[ ص: 164 ] مسألة [ ] أطلق الحكم هل هو قطعي أم ظني ؟ ابن برهان في كتابه الكبير هنا أن الحكم عندنا قطعي خلافا ، فإنه عنده ظني ، وبين مراده به في باب القياس ، فقال : الحكم قطعي في الأحوال كلها سواء أضيف إلى الدليل القطعي أو الظني ; لأن الحكم قطعي ثابت عند الظن لا بالظن ، والقطع غير معتبر . انتهى . لأبي حنيفة
يريد أن الظن في الشرعيات ينزل منزلة العلم القطعي في القطعيات . والحكم قطعي ; لأن ثبوت الحكم عند وجود غلبات الظنون قطعي فلا ينصرف إليه الظن . ومثاله : حكم القاضي بقول الشهود ظني ، ولكن الحكم عند ظن الصدق واجب قطعي ، وهو حاصل كلام المحصول في جوابه عن قولهم : الفقه من باب الظنون بناء على أن الحكم مبني على مقدمتين قطعيتين ، وما انبنى على القطعي قطعي ; لأنه يبنى على حصول الظن ، وحصوله وجداني ، وعلى أن ما غلب على الظن فحكم الله فيه العمل بمقتضاه ، وهذه مقدمة إجماعية ، وما أجمع عليه فهو مقطوع به ، فثبت أنه مبني على مقدمتين قطعيتين ، واللازم منه أنه قطعي . لكن الحق انقسام الحكم إلى قطعي وظني ، وممن صرح بذلك من الأقدمين في كتاب " الحدود " ، ومن المتأخرين الشيخ أبو إسحاق الشيرازي ابن السمعاني في " القواطع " . [ ص: 165 ] قال : وإنما قالوا : الفقه العلم بأحكام الشريعة مع أن فيه ظنيات كثيرة ; لأن ما كان فيه من الظنيات فهي مستندة إلى العلميات ، وقال ابن التلمساني : إنه الحق ، واختار أن المصيب واحد على ما نبين في باب الاجتهاد ، ووجوب اعتقاد أن هذا حكم الله ، أو الفتوى به ، أو القضاء غير نفس الحكم بأن هذا حلال أو حرام أو صحيح أو فاسد ، لاختلاف المتعلقات فيها . الشافعي
وقال الأصفهاني : في " شرح المحصول " : من الأحكام ما يثبت بأدلة حصل العلم بمقتضاها ، وذلك في الأحكام الثابتة بنصوص احتفت بقرائن تدفع الاحتمالات المتعارضة عنها بانحصار تعيين المدلول في واحد ، ومنه ما ثبت بأخبار آحاد . أو نصوص لم تعتضد بما يدفع الاحتمالات ، فتلك الأحكام مظنونة لا معلومة . قال : وهذا هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ويؤيده أن الأحكام لو كانت بأسرها معلومة لما انقسمت الطرق إلى الأدلة والأمارة ، ولما انتظم قولهم في المقدمات : إن كانت علمية فالنتيجة علمية ، وإن كانت ظنية فالنتيجة ظنية ، وإن كان بعضها علما وبعضها ظنيا فالنتيجة ظنية . وقال ابن دقيق العيد : إن الأحكام تنقسم إلى متواترات ، وهي مقطوع بها ، وإلى ما ليس كذلك ، وهي مظنونة ، وبرهانه : أن الظن من الصفات المتعلقة أي : لا بد له من مظنون ، ومتعلقه الحكم المتعين أو الأحكام التي هي غير بالغة حد التواتر عن صاحب الشرع ، فنركب قياسا . فنقول : هذه الأحكام ، أو هذا الحكم المعين متعلق [ ص: 166 ] الظن وما هو متعلق الظن فهو مظنون ، أو هذا الحكم مظنون . ثم نقول : هذه الأحكام مظنونة ، ولا شيء من المظنون بمعلوم فلا شيء من هذه الأحكام بمعلوم . وأما الدليل الذي ذكره الرازي فإنما ينتج بأن العمل بمقتضى الظن معلوم ، وهو بعد تسليم كون الإجماع قطعيا مسلم ، ولكنه حكم من الأحكام الشرعية ، وليس هو الأحكام الفقهية التي في أعيان المسائل التي تقام عليها الأدلة العلمية ، والذي يحقق هذا أنا نبني هذه المسألة على ما نختاره ، وهو أن لله حكما معينا في الواقعة ، وهو مطلوب المجتهدين ، ومنصوب عليه الدلائل ، فمن أصاب ذلك الحكم فهو مصيب مطلقا ، ومن أخطأه فلله عليه حكم آخر شرطه عدم إدراك ذلك الحكم الأول بعد الاجتهاد ، وهو وجوب المصير إلى ما غلب على ظنه ، وهذا الحكم معلوم . وليس يلزم من كون هذا معلوما كون الأول معلوما .
وقال في موضع آخر : المختار أن لله تعالى في الواقعة حكما معينا طلب العباد أن يقفوا عليه بدلائله المنصوبة ، وليس هذا بالحكم الأصلي . فإذا لم يقع العثور عليه أو ظن أن الحكم غيره نشأ هاهنا حكم آخر بهذه الحالة ، وهو وجوب العمل بما غلب على ظنه ، وليسم هذا بالحكم الفرعي ، وبهذا يتبين الرد على أن الأحكام معلومة من حيث إنها مبنية على مقدمتين قطعيتين ، وما كان مبنيا على مقدمتين قطعيتين فهو معلوم ، فالفقه معلوم ، وقرر كونها مبنية على مقدمتين قطعيتين بأنها مبنية على قيام الظن بالأحكام ، وعلى أن الإجماع قائم على أن الواجب على المجتهد اتباع ظنه فيرتب [ ص: 167 ] هذا الحكم على مقدمة وجدانية ومقدمة إجماعية وكلتاهما قطعيتان . فنقول : الذي ثبت من هذا أن وجوب العمل بمقتضى الظن قطعي ; لأنا نقول هكذا : الظن بهذا الحكم حاصل قطعا ، وإذا حصل الظن بحكم وجب العمل بمقتضى الظن فيه قطعا ، فوجب العمل بمقتضى الظن في هذا الحكم قطعا . لكن هذه النتيجة مسألة من مسائل الفقه ، ونحن لا نمنع أن بعض الأحكام معلومة قطعا .