[ ] وهؤلاء المعترفون بالواجب الموسع اختلفوا في جواز تركه أول الوقت بلا بدل مع اتفاقهم على أنه يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء كان ، فقال جمهور الفقهاء : لا يشترط البدل ولا يعصي حتى يخلو الوقت كله عنه . [ ص: 279 ] العزم على الفعل ] وجمهور جواز ترك الواجب الموسع أول الوقت المتكلمين على أنه لا يجوز تركه إلى بدل ، وهو العزم على الفعل في ثاني الحال ، وإذا تضيق الوقت تعين الفعل حتى يتميز بذلك الواجب عن فعل النفل ، فلو مات في أثناء الوقت مع العزم لم يعص ، وهذا ما صار إليه ، الأستاذ أبو بكر بن فورك والقاضي أبو بكر ، ونقله عن المحققين ، ونقله صاحب الواضح " عن أبي علي ، ، وأبي هاشم وعبد الجبار المعتزليين ، وحكاه صاحب المصادر " عن الشريف المرتضى ، وأنكره الباقون كأبي الحسين البصري ، واختاره الآمدي والبصري فقالوا : لا حاجة إلى العزم بل يجوز التأخير بدونه ، وهما وجهان لأصحابنا . حكاهما القاضيان الطبري ، والماوردي وغيرهما . والصحيح منهما كما قاله النووي : وجوب العزم ; ولهذا أوجبوه على المسافر في جمع التأخير ، ونظير هذا المديون لا يجب عليه الأداء ما لم يطالب ، ويجب عليه العزم على أدائه عند المطالبة ، وممن أنكر العزم على القاضي إمام الحرمين لتخيله أمرين نسبهما إليه . أحدهما : أنه ظن أنه أخذ العزم من الصيغة ، ولا ظهور له منها ، فإذا كان يتوقف فيما لم يظهر قاطع فيه على أحد المحتملين ، فكيف لا يتوقف فيما لم يظهر له فيه احتمال ؟ . وثانيهما : أنه ظن أنه جعل العزم بدلا من نفس الفعل حتى إذا وجب العزم سقط وجوب نفس الفعل ، وليس كذلك فإنما أخذ القاضي العزم [ ص: 280 ] من دليل العقل الذي هو أقوى من دليل الصيغة من جهة أن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب ، والعزم عنده بدل من تقديم الفعل الواجب ، فإذا عزم فقد سقط وجوب التقديم لا بدل من نفس الفعل .
وكذا أنكره الإمام أبو نصر بن القشيري قال : ولعله يقول : حكم العزم الأول ينسحب على جميع الأوقات فلا يجب تذكره في كل حال ، كالنية في الصلاة . قال : وعنده أن دليل العزم لا يتلقى من اللفظ بل من دليل آخر ، وهو خروج عظيم ، وأدنى ما فيه التزام أمر لم يشعر به اللفظ ، قال : ومن عجيب الأمر توقف القاضي في صيغة " افعل " إذا وردت على التردد ، ثم التزام إثبات العزم الذي ليس في اللفظ إشعار به ، ثم إنه وجب في كل وقت الفعل أو العزم ، فقد أخرج الفعل عن كونه واجبا على التعيين . قال : وقد أجمع المسلمون على أنه لا يجب على المخاطب الاعتناء بالعزم في كل وقت إلا تيقن الامتثال فيه . وأطنب إلكيا الهراسي في تزييف القول بالعزم ، وقال : يجب طرحه ، وقال : لم يذكره أصحابنا المتقدمون ، ولا يحفظ عن القاضي أبو الطيب . الشافعي
واختار الغزالي طريقة وسطى وهي الفرق بين الغافل عن الفعل والترك ، فلا يجب عليه العزم ، وبين من خطر بباله الفعل والترك ، فهذا وإن لم يعزم على الفعل عزم على الترك ضرورة ، فيجب عليه العزم على الفعل ، واستحسنه القرافي في قواعده " ، وهو في الحقيقة راجع لمذهب القاضي ، إذ ليس لنا قائل بوجوب العزم مع الغفلة ; لأنه محال . وقال : لما كان المازري القاضي يريان أن من مات في أثناء [ ص: 281 ] الوقت قبل الفعل لا يأثم ألزموا الجمع بين إباحة الشيء والتأثيم منه ; لأنا نجوز له التأخير ، فكيف نؤثمه ؟ اعتذر عن هذا الإلزام بأن أثبتوا العزم على إيقاع الفعل بدلا من تقديم إيقاعه ، ورأوا أن التأخير لم يسقط وجوبه إلا بإثبات عوض منه ، وهو العزم ، فأشبه تخيير الحانث بين الإطعام والكسوة ، فإن الإطعام وإن لم نؤثمه في تركه إذا لم يفعله ، وعوض عنه الكسوة لم يخرج عن حقيقة الوجوب ألبتة ، وإنما يسقط إلى بدل ، وأنكر وابن فورك إمام الحرمين إثبات العزم هنا ولم يره انفصالا عن الإلزام .
