الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        معلومات الكتاب

                                                                                        البحر الرائق شرح كنز الدقائق

                                                                                        ابن نجيم - زين الدين بن إبراهيم بن محمد

                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        [ ص: 92 ] ( قوله : وموت ما لا دم فيه كالبق والذباب والزنبور والعقرب والسمك والضفدع والسرطان لا ينجسه ) أي موت حيوان ليس له دم سائل في الماء القليل لا ينجسه وقد جعل في الهداية هذه المسألة مسألتين فقال أولا موت ما ليس له نفس سائلة في الماء لا ينجسه كالبق والذباب والزنابير والعقرب ونحوها ثم قال وموت ما يعيش في الماء لا يفسده كالسمك والضفدع والسرطان وقد جمعهما قول المصنف وموت [ ص: 93 ] ما لا دم له ; لأن مائي المولد لا دم له فكان الأنسب ما ذكره المصنف من حيث الاختصار إلا أنه يرد عليه ما كان مائي المولد والمعاش وله دم سائل ، فإنه سيأتي أنه لا ينجس في ظاهر الرواية مع أن عبارة المصنف بخلافه فلذا فرق في الهداية بينهما ونقل في الهداية خلاف الشافعي في المسألة الأولى وكذا في الثانية إلا في السمك وما ذكره من خلاف الشافعي في الأولى ضعيف والصحيح من مذهبه أنه كقولنا كما صرح به النووي في شرح المهذب .

                                                                                        وفي غاية البيان قال أبو الحسن الكرخي في شرح الجامع الصغير : لا أعلم أن فيه خلافا بين الفقهاء ممن تقدم الشافعي ، وإذا حصل الإجماع في الصدر الأول صار حجة على ما بعده ا هـ .

                                                                                        وقد علمت أنه موافق لغيره وعلى تقدير مخالفته لا يكون خارقا للإجماع فقد قال بقوله القديم يحيى بن أبي كثير التابعي الجليل كما نقله الخطابي ومحمد بن المنكدر الإمام التابعي كما نقله النووي

                                                                                        والدليل على أصل المسألة ما رواه البخاري في صحيحه بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم لينزعه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء } وفي رواية النسائي وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري { فإذا وقع في الطعام فامقلوه فيه فإنه يقدم السم ويؤخر الشفاء } ومعنى امقلوه اغمسوه وجه الاستدلال به أن الطعام قد يكون حارا فيموت بالغمس فيه فلو كان يفسده لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغمسه ليكون شفاء لنا إذا أكلناه ، وإذا ثبت الحكم في الذباب ثبت في غيره مما هو بمعناه كالبق والزنابير والعقرب والبعوض والجراد والخنفساء والنحل والنمل والصرصر والجعلان وبنات وردان والبرغوث والقمل إما بدلالة النص أو بالإجماع كذا في المعراج قال الإمام الخطابي : وقد تكلم على هذا الحديث من لا خلاق له وقال كيف يجتمع الدواء والشفاء في جناحي الذبابة وكيف تعلم ذلك حتى تقدم جناح الداء قال : وهذا سؤال جاهل أو متجاهل والذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت ثم يرى الله عز وجل قد ألف بينها وجعلها سببا لبقاء الحيوان وصلاحه لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والدواء في جزأين من حيوان واحد وأن الذي ألهم النحلة اتخاذ بيت عجيب الصنعة وتعسل فيه وألهم النملة كسب قوتها وادخاره لأوان حاجتها إليه هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحا وتؤخر آخر لما أراد الله من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد والامتحان الذي هو مضمار التكليف وله في كل شيء حكمة وعلم وما يذكر إلا أولو الألباب ا هـ .

                                                                                        وقال بعضهم المراد به داء الكبر والترفع عن استباحة ما أباحته الشريعة المطهرة وأحلته السنة المعظمة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقله دفعا للتكبر والترفع ، وهذا ضعيف ; لأنه حينئذ يخرج الجناحين والشفاء عن الفائدة كذا ذكره السراج الهندي .

                                                                                        واستدل مشايخنا أيضا على أصل المسألة بما عن سلمان رضي الله عنه عنه عليه السلام { قال يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوءه } قال الزيلعي رحمه الله تعالى المخرج رواه الدارقطني وقال لم يروه إلا بقية عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي ، وهو ضعيف ورواه ابن عدي في الكامل وأعله بسعيد هذا وقال هو شيخ مجهول وحديث غير محفوظ ا هـ .

