الإنصاف:
اعلم - رحمك الله تعالى - أن الراوي لا تطرح روايته لوهمه إلا إذا زاد [ ص: 36 ] - وفحش أو اختلط، فالوهم والنسيان والإسقاط والخطأ غير المتعمد كل ذلك يجري على البشر جميعا عالمهم وجاهلهم، حافظهم وغير الحافظ منهم، فلا تطرح رواية الراوي إلا ما كثر منه ذلك ولم يتميز حديثه، فعندها يترك. قال الإمام في (التمييز): حدثني مسلم قال: قال لي محمد بن المثنى : يا عبد الرحمن بن مهدي أبا موسى أهل الكوفة يحدثون عن كل أحد، قلت: يا أبا سعيد هم يقولون: إنك تحدث عن كل أحد! قال: عمن أحدث؟ فذكرت له محمد بن راشد المكحولي، فقال لي: احفظ عني: الناس ثلاثة: رجل حافظ متقن، فهذا لا يختلف فيه; وآخر يهم والغالب على حديثه الصحة، فهو لا يترك، ولو ترك حديث مثل هذا لذهب حديث الناس; وآخر الغالب على حديثه الوهم، فهذا يترك حديثه. وقال : ليس يكاد يفلت من الغلط أحد، إذا كان الغالب على الرجل الحفظ فهو حافظ وإن غلط، وإن كان الغالب عليه الغلط ترك. قال الثوري في العلل: وإنما تفاضل أهل العلم بالحفظ والإتقان والتثبت عند السماع، مع أنه لم يسلم من الخطأ والغلط كبير أحد من الأئمة مع حفظهم. ا هـ. الترمذي
قال : وقد ذكرنا من مذاهب أهل العلم وأقاويلهم في درجات الحفاظ من وعاة العلم ونقال الأخبار والسنن والآثار، ما يستدل به ذو اللب على تفاوت أحوالهم ومنازلهم في الحفظ وأسبابه، فيعلم أن منهم المتوقي المتقن لما حصل من علم وما أدى منه إلى غيره، وأن منهم من هو دونه في رداءة الحفظ والتساهل فيه، وأن منهم المتوهم المتقن. مسلم
وقد اشترط النبي - صلى الله عليه وسلم - على سامع حديثه ومبلغه حين دعا له أن يعيه ويحفظه، ثم يؤديه كما سمعه، فالمؤدي لذلك بالتوهم غير المتيقن مؤد على خلاف [ ص: 37 ] ما شرط النبي - صلى الله عليه وسلم - وغير داخل في جزيل ما يرجى من إجابة دعوته عليه، والله أعلم.
فإن كان المؤدي جاء بخبر عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالتوهم قد أزال معنى الخبر بتوهمه عن الجهة التي قاله بنقصان فيه أو زيادة حتى يصير قائلا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كمن لا يعلم، لم يؤمن عليه الدخول فيما صح به الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: لأن عليه أن يعلم أن عمد التوهم في نقل خبر النبي - صلى الله عليه وسلم - محرم، فإذا علم ذلك ثم لم يتحاش من فعله، فقد دخل في باب تعمد الكذب، فإن كان لم يعلم تحريم ذلك فهو جاهل لما يجب عليه، والواجب عليه تعلم تحريمه، والانزجار عن فعله. من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.
