مسألة ( ما لا يتم ترك الحرام إلا به ) ينقسم أيضا إلى الأقسام الثلاثة السابقة في مقدمة الواجب ، كما قاله ما لا يتم ترك الحرام إلا به ابن برهان . فالأول : ما كان من أجزائه كالزنى . فإن النهي عنه نهي عن أجزائه ، وهي الإيلاجات والإخراجات ، ولا فرق بين أن يقول : لا تزن ، وبين أن يقول : لا تولج ولا تخرج ، والثاني : ما كان من شروطه وأسبابه كمقدمات الوطء من المفاخذة ، والقبلة ، وسائر الدواعي بعد ذلك ، ومنه العقد على الأم ، فإنه لما كان سبب الوطء ، وهو منهي عنه كان العقد الذي هو سبب إليه منهيا عنه . [ ص: 340 ]
الثالث : ما كان من ضروراته كما إذا اختلطت أخته بأجنبيات في بلدة صغيرة حرم عليه نكاحهن ، وإن كنا نعلم أن نكاح الأجنبيات ليس بحرام ، لكن لما اختلطت بهن الأخت ، وعسر التمييز كان تحريم الأجنبيات من ضرورات تحريم نكاح الأخت ، ولهذا لو تعينت حرم نكاحها على الخصوص ، ويقرب من هذا القسم ما لو وقعت النجاسة في الماء ، فإن من أصحابنا من أجراه على هذا الأصل ، وقال : الماء طاهر في عينه ، ولم يصر نجسا بحال ، وإنما النجاسة مجاورة ، فلم ينه عن استعمال الطاهر ، لا يتأتى إلا باستعمال النجس . فكان تحريم استعمال الطاهر من ضروراته استعمال النجس إلا أن هذا لا يليق بأصول ، بل هو أشبه بمذهب الشافعي ; لأن قاعدته . أن الماء جوهر طاهر ، والطاهر لا يتصور أن يصير نجسا في عينه بالنجاسة ; لأن قلب الأعيان لا يدخل تحت وسع الخلق ، بل هو باق على أصل الطهارة ، وإنما هو نهي عن استعمال النجاسة . أبي حنيفة
ويستدل على هذا بفضل المكاثرة ، فإنه لو كوثر عاد طهورا بالإجماع ، ولو صار الماء عينه نجسا بالمخالطة لما تصور انقلابه طاهرا بالمكاثرة . قال وهو باطل ، فإن المائع اللطيف إذا وقعت فيه نجاسة خالطت أجزاؤه أجزاءها ، وامتزجت به لا يمكن التمييز ، فوجب الحكم بنجاسة الكل ; لأن النجاسة لا معنى لها إلا الاجتناب ، ولا شك أن وجوب الاجتناب ثابت في الكل وقد وافق على حكاية هذا الخلاف ابن السمعاني في " القواطع " ، فقال فمنهم من قال يصير كله نجسا ، وهو اللائق بمذهبنا ، وقيل : إنما حرم الكل لتعذر الإقدام على المباح قال وهو يليق بمذهب أبي حنيفة قلت وهو الذي أورده الإمام في " المحصول " وما أورده ابن برهان [ ص: 341 ] في الاعتراض عليهم رده الأصفهاني بأن وجوب الاجتناب عند اختلاط النجاسة بالماء متفق عليه ، وإنما الكلام في علة الاجتناب ما هي ؟ وقال في " المعتمد " : اختلفوا في اختلاط النجاسة بالماء الطاهر ، فقيل : يحرم استعماله على كل حال ، ومنهم من جعل النجاسة مستهلكة ، واختلفوا في الأمارة الدالة على استهلاكها ، فمنهم من قال : هي عدم تغير الماء ، ومنهم من قال : هي كثرة الماء . أبو الحسين
واختلف هؤلاء فمنهم من قدر الكثرة بالقلتين ، ومنهم من قدرها بغير ذلك . إذا علمت هذا ، فنقول : إذا لم يمكن الكف عن المحظور إلا بالكف عما ليس بمحظور ، كما إذا اختلط بالطاهر النجس كالدم والبول يقع في الماء القليل أو الحلال بالحرام ، فإما أن يختلط ويمتزج بحيث يتعذر التمييز ، فيجب الكف عن استعماله ، ويحكم بتحريم الكل . قاله إمام الحرمين في " التلخيص " وغيره ، وكذا لا يختص التحريم بالممنوع أصالة ، ذكره ابن السمعاني في " القواطع " ، وظاهر كلامه أنه لا يتأتى فيه الخلاف السابق : في أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وإن حكى الخلاف في كيفية التحريم على ما سبق .