قال : وكان دار بيني وبين المازري الشيخ أبي الحسن اللخمي في هذا مقال فإنه أنكر إيجاب العزم واستبعده كما استبعده الإمام ، فلم يكن إلا قليلا حتى قرأ القارئ في حديث { البخاري } الحديث ، وفيه تعليل النبي صلى الله عليه وسلم بكون المقتول في النار ، لكونه حريصا على قتل صاحبه ، فقلت : هذا يدل إذا التقى المسلمان بسيفيهما للقاضي ، فلم يجب بغير الاستبعاد .
وذكر الإمام عن القاضي أنه يقول بالعزم ، وتردد المكلف بين العزم والفعل كل وقت إلى آخر زمن الإمكان ، ثم قال : ولا يظن بهذا الرجل العظيم يعني القاضي أنه يوجب العزم تكريرا ، وإنما يراه يجب مرة واحدة ، [ ص: 282 ] ويستحب حالة هذه الأزمنة ، كالنية المنسحب حكمها من أول العبادة على أثنائها ، وهذا خلاف ما حكي عنه أولا . ا هـ .
والقائلون بالعزم اختلفوا ، فقيل : هو بدل من نفس الفعل الذي هو الصلاة وغيرها ، وهو قول الجبائي ، واقتصر عليه الشيخ في اللمع " ; لأن الواجب لا يجوز تركه ، وقيل : إنما وجب ليتميز الواجب عن غيره ، واختاره ; لأن العزم لو كان بدلا لسقط به الوجوب ، وقيل : هو بدل من فعلها أول الوقت ، لا من فعلها ; لأنه لو كان بدلا منها لسقطت . قالوا : ومعنى قولنا إنه بدل من فعلها في أول الوقت الأول أنه بدل من فعل لو وقع لبرئت ذمته ، وهو غير الفعل الذي يقع من بعد . حكاه القاضي أبو الطيب في الملخص " في الكلام على أن الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو التراخي ؟ وقال القاضي عبد الوهاب أبو الحسين في المعتمد " : المثبتون للبدل اختلفوا هل هو من فعل الله سبحانه أو من فعلنا ؟ فقال أبو علي : إن بدل الصلاة أول الوقت ووسطه هو العزم على أدائها في المستقبل . وقال بعض أصحابنا : إن لها في أول الوقت ووسطه بدلا يفعله الله سبحانه يقوم مقام الصلاة ، وهو ضعيف ; لأنه يلزم عنه أن لا يحسن لتكليف الصلاة من يعلم الله أنه يخترم في الوقت ; لأنه يقوم فعل الله سبحانه مقام فعله في المصلحة الحاصلة قبل خروج الوقت ، فلو كلفه الصلاة لكان إنما كلفه بمجرد الثواب فقط . [ ص: 283 ] وأبو هاشم
واعلم أن أصحابنا اتفقوا في الأمر المطلق على وجوب العزم عند ورود الأمر ، وكأن الفرق : أن المقيد بوقت موسع لما كان آخر وقته معلوما بأن ذلك مع اعتقاد وجوبه ينافي العزم على الفعل بخلاف الأمر المطلق ، فإن العزم فيه ينوب مناب تعجيل الفعل وتعيين الوقت . ذكره بعض شراح اللمع " .