وقال في العلل: وقد تكلم بعض أهل الحديث في قوم من جلة أهل العلم وضعفوهم من قبل حفظهم، ووثقهم آخرون من الأئمة بجلالتهم وصدقهم وإن كانوا وهموا في بعض ما رووا. قد تكلم الترمذي في يحيى بن سعيد القطان محمد بن عمرو ثم روى عنه.. إلى أن قال: قال علي: ولم يرو يحيى عن شريك ولا عن ، ولا عن أبي بكر بن عياش ، ولا عن الربيع بن صبيح المبارك بن فضالة. ا هـ. قال : وإن كان الترمذي قد ترك الرواية عن هؤلاء، فلم يترك الرواية عنهم أنه اتهمهم بالكذب، ولكنه تركهم لحال حفظهم... وقد حدث عن هؤلاء الذين تركهم يحيى بن سعيد القطان يحيى بن سعيد القطان: ، عبد الله بن المبارك ووكيع بن الجراح، وغيرهم من الأئمة. قال وعبد الرحمن بن مهدي، ابن رجب في شرح العلل: اعلم أن الرواة أقسام: فمنهم من يتهم بالكذب، ومنهم من غلب على حديثه المناكير، لغفلته وسوء حفظه. وقسم ثالث: أهل صدق وحفظ، ويندر الخطأ والوهم في حديثهم أو يقل، وهؤلاء هم الثقات المتفق على الاحتجاج بهم. وقسم رابع: وهم أهل صدق وحفظ، ولكن [ ص: 38 ] يقع الوهم في حديثهم كثيرا، لكن ليس هو الغالب عليهم. وهذا القسم الذي ذكره ههنا، وذكر عن الترمذي أنه ترك هذه الطبقة، وعن يحيى بن سعيد القطان ابن المبارك وابن مهدي وغيرهم أنهم حدثوا عنهم، وهو أيضا رأي ووكيع سفيان ، وأكثر أهل الحديث المصنفين، منهم في السنن والصحاح: وغيره، فإنه ذكر في مقدمة كتابه أنه لا يخرج حديث من هو متهم عند أهل الحديث أو عند أكثرهم، ولا من الغالب على حديثه المنكر أو الغلط، وذكر قبل ذلك أنه يخرج حديث أهل الحفظ والإتقان، وأنهم على ضربين: أحدهما: من لم يوجد في حديثه اختلاف شديد، ولا تخليط فاحش. والثاني: من هو دونهم في الحفظ والإتقان، ويشملهم اسم الصدق والستر وتعاطي العلم: كمسلم بن الحجاج كعطاء بن السائب، ، ويزيد بن أبي زياد فقيل: إنه أدركته المنية قبل تخريج هؤلاء، وقيل: إنه أخرج لهم في المتابعات، وذلك كان مراده. وعلى هذا المنوال نسج وليث ابن أبي سليم. أبو داود والنسائي ، مع أنه خرج لبعض من هو دون هؤلاء، وبين ذلك ولم يسكت عنه. والترمذي
وقال الذهبي في (السير) عند الحديث عن : الرجل ثقة مطلقا، ولا عبرة بما قاله الحافظ هشام بن عروة من أنه أبو الحسن بن القطان اختلطا وتغيرا، فإن الحافظ قد يتغير حفظه إذا كبر وتنقص حدة ذهنه، فليس هو في شيخوخته كهو في شبيبته. وما ثم أحد بمعصوم من السهو والنسيان، وما هذا التغير بضار أصلا، وإنما الذي يضر الاختلاط، وسهيل بن أبي صالح وهشام لم يختلط قط، هذا أمر مقطوع به، وحديثه محتج به في الموطأ والصحاح والسنن، فقول ابن القطان: إنه اختلط، قول مردود مرذول، فأرني إماما من الكبار سلم من الخطأ والوهم: فهذا وهو في الذروة له أوهام، وكذلك شعبة معمر ، ، والأوزاعي رحمة الله عليهم [ ص: 39 ] . ومالك
فهذا هو منهج المحدثين في هذه المسألة، أنه ومن خرج عن هذا المنهج ردوا عليه ولم يقبلوا منه. قال لا تطرح رواية إلا من كثر منه الوهم والغلط، - رحمه الله - في ابن أبي حاتم فمنهم الثبت الحافظ الورع المتقن الجهبذ الناقد للحديث، فهذا الذي لا يختلف فيه ويعتمد على جرحه وتعديله ويحتج بحديثه وكلامه في الرجال; ومنهم العدل في نفسه، الثبت في روايته، الصدوق في نقله، الورع في دينه، الحافظ لحديثه المتقن فيه، فذلك العدل الذي يحتج بحديثه ويوثق في نفسه; ومنهم الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحيانا، وقد قبله الجهابذة النقاد فهذا يحتج بحديثه; ومنهم الصدوق الورع المغفل الغالب عليه الوهم والخطأ والغلط والسهو، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام; وخامس قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم ممن ليس من أهل الصدق والأمانة ومن قد ظهر للنقاد العلماء بالرجال أولى المعرفة منهم الكذب، فهذا يترك حديثه ويطرح روايته الأئمة. مراتب الرواة:
وتقدم قول ابن مهدي، ، والثوري ، والترمذي وابن رجب عليهم جميعا، رحمهم الله.