                                                                                        قال العلامة : في فتح القدير ودفعا بأن بقية هذا هو ابن الوليد روى عنه الأئمة مثل الحمادين وابن المبارك ويزيد بن هارون وابن عيينة ووكيع والأوزاعي وإسحاق بن راهويه وشعبة وناهيك بشعبة واحتياطه قال يحيى كان شعبة مبجلا لبقية حيث قدم بغداد وقد روى له الجماعة إلا البخاري ، وأما سعيد بن أبي سعيد هذا فذكره الخطيب وقال اسم أبيه عبد الجبار ، وكان ثقة فانتفت الجهالة [ ص: 94 ] والحديث مع هذا لا ينزل عن الحسن ا هـ .

                                                                                        قال في الهداية : ; ولأن المنجس اختلاط الدم المسفوح بأجزائه عند الموت حتى حل المذكى لانعدام الدم فيه ولا دم فيها والحرمة ليست من ضرورتها النجاسة كالطين وأورد عليه ذبيحة النجاسة ومتروك التسمية عامدا ، فإنها نجسة مع زوال الدم المسفوح وذبيحة المسلم إذا لم يسل منها الدم العارض بأن أكلت ورق العناب ، فإنها حلال مع أن الدم لم يسل .

                                                                                        وأجاب الأكمل وغيره عن الأول بأن القياس الطهارة كالمسلم إلا أن صاحب الشرع أخرجه عن أهلية الذبح فذبحه كلا ذبح وعن الثاني أن الشارع أقام الأهلية واستعمال آلة الذبح مقام الإسالة لإتيانه بما هو داخل تحت قدرته ولا يعتبر بالعوارض ; لأنها لا تدخل تحت القواعد الأصلية .

                                                                                        وأجاب في معراج الدراية بأن ذبيحة المجوسي والوثني وتارك التسمية عمدا طاهرا على الأصح ، وإن لم تؤكل لعدم أهلية الذابح وعزاه إلى المجتبى ثم قال : فإن قيل لو كان المنجس هو الدم يلزم أن يكون الدموي من الحيوان نجسا سواء كان قبل الحياة أو بعدها ; لأنه يشتمل على الدم في كلتا الحالتين قلنا الدم حال الحياة في معدنه والدم في معدنه لا يكون نجسا بخلاف الذي بعد الموت ; لأن الدماء بعد الموت تنصب عن مجاريها فلا تبقى في معادنها فيتنجس اللحم بتشربه إياها ولهذا لو قطعت العروق بعد الموت لا يسيل الدم منها وفي صلاة البقالي لو مص البق الدم لم ينجس عند أبي يوسف ; لأنه مستعار وعند محمد ينجسه وفي جمع الخلاف على العكس والأصح في العلق إذا مص الدم أنه يفسد الماء قال صاحب المجتبى : ومن هذا يعرف حكم القراد والحلم ا هـ .

                                                                                        ، وأما ما ذكره في الهداية من خلاف الشافعي في الثانية فصحيح قال النووي في شرح المهذب ما يعيش في البحر مما له نفس سائلة إن كان مأكولا فميتته طاهرة ولا شك أنه لا ينجس الماء وما لا يؤكل كالضفدع وكذا غيره إن قلنا لا يؤكل ، فإذا مات في ماء قليل أو مائع قليل أو كثير نجسه لا خلاف فيه عندنا ا هـ .

                                                                                        استدل للمذهب في الهداية بقوله ، ولنا أنه مات في معدته فلا يعطى له حكم النجاسة كبيضة حال محها دما لأنه لا دم فيها إذ الدموي لا يسكن الماء والدم هو المنجس ، وفي غير الماء قيل غير السمك يفسده لانعدام المعدن ، وقيل لا يفسده لعدم الدم هو الأصح ا هـ .

