون بالقيمة لأنه مقبوض بحكم البيع الفاسد ، والآخر أمانة ، وليس أحدهما بأولى من الآخر فشاعت الأمانة والضمان ، ولهذا لو كان البيع صحيحا بأن كان فيه خيار المشتري يضمن نصف ثمن كل واحد ، والفاسد معتبر بالصحيح ، والقيمة هنا كالثمن ثمة ، ولو ماتا مرتبين ضمن قيمة الأول لأنه تعين مضمونا لتعذر الرد فيه .

                                                                                        ولو حررهما معا عتق أحدهما لأنه ملك أحدهما بالقبض ، وإن حرر أحدهما لم يصح أي لو قال البائع أو المشتري أحدهما حر ، ولو قالا متعاقبا عتقا لأن كل واحد أعتق ملكه ، وملك غيره فيصح في ملكه ، والبيان إلى المشتري لأن من نفذ فيه عتقه مضمون بالقيمة ، والقول في المضمون قول الضامن ، ولو قبض أحدهما بإذن البائع فهلك غرم قيمته . ا هـ .

                                                                                        وقيد بالقيمي إذ بيع المبهم في المثلي جائز قال في التلخيص من باب بيع المبهم لو اشترى أحد عبدين أو ثوبين فسد لجهل يورث نزاعا ضد المثلي فلو قبضهما ملك أحدهما ، والآخر أمانة وفاء بالعهد إلى آخره ( قوله والمراعي وإجارتها ) أي لا يجوز بيع الكلأ ، وإجارته أما البيع فلأنه ورد على ما لا يملكه لاشتراك الناس فيه بالحديث { الناس شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار } ، وأما الإجارة فلأنها عقدت على استهلاك عين مباح ، ولو عقدت على استهلاك عين [ ص: 84 ] مملوكة بأن استأجر بقرة ليشرب لبنها لا يجوز فهذا أولى ، وفي المصباح : والرعي بالكسر والمرعى بمعنى ، وهو ما ترعاه الدواب ، والجمع المراعي ا هـ .

                                                                                        قيد بالمراعي بمعنى الكلأ لأن بيع رقبة الأرض ، وإجارتها جائزان ، ومعنى الشركة في النار الاصطلاء بها ، وتجفيف الثياب يعني إذا أوقد رجل نارا فلكل أن يصطلي بها أما إذا أراد أن يأخذ الجمر فليس له ذلك إلا بإذن صاحبه ، ومعناه في الماء الشرب وسقي الدواب والاستقاء من الآبار والحياض والأنهار المملوكة ، وفي الكلأ أن له احتشاشه ، وإن كان في أرض مملوكة غير أن لصاحب الأرض أن يمنع من الدخول في أرضه ، وإذا منع فلغيره أن يقول إن لي في أرضك حقا فإما أن توصلني إليه أو تحشه أو تستقي ، وتدفعه لي ، وصار كثوب رجل وقع في دار رجل إما أن يأذن المالك في دخوله ليأخذه ، وإما أن يخرجه إليه أما إذا أحرز الماء بالاستقاء في آنية ، والكلأ بقطعه جاز حينئذ بيعه لأنه ملكه بذلك ، وظاهر أن هذا إذا نبت بنفسه فأما إذا كان سقى الأرض ، وأعدها للإنبات فنبت ففي الذخيرة ، والمحيط والنوازل يجوز بيعه لأنه ملكه ، وهو مختار الصدر الشهيد .

