[ المسألة ] الثانية [ ] . إن أفعال العقلاء لا حكم لها قبل ورود الشرع عندنا بناء على أن الأحكام هي الشرائع وعندهم الأحكام هي صفات الأفعال ، فقالوا : الأفعال الاختيارية إما حسن بالعقل كإسداء الخيرات ، أو قبيح بالعقل كالجور والظلم . وهذان لا خلاف فيهما عندهم كما قاله حكم أفعال العقلاء قبل ورود الشرع ابن برهان وغيره ، وإنما الخلاف فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح كفضول الحاجات والتنعمات ، والأول واجب أو مندوب أو مباح . والثاني حرام أو مكروه . والثالث فيه خلاف هل هو واجب أو مباح أو على الوقف ؟ ثلاثة مذاهب . أما الأفعال الاضطرارية كالتنفس ونحوه فحسنة قولا واحدا . وهكذا حرر الآمدي وغيره محل الوفاق من الخلاف . [ ص: 201 ] وأما الإمام الرازي فإنه عمم الخلاف في جميع الأفعال وهو مناف لقواعد الاعتزال من جهة أن القول بالحظر مطلقا يقتضي تحريم إنقاذ الغرقى ، وإطعام الجوعان ، وكسوة العريان . والقول بالإباحة مطلقا يقتضي إباحة العقل والفساد في الأرض . والخلاف ظاهر فيما لم يطلع العقل على مفسدته ولا مصلحته . وحينئذ فلا تنافي الأصول قواعد القوم . قال القرافي : لكن طريقة الإمام يساعدها النقل ، فإن أبا الحسين البصري في كتاب المعتمد " حكى عن شيعته المعتزلة الخلاف مطلقا من غير تقييد كما حكى الإمام ، ووافقه القرافي أخيرا لهذا . قلت : لكن ابن برهان وابن القشيري وغيرهما من الأئمة إنما حكوا الخلاف عنهم فيما لا يقضي العقل فيه بحسن ولا قبح . وقال الأستاذ في كتابه في أصول الفقه : قال جمهور أبو إسحاق الإسفراييني المعتزلة : واجب . واختلفوا فيما وراءه هل هو حرام أو مباح ؟ . وقال الشكر وما في معناه أبو الحسين بن القطان ممن يوافق المعتزلة : لا خلاف أن ما كان للعقل فيه حكم أنه على ما كان عليه قبل ورود الشرع مثل شكر المنعم وكفره . واختلفوا فيما سواه ثم حكى الخلاف . وقال سليم الرازي إن التنفس في الهواء والانتقال من مكان إلى مكان آخر ليس من محل الخلاف لكن صاحب المصادر " من الشيعة حكى الخلاف عن المعتزلة هل هو في الحالتين أو في الاختيارية ؟ قولان . وقال سليم أيضا في ذيل المسألة : ثم الخلاف إنما هو فيما يجوز أن يرد الشرع بإباحته وحظره كالمآكل والملابس والمناكح أما ما لا يجوز عنه الحظر [ ص: 202 ] كمعرفة الله وما لا يجوز عليه الإباحة كالكفر بالله ونسبة الظلم إليه فلا خلاف فيه .
وكذلك جعل الخلاف في مجوزات العقول . قال : وهي كل ما جاز أن يرد السمع بتحليله أو تحريمه . وقال صاحب المصادر " من القاضي عبد الوهاب الشيعة : لا خلاف بين المعتزلة أن الأفعال المضرة على الحظر ، وإنما الخلاف في الأفعال التي يصح الانتفاع بها ولا ضرر فبها مما لا يعلم وجوبه ولا ندبه ، على ثلاثة أقوال فذكرها .
وقال بعض المحققين من المتأخرين : فروع التحسين والتقبيح هم يثبتونه مطلقا في كل مسألة من الأصول والفروع غير أن فيها ما يدرك بضرورة العقل . ومنها ما يدرك بنظره . ومنها ما لا يدرك بهما . فتجيء الرسل منبهة عليه في الأوليين مقررة ، وفي الثالث كاشفة ، وعندنا لا يعرف وجوب ولا تحريم في شيء من ذلك بالعقل ، ولا يثبت إلا بالشرع بعد البعثة إنشاء جديدا ، وقيل : بطريق التبيين ، وكنا قبله متوقفين في الجميع . قال : وهذا الذي قلناه هو معتقد حكم الأشياء قبل ورود الشرع أهل السنة وإجماع الأئمة الأربعة وأصحابهم ، وقال صاحب روضة الناظر وجنة المناظر " من الحنابلة : الأفعال قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو الحظر ؟ قال : فيه قولان . يومئ إليهما في كلام القاضي . وقال أحمد : هما روايتان . قال : وهذا النقل يشكل مع استقرار مذهب ابن عقيل أن لا مجال للعقل في التحسين والتقبيح . أحمد