                                                                                        كقوله كبيضة حال محها بالحاء المهملة فيهما أي تغير صفرتها دما حتى لو صلى ، وفي كمه تلك البيضة تجوز صلاته بخلاف ما لو صلى وفي كمه قارورة دم حيث لا تجوز ; لأن النجاسة في غير معدنها وعموم قوله مات في معدنه يقتضي أن لا يعطي للوحوش والطيور حكم النجاسة إذا ماتت في معدنها ; لأن معدنها البر ولهذا جعل شمس الأئمة تعليل قوله لا دم فيها أصح قال ليس لهذه الحيوانات دم سائل ، فإن ما فيها يبيض بالشمس والدم إذا شمس يسود ، وكذا في معراج الدراية وتعقبه في فتح القدير بأن كون البرية معدنا للسبع محل تأمل في معنى معدن الشيء والذي يفهم منه ما يتولد منه الشيء ، وعلى التعليل الأول فرع ما لو وقعت البيضة من الدجاجة في الماء رطبة أو يبست لا يتنجس الماء ; لأنها كانت في معدنها وكذا السخلة إذا سقطت من أمها رطبة أو يبست لا تنجس الماء ; لأنها كانت في معدنها ثم لا فرق بين أن يموت في الماء أو خارجه ثم ينتقل إليه في الصحيح وروى عن محمد إذا تفتت الضفدع في الماء كرهت شربه لا للنجاسة بل لحرمة لحمه وقد صارت أجزاؤه في الماء ، وهذا تصريح بأن كراهة شربه تحريمية وبه صرح في التنجيس فقال : يحرم شربه .

                                                                                        وفي فتاوى قاضي خان ، فإن كانت الحية أو الضفدع عظيمة لها دم سائل تفسد الماء وكذا الوزغة الكبيرة في رواية عن أبي يوسف ، وفي السراج الوهاج الذي يعيش في الماء هو الذي يكون توالده ومأواه فيه سواء كانت لها نفس سائلة أو لم تكن في ظاهر الرواية .

                                                                                        وروي عن أبي يوسف أنه إذا كان لها دم سائل أوجب التنجيس ا هـ .

                                                                                        وكذا ذكر الإسبيجابي [ ص: 95 ] فما في الفتاوى على غير ظاهر الرواية واختلف في طير الماء ففي السراج الوهاج أنه ينجس ; لأنه يتعيش في الماء ولا يعيش فيه وفي شرح الجامع الصغير قاضي خان وطير الماء إذا مات في الماء القليل يفسده هو الصحيح من الرواية عن أبي حنيفة ، وإن مات في غير الماء يفسده باتفاق الروايات ; لأن له دما سائلا ، وهو بري الأصل مائي المعاش والمائي ما كان توالده ومعاشه في الماء ا هـ .

                                                                                        وطير الماء كالبط والإوز وفي المجتبى الصحيح عن أبي حنيفة في موت طير الماء فيه أنه لا ينجسه وقيل إن كان يفرح في الماء لا يفسده ، وإلا فيفسد ا هـ .

                                                                                        فقد اختلف التصحيح في طير الماء كما ترى والأوجه ما في شرح الجامع الصغير كما لا يخفى وفي الكلب المائي اختلاف المشايخ كذا في معراج الدراية من غير ترجيح لكن قال في الخلاصة الكلب المائي والخنزير المائي إذا مات في الماء أجمعوا أنه لا يفسد الماء ا هـ .

                                                                                        فكأنه لم يعتبر القول الضعيف كما لا يخفى وقد وقع لصاحب الهداية هنا وفي بحث الماء المستعمل التعليل بالعدم ووجه تصحيحه أن العلة متحدة ، وهي الدم ، وهو في مثله يجوز كقول محمد في ولد المغصوب لم يضمن ; لأنه لم يغصب كذا في الكافي وتوضيحه أن عدم العلة لا يوجب عدم الحكم لجواز أن يكون الحكم معلولا بعلل شتى إلا أن العلة إذا كانت متعينة يلزم من عدمها عدم المعلول لتوقفه على وجودها وهنا كذلك ; لأن النجس هو الدم المفسوح لا غير ولا دم لهذه الأشياء بدليل أن الحرارة لازمة الدم والبرودة لازمة الماء ، وهما نقيضان فلو كان لها دم لماتت بدوام السكون في الماء كذا في غاية البيان