                                                                                        وكذا ذكر في اختلاف أبي حنيفة فيحمل كلام المصنف على ما إذا لم يعدها للإنبات ، ومنه لو حدق حول أرضه ، وهيأها للإنبات حتى نبت القصب صار ملكا له والقدوري منع بيعه ، وإن ساق الماء إلى أرضه ، ولحقه مؤنة لبقاء الشركة ، وإنما تنقطع بالحيازة ، وسوق المال إلى أرضه ليس بحيازة لكن الأكثر على الأول إلا أن على هذا القائل أن يقول ينبغي إن حاز البئر يملك بناءها ، ويكون بتكلفة الحفر والطي لتحصيل الماء يملك الماء كما يملك الكلأ بتكلفة سوق الماء إلى الأرض لينبت فله منع المستقي ، وإن لم يكن في أرض مملوكة له كذا في فتح القدير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام عليه في كتاب الشرب ، والحيلة في جواز إجازته أن يستأجرها أرضا لإيقاف الدواب فيها أو لمنفعة أخرى بقدر ما يريد صاحبه من الثمن أو الأجرة فيحصل به غرضهما ، ويدخل في الكلأ جميع أنواع ما ترعاه المواشي رطبا كان أو يابسا بخلاف الأشجار لأن الكلأ ما لا ساق له ، والشجر له ساق فلا تدخل فيه حتى يجوز بيعها إذا نبتت في أرضه لكونها ملكه ، والكمأة كالكلأ ، وفي القاموس الكمء نبات ، والكمأة للواحد ، والكمء للجمع أو هي تكون واحدة ، وجمعا . ا هـ . .

                                                                                        ( قوله والنحل ) أي لم يجز بيعه ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف ، وقال محمد يجوز إذا كان محرزا ، وهو معنى ما في الذخيرة إذا كان مجموعا لأنه حيوان منتفع به حقيقة ، وشرعا فيجوز بيعه ، وإن كان لا يؤكل كالبغل والحمار ، ولهما أنه من الهوام فلا يجوز بيعه كالزنابير ، والانتفاع بما يخرج منه لا بعينه فلا يكون منتفعا به قبل الخروج أطلقه فشمل ما إذا كان بيع تبعا للكوارات ، وفيها عسل ، وهو قول الكرخي [ ص: 85 ] وذكر القدوري أن بيعه تبعا للكوارة فيها عسل جائز ، وأنكره الكرخي ، وقال إنما يدخل الشيء في البيع تبعا لغيره إذا كان من حقوقه كالشرب والطريق ، وهذا ليس من حقوقه كذا في الفوائد الظهيرية ، وأجيب عنه بأن التبعية لا تنحصر في الحقوق كالمفاتيح فالعسل تابع للنحل في الموجود ، والنحل تابع له في المقصود بالبيع ، والكوارة بضم الكاف وتشديد الواو معسل النحل إذا سوي من طين ، وفي التهذيب كوارة النحل مخففة ، وفي المغرب بالكسر من غير تشديد ، وقيد الزمخشري بفتح الكاف ، وفي الغريبين بالضم كذا في فتح القدير ، وفي المصباح كوارة النحل بالضم والتخفيف ، والتثقيل لغة عسلها في الشمع ، وقيل بيتها إذا كان فيه العسل ، وقيل هو الخلية ، وكسر الكاف مع التخفيف لغة . ا هـ . وسيأتي أن الفتوى على قول محمد .

                                                                                        ( قوله ويباع دود القز وبيضه ) أما الدود فلا يجوز بيعه عند أبي حنيفة لأنه من الهوام ، وعند أبي يوسف يجوز إذا ظهر فيه القز تبعا ، وعند محمد يجوز كيفما كان لكونه منتفعا به ، وأما بيضه فلا يجوز بيعه عند أبي حنيفة ، وعندهما يجوز لمكان الضرورة ، وقيل أبو يوسف مع أبي حنيفة كما في دوده ، وإنما اختار المؤلف قول محمد في الدود ، والبيض لكونه المفتى به ، ولكن يرد عليه أن الفتوى على قول محمد أيضا في بيع النحل كما في الذخيرة والخلاصة فلم اختار قوله في الدود دون النحل بلا مرجح ، ولعله لم يطلع على أن الفتوى على قوله فيهما ، وفي المصباح القز معرب قال الليث هو ما يعمل منه الإبريسم ، ولهذا قال بعضهم : القز والإبريسم مثل الحنطة والدقيق . ا هـ .

