مسألة وهو قسمان
أحدهما : ، كاستعارتهم أعضاء الحيوان لغير الحيوان . قالوا : رأس المال ، ووجه النهار ، وحاجب الشمس ، وعين الماء ، وكبد السماء ، فهذا القسم إذا ورد في الشرع حمل على ظاهره ، وهو الحقيقة ، حتى يدل دليل على أنه لغيرها . وهو المجاز ، لأن المجاز فيها لم يغلب استعماله ، فإن غلب استعماله حتى صار اسما عرفيا بالمعنى الثاني كقولهم : الغائط للمطمئن من الأرض - كان حمله على المجاز هو الظاهر ، حتى يدل الدليل على الحقيقة . وقد يتطرق إلى هذا القسم الإجمال ، فإن تساوى الحقيقة والمجاز في كثرة الاستعمال ، كقوله تعالى : { الألفاظ المستعارة وهي المقولة أولا على شيء ، ثم استعيرت لغيره لمناسبة بينهما وأنزلنا معهم الكتاب والميزان } فإن المراد هاهنا العدل ، وهو محتمل لذلك احتمالا يساوي الحقيقة - فيلحق بالمجمل .
والثاني : من هي : ألفاظ العموم ، فإنها ظاهرة في الاستغراق ، محتملة للتخصيص ، على ما سبق هناك . أقسام الظاهر
وأما التأويل : فهو لغة : المرجع من آل إليه الأمر ، أي رجع . وقال : مأخوذ من الإيالة وهي السياسة . يقال : فلان آيل علينا ، أي سائسنا ، فكان المؤول بالتأويل ، كالمتحكم السائس على الكلام المتصرف [ ص: 37 ] فيه وقال النضر بن شميل ابن فارس في " فقه العربية " : التأويل آخر الأمر وعاقبته يقال : مآل هذا الأمر أي مصيره . قال تعالى : { وما يعلم تأويله إلا الله } أي لا يعلم الآجال والمدد إلا الله ، واشتقاق الكلمة من الآل ، وهو العاقبة والمصير . واصطلاحا : صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى يحتمله ، ثم إن حمل لدليل فصحيح ، وحينئذ فيصير المرجوح في نفسه راجحا للدليل ، أو لما يظن دليلا ففاسد ، أو لا لشيء فلعب ، لا تأويل . فإذن التأويل : صرف اللفظ إلى غيره لا نفس الاحتمال . وقال الغزالي والرازي : هو احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الظاهر . وهو غير جامع ، لأنه لا يتناول الفاسد واليقيني . ثم إنه جعله عبارة عن نفس الاحتمال وليس كذلك . ولا يتطرق التأويل إلى النص والمجمل ، ثم ليس كل احتمال يعضده دليل فهو تأويل صحيح مقبول ، بل يختلف ذلك باختلاف ظهور المؤول ، فإن كانت دلالة المؤول عليه من الخارجي تزيد على دلالته على ما هو ظاهر فيه قبل ، وإلا فلا . وقال العبدري : هذا التعريف إنما يصح لو كان لا يتأول إلا العموم ، وليس كذلك ، فهو غير منعكس ، لأنه يخرج عنه ما هو منه ، فإن من التأويل ما هو صرف اللفظ عن حقيقة إلى حقيقة ، كاللفظ العرفي بالمعنى الأول تصرفه عن العرف وهو حقيقة منه إلى الوضع الأول ، وهو حقيقة فيه . قال الشيخ في " شرح الإلمام " : اعلم أن التأويل صرف اللفظ عن [ ص: 38 ] ظاهره ، وكان الأصل حمله على ظاهره ، فالواجب أن يعضد التأويل بدليل من خارج ، لئلا يكون تركا للظاهر من غير معارض ، وقد جعلوا الضابط فيه مقابلة الظاهر بالتأويل وعاضده ، وتقديم الأرجح في الظن ، فإن استويا فقد قيل بالوقف ، وإن كان ما يدعي تأويلا لا ينقدح احتماله فهو باطل . واعلم أن هو الصواب ، غير أنا نراهم إذا انصرفوا إلى الظن ، تمسك بعضهم بهذا القانون . ومن أسبابه اشتباه الميل الحاصل بسبب الأدلة الشرعية بالميل الحاصل من الإلف والعادة والعصبية ، فإن هذه الأمور تحدث للنفس هيئة وملكة تقتضي الرجحان في النفس بجانبها ، بحيث لا يشعر الناظر بذلك ، ويتوهم أنه رجحان الدليل ، وهذا محل خوف شديد وخطر عظيم يجب على المتقي الله أن يصرف نظره إليه ويقف فكره عليه . تقديم أرجح الظنين عند التقابل
وقال في " شرح العنوان " : يجب إجراء اللفظ على ظاهره دون مآله إلا بدليل يدل على الخلاف الظاهر ، وشرطه أن يكون الظن المستفاد من ذلك الدليل على التأويل المرجوح أقوى من الظاهر ، وهو تصرف حسن لو مشى عليه في آحاد المسائل حيث يقع المتصرف فيها ، لأن القاعدة أن العمل بأقوى الظنين واجب ، وكلما كان أبعد احتاج إلى دليل أقوى لما ذكرنا ، واستثنى منه الظواهر المقتضية لخلاف ما دل القواطع العقلية عليه . وقيل : لا فرق بين البعيد من التأويل والقريب وهو راجع إلى ترجيح الأقوى ، لأن القاطع لا يمكن صرفه عن مدلوله ، بخلاف الظاهر .
قلت : وكلام صاحب " المقترح " من الجدليين مصرح بأن دليل التأويل يصح أن يكون مساويا ، وهو مخالف لكلام الجمهور ، وحمله بعض شارحيه على أن دليل التأويل إن كان راجحا ، تعين المصير إليه ، وإن كان مساويا كان ذلك معارضة . وكلاهما يزيف كلام المستدل ، ويمنعه من العمل بدليله . قال : وعلى هذا فيوافق كلام الأصوليين ، ورجع الخلاف إلى اللفظ . .