تنبيه [ ] السكران
السكران عند الأصوليين ليس بمكلف منهم القاضي في التقريب " وإمام الحرمين في التلخيص " والغزالي والشيخ أبو إسحاق وابن برهان في الوجيز " وابن القشيري .
وقال الإمام في الأساليب " : السكران عندنا غير مخاطب فإنه يستحيل توجه الخطاب على من لا يتصور ، ولكن غلظ الأمر في سكره ردعا ومنعا ، فألحق بالصاحي . ممن قال : إنه غير مخاطب مجلي في الذخائر " ، وقال : إنه الصحيح من أقوال العلماء . قال : وإنما وجب القضاء تغليظا عليه ، ونقله النووي في الروضة " عن أصحابنا الأصوليين . قال : ومرادهم أنه غير مخاطب حالة السكر ، ومرادنا أنه مكلف بقضاء العبادات بأمر جديد . [ ص: 68 ] قلت : والصحيح : أن السكران المعتدي بسكره مكلف مأثوم .
هذا هو مذهب نص عليه في الأم " فقال : الشافعي لزمه الطلاق والحدود كلها والفرائض ، ولا تسقط المعصية بشرب الخمر ، والمعصية بالسكر من النبيذ عنه فرضا ولا طلاقا . ومن شرب خمرا أو نبيذا فأسكره فطلق
فإن قال قائل : فهذا مغلوب على عقله ، والمريض والمجنون مغلوب على عقله . قيل : المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله .
وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم ، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب ؟ والصلاة مرفوعة عن من غلب على عقله ولا ترفع عن السكران ، وكذلك الفرائض من حج أو صوم أو غير ذلك . ا هـ .
ولهذا قال في كتابه في الأصول : مذهب الشيخ أبو حامد أنه مكلف ونسب مقابله إلى الشافعي ، ولهذا صحح أبي حنيفة تصرفاته ، واحتج لذلك فيما نقله الشافعي بقوله : { البيهقي } . قال : والسكران ليس في معنى واحد من هؤلاء ، ولأنه يجب عليه قضاء الصلوات بخلاف المجنون . رفع القلم عن ثلاثة
قال في الأم " . المريض مأجور مكفر عنه مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله ، وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم . ا هـ . الشافعي
قيل : وقول مضروب على السكر " : فيه تجوز إنما هو على الشرب سكر أم لم يسكر ، لكنه يريد على سبب السكر . [ ص: 69 ] الشافعي
وقد استشكل بعضهم نص على تكليفه مع إخراج الأصوليين له عن ذلك ، والتسوية بينه وبين سائر من لا يفهم . الشافعي
قال الغزالي : بل السكران أسوأ حالا من النائم الذي يمكنه تنبيهه ، فإما أن يكون ما قاله قولا ثالثا مفصلا بين السكران وغيره للتغليظ عليه ، وهو الأقرب ، أو يحمل قوله على السكران الذي ينتقل عن رتبة التمييز دون الطافح المغشى عليه ، ولا ينبغي أن يظن ظان من ذلك أن الشافعي يجوز تكليف الغافل مطلقا ، فقدره رضي الله عنه يجل عن ذلك . الشافعي قلت : وبالثاني صرح أبو خلف الطبري كما سنذكره ، والأقرب احتمال ثالث ، وهو أن التكليف في حقه مستصحب لا واقع وقوعا مبتدأ كما قال إمام الحرمين في الخارج من الدار المغصوبة : إنه مرتبك في المعصية .
القائلون بعدم تكليفه اختلفوا في الجواب عما احتج به من التزامه بقضاء العبادات وصحة التصرفات ، فقيل : لا دلالة دالة على ثبوتها في حقه بعد الإفاقة . الشافعي
وقال ابن سريج : لما كان سكره لا يعلم إلا من جهته ، وهو متهم في [ ص: 70 ] دعوى السكر لفسقه ألزمناه حكم أقواله وأفعاله وطردنا ما لزمه في حال اليقظة .
وقال الغزالي : إلزامنا له ذلك من قبيل ربط الحكم بالسبب ولا يستحيل ذلك في حق من لا تكليف عليه يعني أنه من خطاب الوضع .
وأنكر بعض المتأخرين ذلك وقال : هذا الجواب ليس بصحيح ، فإن خطاب الوضع لا يقتضي قتلا ولا إيقاع طلاق ولا إلزام حد ، وكون الزنا جعل سببا لإيجاب الحد على الزاني لا يستطيع أحد أن يقول : إنه من باب خطاب الوضع . قلت : الطلاق مما اجتمع فيه الخطابان ، لأنه إما مباح أو مكروه ، وهو منصوب سببا للتحريم ، فيكون من خطاب الوضع ، وكذلك القتل هو محرم ، وهو منصوب سببا لما ترتب عليه من القصاص والدية ، وثبوت القصاص أو الدية خطاب وضع فقط لا تكليف . حقه كما في الإرث ، والله أعلم .