                                                                                        وأما الخز فاسم دابة ثم أطلق على الثوب المتخذ من وبرها ، والجمع خزان مثل صرد وصردان منه أيضا قيد بالنحل والدود لأن ما سواهما من الهوام كالحيات والعقارب والوزغ والقنافذ والضب لا يجوز بيعه اتفاقا ، ولا يجوز بيع شيء من البحر إلا السمك كالضفدع والسرطان والسلحفاة وفرس البحر ، وغير ذلك ، ولكن في الذخيرة إذا اشترى العلق الذي يقال له بالفارسية مرعل يجوز ، به أخذ الصدر الشهيد لحاجة الناس إليه لتمول الناس له ، وفي المصباح العلق شيء أسود شبيه الدود يكون في الماء يعلق بأفواه الإبل عند الشرب ا هـ .

                                                                                        وقيد بالبيع لأنه لو كان الدود ، وورق التوت من واحد ، والعمل من آخر على أن يكون القز بينهما نصفين أو أقل أو أكثر لا يجوز عند محمد ، وكذا لو كان العمل منهما ، وهو بينهما نصفان ، وفي فتاوى الولوالجي امرأة أعطت امرأة بزر القز ، وهو بزر الفيلق بالنصف فقامت عليه حتى أدرك فالفليق لصاحبة البزر لأنه حدث من بزرها ، ولها على صاحبة البزر قيمة الأوراق ، وأجر مثلها ، ومثله إذا دفع بقرة إلى آخر يعلفها ليكون الحادث بينهما بالنصف فالحادث كله لصاحب البقرة ، وله على صاحب البقرة ثمن العلف ، وأجر مثله ، وعلى هذا إذا دفع الدجاج ليكون البيض بالنصف كذا في فتح القدير ، ومحلها كتاب الإجارات ، ولم يذكر المؤلف بيع الحمام ، وذكره في الهداية فقال : والحمام إذا علم عددها ، وأمكن تسليمها جاز بيعها لأنه مال مقدور التسليم ، وفي الذخيرة إذا باع برج حمام مع الحمام فإن باع ليلا جاز لأن في الليل يكون الحمام بجملته داخل البرج ، ويمكن أخذه منه من غير الاحتيال فيكون بائعا ما يقدر على تسليمه ، وفي النهار يكون بعضه خارج البيت فلا يمكن أخذه إلا بالاحتيال فلا يجوز ا هـ .

                                                                                        [ ص: 83 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 83 ] ( قوله ولأن فيه تعليقا بالحظر ) فإنه في معنى إذا وقع حجري على ثوب فقد بعته منك أو بعتنيه بكذا أو إذا نبذته أو لمسته كذا في الفتح ( قوله ولا بد في هذه البيوع أن يسبق الكلام منهما على الثمن ) أي ليكون علة الفساد ما ذكر ، وإلا كان الفساد لعدم ذكر الثمن إن سكتا عنه لما سيأتي أن البيع مع نفي الثمن باطل ، ومع السكوت عنه فاسد أو لتحقق هذه البيوع فإنه ذكر في تعريفها أن يتساوما سلعة ، وقد قال في الفتح التساوم تفاعل من السوم سام البائع السلعة عرضها للبيع ، وذكر ثمنها ا هـ .

                                                                                        فظهر أن ما قيل فائدة التقييد أنه إن لم يسبق ذكر الثمن فالبيع باطل غير ظاهر تأمل ( قوله جاز فيما دون الثلاثة ) كذا في النسخ ، وصوابه فيما دون الأربعة [ ص: 84 ] ( قوله ومنه لو حدق ) أي حوط رملي ( قوله لقائل أن يقول ينبغي إلخ ) قال في النهر ، وأقول : يمكن أن يفرق بينهما بأن سقي الكلأ كان سببا في إنباته فنبت بخلاف الماء فإنه موجود قبل حفره فلا يملكه بالحفر ا هـ .

