( باب اليمين في الدخول والخروج والسكنى والإتيان وغير ذلك ) .
شروع في بيان الأفعال التي يحلف عليها ، ولا سبيل إلى حصرها لكثرتها لتعلقها باختيار الفاعل فنذكر القدر الذي ذكره أصحابنا في كتبهم والمذكور نوعان أفعال حسية وأمور شرعية وبدأ بالأهم ، وهو الدخول ونحوه ; لأن حالة الحلول في مكان ألزم للجسم من أكله وشربه ، وقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى في هذا الباب من الأفعال خمسة : الدخول والخروج والسكنى والإتيان والركوب ، والأصل أن الأيمان مبنية على العرف عندنا لا على الحقيقة اللغوية كما نقل عن ، ولا على الاستعمال القرآني كما عن الشافعي ، ولا على النية مطلقا كما عن مالك ; لأن المتكلم إنما يتكلم بالكلام العرفي أعني الألفاظ التي يراد بها معانيها التي وضعت في العرف كما أن العربي حال كونه من أهل اللغة إنما يتكلم بالحقائق اللغوية فوجب صرف ألفاظ المتكلم إلى ما عهد أنه المراد بها ثم من المشايخ من جرى على هذا الإطلاق فحكم بالفرع الذي ذكره صاحب الذخيرة أحمد والمرغيناني ، وهو ما إذا أنه يحنث بأنه خطأ ، ومنهم من قيد حمل الكلام على العرف بما إذا لم يمكن العمل بحقيقته ، ولا يخفى أن هذا يصير المعتبر الحقيقة اللغوية إلا ما كان من الألفاظ ليس له وضع لغوي بل أحدثه أهل العرف ، وأن ما له وضع لغوي ووضع عرفي يعتبر معناه اللغوي ، وإن تكلم به متكلم من أهل العرف ، وهذا يهدم قاعدة حمل الأيمان على العرف فإنه لم يصير المعتبر إلا اللغة إلا ما تعذر ، وهذا بعيد إذ لا شك أن المتكلم لا يتكلم إلا بالعرف الذي به التخاطب سواء كان عرف اللغة إن كان من أهل اللغة أو غيرها إن كان من غيرها . يعم ما وقع استعماله مشتركا بين أهل اللغة ، وأهل العرف تعتبر اللغة على أنها العرف . حلف لا يهدم بيتا فهدم بيت العنكبوت
وأما الفرع المذكور فالوجه فيه أنه إن كان نواه في عموم بيتا حنث ، وإن لم يخطر له وجب أن لا يحنث لانصراف الكلام إلى المتعارف عند إطلاق لفظ بيت وظهر أن مرادنا بانصراف الكلام إلى العرف أنه إذا لم يكن له نية كان موجب الكلام ما هو معنى عرفيا له ، وإن كان له نية شيء واللفظ يحتمله انعقد اليمين باعتباره كذا في فتح القدير ، وفي الحاوي الحصيري والمعتبر في الأيمان الألفاظ دون الأغراض ، وفي الظهيرية من الفصل الثالث من الهبة لم يحنث في يمينه فدل على أن العبرة بعموم اللفظ . ا هـ . رجل اغتاظ على غيره فقال إن اشتريت لك بفلس شيئا فامرأته طالق فاشترى له بدرهم شيئا
وذكر الإمام الخلاطي في مختصر الجامع فروعا مبنية على ذلك فقال باب اليمين في المساومة حلف لا يشتريه بعشرة حنث بإحدى عشرة ، ولو حلف البائع لم يحنث به ; لأن مراد المشتري المطلقة ، ومراد البائع المفردة ، وهو العرف ، ولو اشترى أو باع بتسعة لم يحنث ; لأن المشتري مستنقص ، والبائع وإن كان مستزيدا لكن لا يحنث بلا مسمى كمن لم يحنث . ا هـ . حلف لا يخرج من الباب أو لا يضربه سوطا أو لا يشتري بفلس أو ليغدينه اليوم بألف فخرج من السطح وضرب بعصا واشترى بدينار وغدى برغيف
وفي التنوير للإمام المسعودي شارحه ، والحاصل أنه إذا كان [ ص: 324 ] في اليمين ملفوظ به يجوز تعيين أحد محتمليه بالغرض ، وأما الزيادة على الملفوظ فلا يجوز بالغرض ففي مسألة لا أبيعه بعشرة فباعه بتسعة إنما لا يحنث البائع ، وإن كان غرضه المنع عن النقصان ; لأن الناقص عن العشرة ليس في لفظه ، ولا يحتمله لفظه فلا يتقيد به . ا هـ .
وفي الخلاصة من الجنس الخامس من اليمين في الشراء ، ولو أن لم يحنث ، ولو باعه بتسعة لا يحنث أيضا هذا جواب القياس ، وفي الاستحسان على عكس هذا فإن العرف بين الناس أن من حلف لا يبيع بعشرة أن لا يبيعه إلا بأكثر من عشرة فإذا باعه بتسعة يحنث استحسانا . ا هـ . البائع هو الذي حلف فقال عبده حر إن بعت هذا منك بعشرة فباعه بعشرة دراهم ودينار أو بأحد عشر درهما
فالحاصل أن بناء الحكم على الألفاظ هو القياس والاستحسان بناؤه على الأغراض وسيأتي أنه هل يعتبر في العرف عند التخاطب أو العمل ( قوله : لا يحنث بدخول البيت والمسجد والبيعة والكنيسة والدهليز والظلة والصفة ) لما قدمنا أن الأيمان مبنية على العرف والبيت في العرف ما أعد للبيتوتة ، وهذه البقاع ما بنيت لها ، وأراد بالبيت حلف لا يدخل بيتا الكعبة ، ولو عبر بها لكان أظهر والبيعة بكسر الباء معبد النصارى والكنيسة معبد اليهود والدهليز بكسر الدال ما بين الباب والدار فارسي معرب كما في الصحاح والظلة الساباط الذي يكون على باب الدار من سقف له جذوع أطرافها على جدار الباب ، وأطرافها الأخرى على جدار الجار المقابل له ، وإنما قيدنا به ; لأن الظلة إذا كان معناها ما هو داخل البيت مسقفا فإنه يحنث بدخوله ; لأنه يبات فيه ، وأطلق المصنف في الدهليز والصفة ، وهو مقيد بما إذا لم يصلحا [ ص: 325 ] للبيتوتة أما إذا كان الدهليز كبيرا بحيث يبات فيه فإنه يحنث بدخوله ; لأن مثله يعتاد بيتوتته للضيوف في بعض القرى ، وفي المدن يبيت فيه بعض الأتباع في بعض الأوقات فيحنث .
والحاصل أن كل موضع إذا أغلق الباب صار داخلا لا يمكنه الخروج من الدار ، وله سعة تصلح للمبيت من سقف يحنث بدخوله ، وعلى هذا يحنث بالصفة سواء كان لها أربع حوائط كما هي صفاف الكوفة أو ثلاثة على ما صححه في الهداية بعد أن يكون مسقفا كما هي صفاف ديارنا ; لأنه يبات فيه غاية الأمر أن مفتحه واسع وسيأتي أن السقف ليس شرطا في مسمى البيت فيحنث ، وإن لم يكن الدهليز مسقفا كذا في فتح القدير .