أما إذا لم يختلط بدخول أجزاء البعض في البعض فهو على ثلاثة أقسام : أحدها : ما يجب الكف عن الكل ، كالمرأة التي هي حلال تختلط بالمحرمات ، والمطلقة بغير المطلقة ، والمذكاة بالميتة ، فيحرم إحداها بالأصالة وهي المحرمة والأجنبية والميتة ، والأخرى بعارض الاشتباه وهي الزوجة ، والمذكاة ; لأن المحرم بالأصالة يجب اجتنابه ولا يتم اجتنابه إلا باجتناب ما [ ص: 342 ] اشتبه به ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وقيل : تباح المذكاة والأجنبية ولكن يجب الكف عنهما . قال الغزالي : وأما توهم هذا من ظن أن الحل والحرمة وصف ذاتي لهما أي : قائم بذاتهما ، كالسواد والبياض بالأسود والأبيض ، وليس كذلك بل الحل والحرمة متعلقان بالفعل ، وهما الإذن في الفعل ووجوب الكف ، وحينئذ يتحقق التناقض ، وقد يقال : إن مراد هذا القائل أن تحريم الأجنبية والمذكاة بعارض الاشتباه ، وهما في نفس الأمر مباحتان ، فالخلاف إذن لفظي . الثاني : ما يسقط حكم التحريم ، كما إذا اختلطت محرم بنساء بلدة عظيمة ، فيجعل كالعدم ، ويباح له نكاح أي امرأة أراد .
الثالث : ما يتحرى فيه ، كالثياب والأواني . قال الإمام في " المحصول " : وكان القياس عدم التحري ; لأن ترك استعمال النجاسة لا يتأتى بيقين إلا بترك الجميع . قال : وهاهنا فيه خلاف ، يعني هل يتوقف على الاجتهاد أم يجوز الهجوم بمجرد الظن ؟ والأصح : الأول ، ومن القسم الأول : لو قال لزوجتيه : إحداكما طالق ولم ينو معينة حرمتا جميعا إلى حين التعيين ; لأن كلا منهما يحتمل أن تكون المطلقة وغيرها ، غلب الحرام ، وحكاه وإذا اجتمع الحلال والحرام الغزالي في " المستصفى " عن أكثر الفقهاء ، وقال قبله : يحتمل أن يقال : يحل قبلهما والطلاق غير واقع ; لأنه لم يبين له محلا ، فصار كما إذا باع أحد عبديه ، ويحتمل أن يقال : حرمتا جميعا ، وأنه لا يشترط [ ص: 343 ] تعيين محل الطلاق ، ثم عليه التعيين ، وإليه ذهب أكثر الفقهاء ، والمنع في ذلك موجب ظن المجتهد ، أما المضي إلى أن إحداهما محرمة ، والأخرى منكوحة كما توهموه في اختلاط المنكوحة بالأجنبية فلا ينقدح هاهنا ; لأن ذلك جهل من الآدمي عرض بعد التعيين . أما هذا فليس متعينا في نفسه ، بل يعلمه الله تعالى مطلقا لإحداهما لا بعينها . ا هـ .
وما قاله أولا من احتمال حل الوطء هو المنقول عن من أصحابنا ، وحكاه عنه ابن أبي هريرة في كتاب " الخلاف والإجماع " ، ولو قيل : بحل وطء إحداهما بناء على أن الوطء لإحداهما تعيين للطلاق في الأخرى ، كما هو أحد الوجهين لم يبعد ، ثم إذا عين إحداهما في نيته . قال ابن هبيرة الإمام في باب الشك في الطلاق من " النهاية " : أطلق الأصحاب التحريم ما لم يقدم بيانا . قال : ويحتمل أنه إذا عرف المطلقة حل له وطء الأخرى في الباطن ، وهو ممنوع من غشيانهما جميعا . أما إذا غشي إحداهما فما سبب المنع حينئذ ؟ ثم حمل كلام الأصحاب على ما إذا ظهرت الواقعة للحاكم ، ولم يثبت عنده تعيين بالنية . أما لو قال لها ولأجنبية : إحداكما طالق ، فهل يقبل قوله : أردت الأجنبية ؟ وجهان ، وحكى الرافعي في باب العتق عن ابن سريج أنه لو قال : لعبده وعبد غيره : أحدكما حر لم يكن له حكم ، ثم قال : وهذا غير مسلم ، فإن الوجهين في نظيره من الطلاق متفقان على أن له حكما وأثرا .