                                                                                        وقال الرملي أصح القولين عند الشافعي أنه يملكه سواء حفرها في أرض موات أو ملك ، وعندنا لا يملكه فيهما ، وأقول : المنقول أن صاحب البئر لا يملك الماء ، وقدمه هذا الشارح في كتاب الطهارة في شرح قوله وانتفاخ حيوان وتفسخه عن الولوالجية فراجعه ، وهذا ما دام في البئر أما إذا أخرجه منها بالاحتيال كما في السواقي التي ببلادنا فلا شك في ملكه له بذلك لحيازته له في الكيزان التي نسميها القواديس أولا ثم صبه في البرك بعد حيازته تأمل ، وأقول : البئر في كلام الفقهاء غالبا للمعين ، وأما غيره فيقال فيه صهريج وجب ، ونحو ذلك ، وقد يطلق على غير المعين ، والذي يجب التعويل عليه في الماء أن يقال بالحيازة يملك فيضمن ، وعلى هذا يجب أن يملك في الصهاريج المتخذة في البيوت للحيازة قطعا لأنها بمنزلة الحباب ، وقد أفتيت به ، ولا يخالفه ما في الولوالجية من قوله ، ولو نزح ماء بئر رجل بغير إذنه حتى يبست لا شيء عليه لأن صاحب البئر غير مالك للماء ، ولو صب ماء رجل كان في الحب يقال له املأ الماء لأن صاحب الحب مالك للماء ، وهو من ذوات الأمثال فيضمن مثله . ا هـ .

                                                                                        لأن كلامه في البئر المعين ، وأما الصهاريج التي توضع لإحراز الماء في الدور فلا شك في أن ماءها يصير مملوكا لأصحابها بمنزلة الحباب ، والأواني فتأمل .

                                                                                        وصورة ما رفع إلي من بيت المقدس فيما إذا استأجر دارا للسكن في بيوتها ، وفي الدار صهريج معد لجمع ماء الأشتية ، وفيه ماء قبل الإجارة فهل هذا الماء ملك المؤجر ليس للمستأجر فيه إلا ما أباحه المؤجر فأجبت نعم الصهاريج التي في الدور المعدة لجمع ماء الأشتية الموضوعة لإحراز الماء يملك ماؤها ، وهي بمنزلة الحباب كما هو مستفاد من تعليلهم في مسألة الأنهار المملوكة ، والآبار ، والحياض بقولهم لأنها لم توضع للإحراز ، والمباح لا يملك إلا بالإحراز ، وأنت على يقين بأن الصهاريج التي في الدور إنما [ ص: 85 ] وضعت للإحراز فليس للمستأجر إلا ما أباحه المؤجر ( قوله فلا يجوز بيعه عند أبي حنيفة ) قال في النهر ، واعلم أنه يحتاج على قول الإمام إلى الفرق بين النحل والدود حيث أجاز بيعه تبعا دون الدود ، ولا إشكال على ما روي عن الكرخي أنه لا يجوز في النحل تبعا ( قوله ولعله لم يطلع على أن الفتوى على قوله فيهما ) استبعده في النهر ، واعتذر عن المصنف بقوله ، وكأنه لقوة المدرك في النحل ، وكذا استبعده الرملي ثم قال وإنما الجواب عنه أنه ربما قام عنده دليل اختيار قولهما في النحل ، وقول محمد في دود القز وبيضه ، ويفرق بينهما بفارق يلوح من قول بعضهم يجوز بيعه ليلا ، ولا يجوز بيعه نهارا لأنه يكون مجتمعا حالة الليل متفرقا حالة النهار في المراعي .

                                                                                        ( قوله ولكن في الذخيرة إذا اشترى العلف إلخ ) انظر هل يقال مثله في بيع الدودة ، وهي القرمز التي يصبغ بها بناء على ما اشتهر من أن أصلها دود له روح يخنق بالكلس ، وبالخل ، ومقتضى التعليل الجواز فإنها كثيرة الاحتياج بين الناس ، ولها مداخل كثيرة عند أرباب الصنائع ، وهي من أنفس الأموال عندهم ، وقد أجازوا بيع السرقين تأمل ( قوله فإن باع ليلا جاز إلخ ) ألغز فيه الشيخ رمضان العطيفي فقال على هامش نسخته المكتوبة بخطه :

                                                                                        يا إماما في فقه نعمان أضحى حائزا لسبق مفردا لا يجارى أي بيت يجوز بيعك إيا
                                                                                        هـ بليل ولا يجوز نهارا

                                                                                        ا هـ .

                                                                                        قال الرملي ، وتقدم في شرح قوله ، والطير في الهواء إنه إذا علم عوده ، وأمكن تسليمه يجوز ، ولم يفرق بينهما إذا كان بالنهار فراجعه .




                                                                                        الخدمات العلمية