[ ] جواز تكليف المحال
أما الجواز ففيه مذاهب : أحدها : وهو مذهب الجمهور جوازه مطلقا ، قال ابن برهان : وهو قول المتقدمين من أصحابنا كالقاضي أبي بكر . والشيخ أبي الحسن الأشعري
وقال إمام الحرمين في " الشامل " الذي مال إليه أكثر أجوبة شيخنا وارتضاه المحصلون من أصحابه أن تكليف المحال جائز عقلا ، وكذلك تكليف الشيء مع تقدير المنع منه استمرارا ، وفي بعض أجوبته لا يسوغ تكليف المحال كجمع الضدين ، والإقدام على المأمور به مع استمرار المانع منه ، ومع تحقق العجز ثم لم يصر في منعه إلى التقبيح الذي ادعته المعتزلة ، فإن هذا الأصل باطل عندنا . وقال " الإرشاد " : من صور تكليف ما لا يطاق اجتماع الضدين ، وإيقاع ما يخرج عن قبيل المقدورات . والصحيح عندنا : أنه جائز عقلا غير مستحيل . ا هـ .
وقد نص في كتاب " الوجيز " على الجواز ، فإنه استدل على القائلين باستحالته بقوله تعالى : { الشيخ أبو الحسن ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فقال : ولو كان ذلك محالا لما استقام الابتهال إلى الله بدفعه . ا هـ . يعني لولا جوازه لما استعاذوا منه ، إذ الاستعاذة من محال محال ، والخصم يتأوله على ما فيه كلفة ومشقة ، ثم هي معارضة بقوله تعالى في صدر الآية : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } . [ ص: 112 ]
وحاول بعض المتأخرين نفي هذا المذهب عن ، وزعم أن الذي جوزه ورود صيغة مضاهية لصيغة الأمر ، والغرض منها تعجيز وتبيين حلول العقاب الذي لا محيص عنه ، وليس المراد طلبا واقتضاء ، ومثل بقوله تعالى : { الشيخ أبي الحسن حتى يلج الجمل في سم الخياط } فإن ظاهره تعليق الخلاص من العقاب بانسلاك الجمل في سم الخياط ، وليس هو على الحقيقة تعليقا ، وإنما هو إبداء اليأس من النجاة .
ويدلك على ذلك صدر الآية { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وهذا ما حكاه إمام الحرمين في " الشامل " عن والده وارتضاه صاحب " المحصول " حيث قال في بعض الأجوبة في هذه المسألة : المراد بقولنا : التكليف بالمحال جائز أنه يجوز من الله تعالى الأمر بالمحال لذاته لا بمعنى أنه يتصور الطاعة منا في ذلك ، بل بمعنى أنه يجوز من الله تعالى أن يأمر بأمر نعجز عنه قطعا وأنه متى أمرنا به حصل الإعلام بنزول العقاب لكن الشيخ أبي محمد الجويني إمام الحرمين لما حكاه عن والده قال : وفيه نظر ، وذلك لم يصح عقلا تسمية الطلب من المحال لزم مثله وتكليف من لا قدرة له على الفعل وإن ساغ تسمية ذلك طلبا ساغ في تكليف المحال ويعتضد ذلك بأصل عظيم من أصولنا ، وهو أن التكليف الصادر ليس من شرط ثبوته كون المكلف مريدا لوقوع المكلف به ، وإنما يستحيل إرادة وقوع المحال ، وأما طلبه مع انتفاء إرادة امتناعه فلا استحالة فيه .
والثاني : المنع مطلقا ، وهو المنقول عن المعتزلة ، قال ابن برهان في " الأوسط " : وساعدهم أبو حامد الغزالي . [ ص: 113 ] قلت : والشيخ أبو حامد الإسفراييني وإمام الحرمين وابن القشيري ، ونقله في " المرشد " عن كثير من أئمتنا ومن الأقدمين في كتاب " الدلائل والإعلام " وهو ظاهر نص أبو بكر الصيرفي رضي الله عنه في " الأم " فإنه قال : يحتمل أن يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم { الشافعي } أن عليكم إتيان الأمر فيما استطعتم ، لأن الناس إنما كلفوا فيما استطاعوا من الفعل استطاعة شيء ; لأنه شيء مكلف . فأتوا منه ما استطعتم
وأما النهي فالترك لكل ما أراد تركه منقطع ، لأنه ليس بتكليف شيء يحدث ، إنما هو شيء متكلف عنه . ا هـ لفظه .
قال ابن القشيري : وليس مأخذ المانعين من الأصحاب التقبيح العقلي كما صار إليه المعتزلة بل مأخذهم : أن الفعل والترك لا يصحان من العاجز فبطل تقدير الوجوب وعلى هذا إنما كلف أبو لهب بأن يصدق بأن لا يصدق ، بل كلف أن يصدق ، ولو صدق لكان ممن لا يصدق ، لقوله : { سيصلى نارا ذات لهب } أي إن لم يؤمن ، وخلاف المعلوم مقدور ، فلا يمكن تكليف العاجز .
والثالث : التفصيل بين أن يكون ممتنعا لذاته فلا يجوز ، أو لغيره فيجوز ، ونقل عن معتزلة بغداد واختاره الآمدي ونقله عن ميل الغزالي وقد رأيت في " الإحياء " له التصريح بالجواز ، وقال خلافا للمعتزلة وحينئذ فقد وجد له الأقوال الثلاثة . ولذلك قال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في " شرح العنوان " المختار امتناع التكليف بالمحال ، والذي يمنعه المحال بنفسه وإيمان أبي لهب ممكن في نفسه مستحيل لتعلق العلم بعدمه فلا يكون [ ص: 114 ] داخلا في ما منعناه ، هذا كلامه ، وغلط من نقل عنه المنع مطلقا .
وذهب الأستاذ أبو إسحاق إلى أنه يجوز أن يرد التكليف بالمحال ، فإن ورد لا نسميه تكليفا بل علامة نصبها الله على عذاب من كلفه بذلك .
قال ابن برهان : والخلاف على هذا لفظي ، وعلى قول المعتزلة معنوي ، وقال في " الوجيز " : إذا قلنا بالجواز فاختلفوا ، فمنهم من منع تسميته تكليفا وإليه مال الأستاذ ، والأكثرون من أصحابنا على تسميته تكليفا .