وقال في محاسن الشريعة " : اختلف في السكران ، فقيل : لا يقع طلاقه ، لزوال عقله ، وقيل : يجوز طلاقه ، لأنه في الشريعة مخاطب مكلف تلزمه الأحكام في حال سكره إذا كان زوال عقله بأمر عصى الله فيه ، فعوقب بأن ألحق بالمكلفين ردعا له ولغيره عن شرب الخمر . القفال الشاشي
قال : وكلا القولين جائز محتمل لورود الشريعة بهما . ا هـ . قلت : والظاهر أن الخلاف في غير المنتهي إلى ما لا يعقل ألبتة ، وبذلك صرح أبو خلف الطبري في كتاب الطلاق من شرح المفتاح " ، فقال : قلت : والذي يجب أن يقال في : إن تصرف السكران : السكران على نوعين
أحدهما : يعقل ما يقول : فهذا مخاطب وتصح جميع تصرفاته ، [ ص: 71 ]
والثاني : لا يعقل ما يقول ، وقد زال عقله وذهب حسه بالكلية ، فهذا غير مخاطب فلا يصح شيء من تصرفاته ، ولا حكم لكلامه ، وهذا أدون حالة من المجنون هذا هو اختياري . انتهى كلامه .
وهذا هو قضية كلام الإمام في النهاية " ، وصرح بأنه إذا انتهى إلى حالة النائم والمغمى عليه ، فالوجه القطع بإلحاقه بهما .
قال : وأبعد من أجراه على الخلاف ، وقال ابن العربي في المحصول " الخلاف في الملتج أما المنتشي ، فمكلف إجماعا . قلت : ويدل عليه جوابهم عن الآية ، وممن أطلق تكليف السكران شيخا المذهب أبو حامد والقفال ، ونقلاه عن المذهب ، وجزم به في فتاويه " القاضي الحسين والبغوي والروياني والشيخ أبو محمد الجويني وأبو الفضل بن عبدان في كتاب الأذان من شرائط الأحكام " وجزم به ابن السمعاني في القواطع " ، ونقله ابن برهان في الأوسط " عن الفقهاء من أصحابنا وأصحاب ، ثم نقل المنع عن المتكلمين منا ومن أبي حنيفة المعتزلة . [ ص: 72 ]
وقال : قال أبي : قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : وجدت السكران ليس بمرفوع عنه القلم ، وكان أبي يعجبه هذا ويذهب إليه . ا هـ . الشافعي
وأطال في التقريب " عدم تكليفه ، ثم قال ما حاصله : إنه مكلف لكن بعد السكر بما كان في السكر ، وهذا الكلام مجمع مذاهب الفريقين . القاضي أبو بكر
وصرح الإمام في البرهان " بأنه غير مكلف مع تقريره في كتب الفقه مؤاخذته المصرحة بالتكليف ، وهو مؤول بما سبق . وقال ابن القشيري : هو غير مكلف بمعنى أنه يمنع توجه الخطاب إليه ، أما ثبوت الأحكام في حقه ، وتنفيذ بعض أقواله فلا يمنع . قال : وهذا مطرد في تكاليف الناسي في استمرار نسيانه ، إذ لو كان ممن فهم الخطاب ، لكان متذكرا لا ناسيا ، قال : ولعل من قال بتكليفه بناه على جواز تكليف ما لا يطاق .
وقال الإبياري : الظاهر عندنا تكليف السكران .
وقال بعض المحققين : التكليف بمعنى إيجاب القضاء عام في الناسي والنائم والسكران ، وبمعنى عدم الخطاب حاصل في النائم والناسي . وأما السكران فعند الأصوليين يلحق بهما ، وعندنا بخلافه ، وظاهر كلام [ ص: 73 ] أنه مخاطب حالة السكر ، وكذلك الشيخ أبي حامد الماوردي وابن عبدان . ولا شك أن القول بتكليف السكران باعتبار ترتب الأحكام لا إشكال فيه ، وهو نوع من خطاب الوضع ، وقد يدخلونه في خطاب التكليف كما أدخلته طائفة في حد واحد .
وأما باعتبار الإثم على ما يصدر منه حال السكر ، فإن كان فيه نشاط فواضح ، وإن كان طافحا أو مختلطا فمحل نظر . ولعل الفقهاء لا يرون الإثم ، أو لعلهم يريدون الطافح ، والأصوليون يريدون المختلط ، فإن التكليف فيهما تكليف مع الغفلة .