[ ] وأما الرابع : وهو شروط التخيير ، وقد ذكروا له شروطا : أحدها : أن يتعلق بما يصح اكتسابه . [ ص: 262 ] الثاني : أن تتساوى الأشياء في الرتبة من جهة التخيير في الوجوب والندب والإباحة ، وسواء كانت متضادة أو مختلفة ، فلا يجوز التخيير بين قبيح ومباح ، ولا بين واجب ومندوب ، وإلا لانقلب أحدهما الآخر ، ولا بين حرام وواجب فإن التخيير بين التحريم ونقيضه يرفع التحريم ، والتخيير بين الواجب وتركه يرفع الوجوب . ولهذا إذا تعارض دليلان عند المجتهد بهذه المثابة تساقطا وامتنع التخيير . ولهذا أيضا ردوا على شروط التخيير استدلاله على وجوب النكاح بقوله تعالى { داود فانكحوا ما طاب لكم من النساء } ; لأن قوله { أو ما ملكت أيمانكم } تخيير بين النكاح وبين ملك اليمين . والثاني : لا يجب إجماعا ، فلذلك ما خير بينه وبينه ، وقد استشكل على ذلك قضية تخييره صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بين الخمر واللبن ، فأجيب بأن المراد تفويض الأمر في تحريم ما يحرم ، وتحليل ما يحل إلى اجتهاده صلى الله عليه وسلم وسداد نظره المعصوم ، فلما نظر فيهما أداه اجتهاده إلى تحريم الخمر وتحليل اللبن ، فوافق الصواب .
قلت : وأصل السؤال غير وارد ، إذ لا نسلم أن التخيير وقع بين مباح [ ص: 263 ] وحرام ، إذ تلك الخمرة من الجنة ، لا يقال : لو كان كذلك لم يجتنبها ; لأنا نقول : لما شابهت الخمرة المحرمة تجنبها ، وذلك أبلغ في الورع وأدق سلمنا . إلا أن الخمر كانت حينئذ مباحة ; لأنها إنما حرمت بالمدينة بلا خلاف ، والإسراء كان بمكة . فإن قلت : قول جبريل عليه الصلاة والسلام له حين اختار اللبن : أصبت يدل على أن اختيار الخمر خطأ عصم منه صلى الله عليه وسلم . قلت : يؤنس فيها بالتحريم المستقبل . وهنا أمران : أحدهما : أن الغزالي في المستصفى " عند الكلام في تعارض الأدلة أشار إلى احتمال بالتخيير ، وإن لم يتساويا في الرتبة ; لأن الوجوب إنما يناقض جواز الترك مطلقا ، أما جوازه بشرط فلا . بدليل : أن الحج واجب على التراخي ، وإذا أخر ثم مات قبل الأداء لم يعص إذا أخر مع العزم على الامتثال ، فظهر أن تركه بشرط العزم لا يناقض الوجوب ، بل المسافر يخير بين أن يصلي أربعا فرضا ، وبين أن يترك ركعتين واجبتين ، ويجوز تركهما ، ولكن بشرط قصد الترخص .
ثانيهما : لا يرد على هذا الشرط التخيير بين خصال الكفارة بأنها مخير فيها ، وليس الجميع بواجب ; لأنا نقول المراد أنه ما من واحدة يمكن الإقدام عليها إلا وتقع واجبا .
قال القاضي : وهذا مرادنا بالتساوي . الثالث : أن تكون متميزة للمكلف فلا يجوز التخيير بين متساويين من [ ص: 264 ] جميع الوجوه لا يتخصص أحدهما عن الآخر بوصف ، كما لو خير بين أن يصلي أربع ركعات ، وبين أن يصلي أربع ركعات مع تساويهما في كل النعوت . هذا مما لا يدرك في حكم التكليف ، وإن كان المتماثلان متغايرين كما أن المختلفين متغايران . الرابع : أن تكون معلومة للمخاطب .
الخامس : أن يكون وقتها واحدا بأن يتأتى الإتيان بكل واحد منهما في وقت واحد بدلا عن أغيارها ، فلو ذكر للمخاطب فعلان مؤقتان بوقتين فلا يكون ذلك تخيرا ، فإنه في وقت الإمكان لا يتمكن من الفعل الثاني ليتنجز ، وفي الثاني لا يتمكن من الأول فلا يتحقق وصف التخيير أصلا ، وإنما يتحقق ذلك في وصفين يجوز ثبوت أحدهما بدلا عن الثاني مع تقدير اتحاد الوقت . هكذا شرطه القاضي ، وبناه على أصله في وجوب العزم بدلا عن الفعل ، ونازعه ابن القشيري وغيره في هذا الشرط ، فإنه لو قال : خط هذا القميص يوم السبت ، أو هذا القباء يوم الأحد كان تخييرا صحيحا ، وقد ورد الشرع به في الصوم في السفر ، وقد يقع ، كقم أو اقعد ، أو خلافين ، كخصال الكفارة وجزاء الصيد ، أو مثلين كصل ركعتين غدا أو بعد غد ، وزعم التخيير بين الضدين المازري أنه لا يرد التكليف إلا على القول بتكليف ما لا يطاق ، وفيه نظر . السادس : أن يكون أحدهما معلقا بشرط ، وبهذا يرد على الرافعي وصاحب الحاوي الصغير " حيث جعلا غسل الرجلين أو المسح على الخف من الواجب المخير ، فإنه لا يمتنع التخيير بينهما في حالة واحدة ، كالعتق [ ص: 265 ] والإطعام مثلا . بل مسح الخف لا يجوز إلا بشروط ، وإذا لبسه بشرطه فلا يتصور مع دوام اللبس التخيير بل واجبه المسح ، فإن نزع فالغسل ; ولأن غسل الرجل لا يكون إلا عند فوات جواز المسح على الخف إلا أن يقال : إن الرجل تغسل وهي في الخف .