                                                                                        وفي الهداية والضفدع البري والبحري سواء وقيل البري يفسد لوجود الدم وعدم المعدن وقيل لا يفسده قال الشارحون : الضفدع البحري هو ما يكون بين أصابعه سترة بخلاف البري وصحح في السراج الوهاج عدم الفرق بينهما لكن محله ما إذا لم يكن للبري دم أما إذا كان له دم سائل فإنه يفسده على الصحيح كذا في شرح منية المصلي والضفدع بكسر الدال والأنثى ضفدعة وناس يقولون ضفدع بفتح الدال ، وهو لغة ضعيفة وكسر الدال أفصح والبق كبار البعوض واحده بقة وقد يسمى به الفسفس في بعض الجهات وهو حيوان كالقراد شديد النتن كذا في شرح منية المصلي والزنبور بالضم وسمي الذباب ذبابا ; لأنه كلما ذب آب أي كلما طرد رجع وفي النهاية وأشار الطحاوي إلى أن الطافي من السمك في الماء يفسده ، وهو غلط منه فليس في الطافي أكثر فسادا من أنه غير مأكول فهو كالضفدع ا هـ .

                                                                                        واعلم أن كل ما لا يفسد الماء لا يفسد غير الماء ، وهو الأصح كذا في المحيط والتحفة والأشبه بالفقه كذا في البدائع لكن يحرم أكل هذه الحيوانات المذكورة ما عدا السمك الغير الطافي لفساد الغذاء وخبثه متفسخا أو غيره وقد قدمناه عن التجنيس .

                                                                                        [ ص: 93 ]

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        [ ص: 93 ] ( قوله : إلا أنه يرد عليه ما كان مائي المولد والمعاش وله دم سائل ) إلا يراد بناء على ظاهر ما سيأتي عن أبي يوسف رحمه الله حيث يفيد أن مائي المولد قد يكون له دم سائل ، وأما على ما قدمه آنفا وما سيأتي عن شمس الأئمة فلا ورود [ ص: 94 ] ( قوله : سواء كان قبل الحياة ) أي قبل زوال الحياة فهو على حذف مضاف والأمر سهل ( قوله : وفي جمع الخلاف على العكس ) هكذا النسخ التي رأيناها ولكن الذي في معراج الدراية وفي جمع التفاريق الخلاف إلخ فالخلاف مبتدأ لا مضاف إليه جمع فكأنه سقط من قلم الشارح لفظة التفاريق وكأن نسخته محرفة ( قوله : ومن هذا يعرف حكم القراد والحلم ) جمع حلمة محركة ، وهي دودة تقع في جلد الشاة فإذا دبغ يكون ذلك الموضع دقيقا مدارى عن جامع اللغة ( قوله : وأما ما ذكره في الهداية من خلاف الشافعي رحمه الله في الثانية ) أي مسألة موت ما يعيش في الماء ، وهذا معطوف على قوله وما ذكره من خلاف الشافعي في الأولى ضعيف .

                                                                                        ( قوله : والذي يفهم منه ما يتولد منه الشيء ) كون هذا المعنى مرادا في هذا المحل موضع تأمل فتأمل ثم ظهر أن في بعض نسخ فتح القدير سقطا والذي رأيته في نسخة أخرى ما نصه والذي يفهم منه ما يتولد منه الشيء في غير ذي الروح ، وفيه ما هو مفرد بحيث لا يستطيع الانفصال ا هـ .

                                                                                        فقوله وفيه أي في ذي الروح وبه يظهر المراد تأمل [ ص: 95 ] ( قوله : فما في الفتاوى على غير ظاهر الرواية ) قال الشيخ خير الدين الرملي رحمه الله أقول : إن أراد المذكور هنا المنقول عن قاضي خان فليس فيه ما يخالف ظاهر الرواية إذ كلامه في الحية والضفدع البريين لا المائي وسيأتي فيه التفصيل المذكور ( قوله : وقد وقع لصاحب الهداية هنا وفي بحث الماء المستعمل التعليل بالعدم ) وذلك حيث قال هنا وفي غير الماء قيل غير السمك يفسده لانعدام المعدن وقيل لا يفسده لعدم الدم وفي بحث الماء المستعمل علل في مسألة البئر بقوله لعدم اشتراط الصب وقوله لعدم نية التقرب قال في غاية البيان هنا قوله لانعدام المعدن فيه نظر ، فإنه لا يجوز التعليل على وجود الشيء بالعدم وقيل لا يفسده لعدم الدم وفيه أيضا نظر ; لأن عدم الحيلة لا يوجب عدم الحكم لجواز أن يكون الحكم معلولا بعلل شتى إلخ .




                                                                                        الخدمات العلمية