[ ص: 88 ] البيان والمبين قال الغزالي : جرت عادة الأصوليين بعقد كتاب له . وليس النظر فيه مما يجب أن يسمى كتابا ، فالخطب فيه يسير ، والأمر فيه قريب ، وأولى المواضع به أن يذكر عقب المجمل ، فإنه المفتقر إلى البيان . ا هـ . وأمره ليس بالسهل ، فإنه من جملة أساليب الخطاب ، بل هو من أهمها ، ولهذا صدر به كتاب " الرسالة " . الشافعي
لغة : اسم مصدر بين إذا أظهر ، يقال : بين بيانا وتبيانا ، ك كلم يكلم كلاما ، وتكليما ، قال والبيان في كتابه : مشتق من البين ، وهو الفراق ، شبه البيان به ، لأنه يوضح الشيء ، ويزيل إشكاله . وقال ابن فورك : سمي بيانا لانفصاله مما يلتبس به من المعاني ، ويشكل من أجله . وأما في الاصطلاح : فيطلق على الدال على المراد بخطاب ثم يستقل بإفادته ، ويطلق ويراد به الدليل على المراد ، ويطلق على فعل المبين . ولأجل إطلاقه على المعاني الثلاثة اختلفوا في تفسيره بالنظر إليها ، فلاحظ أبو بكر الرازي الصيرفي فعل المبين ، فقال : البيان إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز [ ص: 89 ] التجلي . وقال القاضي في ( مختصر التقريب ) : وهذا ما ارتضاه من خاض في الأصول من أصحاب . وقال الشافعي : إنه الصحيح عندنا ، لأن كل ما كان إيضاحا لمعنى وإظهارا له ، فهو بيان له . واعترضه القاضي أبو الطيب الطبري ابن السمعاني بأن لفظ البيان أظهر من لفظ إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي . وللصيرفي منع ذلك . ونقض أيضا بالنصوص الواردة في الحكم المبتدأ من غير سبق إشكال ، فإنه ربما ورد من الله تعالى بيان لم يخطر ببال أحد . ويخرج منه بيان المعدوم ، فإنه لا يقال عليه شيء ، وبيان المعلم لمن لا يفهم عنه لقصوره . ولعله يمنع تسمية ما كان ظاهرا ابتداء بيانا . وقال الغزالي : هذا الحد لفرع من البيان ، وهو بيان المجمل خاصة ، والبيان يكون فيه وفي غيره . ا هـ . ولاحظ القاضي ، وإمام الحرمين ، والغزالي ، والآمدي ، والإمام الرازي ، وأكثر المعتزلة ، كأبي هاشم وأبي الحسين : أنه الدليل فحدوه بأنه الدليل الموصل بصحيح النظر فيه إلى العلم أو الظن بالمطلوب . ا هـ . ولاحظ أبو عبد الله البصري أنه نفس العلم أو الظن الحاصل من الدليل ، فحده بأنه تبيين الشيء ، فهو والبيان عنده واحد . كذا قاله الهندي تبعا للغزالي . وحكى عنه أنه العلم الحادث ، لأن البيان هو ما به يتبين الشيء ، والذي به تبين هو العلم الحادث . قال : ولهذا لا يوصف الله سبحانه بأنه مبين ، لما كان علمه لذاته لا بعلم حادث . [ ص: 90 ] وقال أبو الحسين العبدري بعد حكاية المذاهب : الصواب أن البيان هو مجموع هذه الأمور الثلاثة ، فعلى هذا يكون حده : أنه انتقال ما في نفس المعلم إلى نفس المتعلم بواسطة الدليل . لكن الاصطلاح إنما وقع على ما رسم به القاضي ، وذلك أن الدليل هو أقوى الأمور الثلاثة ، وأكثرها حظا من إفادة البيان والمبين . وقال الماوردي : الذي عليه جمهور الفقهاء أن البيان إظهار المراد بالكلام الذي لا يفهم منه المراد إلا به . قال ابن السمعاني : وهذا الحد أحسن الحدود ، ويرد عليه ما أورده هو على الصيرفي ، أعني الوارد ابتداء من غير سبق إجمال . وقال شمس الأئمة السرخسي من الحنفية في كتابه : اختلف أصحابنا في معنى البيان ، فقال أكثرهم : هو إظهار المعنى وإيضاحه للمخاطب منفصلا عما يستر به . وقال بعضهم : هو ظهور المراد للمخاطب ، والعلم بالأمر الذي حصل له عند الخطاب . قال : وهو اختيار أصحاب ، لأن الرجل يقول : " بان هذا المعنى " أي ظهر . والأصح الأول أي الإظهار . ا هـ . وقال الشافعي الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني : قال أصحابنا في البيان : إنه الإفهام بأي لفظ كان . وقال أبو بكر الدقاق : إنه العلم الذي يتبين به المعلوم ، حكاه . وذكر القاضي أبو الطيب في " الرسالة " : أن البيان اسم جامع لأمور متفقة الأصول متشعبة الفروع ، وأقل ما فيه أنه بيان لمن نزل القرآن بلسانه ، فاعترض عليه الشافعي أبو بكر بن داود ، وقال : البيان أبين من التفسير الذي فسره به . [ ص: 91 ] قال : وهذا لا يصح ، لأن القاضي أبو الطيب لم يقصد حد البيان وتفسير معناه ، وإنما قصد به أن البيان اسم عام جامع لأنواع مختلفة من البيان ، وهي متفقة في أن اسم البيان يقع عليها ، ومختلفة في مراتبها ، فبعضها أجلى وأبين من بعض ، لأن منه ما يدرك معناه من غير تدبر وتفكر ، ومنه ما يحتاج إلى دليل ، ولهذا قال عليه السلام : { الشافعي } فأخبر أن بعض البيان أبلغ من بعض ، وهذا كالخطاب بالنص والعموم والظاهر ، ودليل الخطاب ، ونحوه ، فجميع ذلك بيان . وإن اختلفت مراتبها فيه . ا هـ . وكذا قال إن من البيان لسحرا الصيرفي ، : مراد وابن فورك أن اسم البيان يقع على الجنس ، ويقع تحته أنواع مختلفة المراتب في الجلاء والخفاء . وقال الشافعي : أراد أنه وإن حصل من وجوه ، فكل ذلك يجتمع في أنه يعود إلى الكتاب ويستفاد منه . حكاه أبو بكر القفال سليم الرازي في تقريبه " . وقال أبو الحسين في " المعتمد " : هذا ليس بحد ، وإنما هو وصف للبيان بأنه يجمعه أمر جامع ، وهو أنه سنة أهل اللغة ، أنه يتشعب إلى أقسام كثيرة ، فإن حد بأنه بيان لمن نزل القرآن بلغته كان قد حد البيان بأنه بيان ، وذلك حد الشيء بنفسه ، وإن كان قد حد البيان العام ، فإنه يخرج منه الأدلة العقلية ، وإن حد البيان الخاص الذي يتعارفه الفقهاء ، فإنه يدخل فيه الكلام المبتدأ إذا عرف به المراد كالعموم ، والخصوص وغيرهما . .