ولا يستلزم النسخ البداء إذ النسخ بأمر ، والبداء الظهور بعد أن لم يكن ، خلافا للرافضة واليهود ، فإنهم ادعوا استلزامه . فلزمهم التسوية بينهما في الجواز وعدمه ، فقالت اليهود : لا يجوز النسخ عليه لامتناع البداء عليه . وقالت الرافضة : يجوز البداء عليه لجواز النسخ منه . والكل كفر . والثاني أغلظ إذ يمكن حمل الأول على وجه لا يكفر بأن يجعل التعبد بكل شرع مغيا إلى ظهور آخر . وبهذا المعنى أنكره بعض المسلمين . وقال سليم في " التقريب " : مذهب الأشعرية في النسخ يؤدي إلى جواز البداء ، لأن اللفظ بصيغته عندهم لا يدل على استغراق الأعيان والأزمان ، حتى يقترن به دليل عليه يخصه ، ولفظ العموم في الأزمان لا يقترن به [ ص: 206 ] ما ينسخ بعضه ، لأن النسخ لا يكون إلا بدليل منفصل عن المنسوخ ، متأخر عنه ، فلا بد في قوله : أن يدل دليل أنه قصد إيجاب العبادات في عموم الأوقات ، ثم يدل دليل آخر بعده على النسخ . ا هـ . وقال إلكيا : لا يستلزم البداء ، لأن النسخ هو النص الدال على أن مثل الثابت زائل في الاستقبال ، وذلك يقتضي أن الفعل المأمور به غير المنهي عنه ، وأن وقت النهي عنه غير وقت المأمور به . وبنوا على هذا الأصل أن نسخ الفعل قبل وقت إمكانه غير جائز . وأما الأشعرية فجوزوه بناء على أن الذي أمر به لمصلحة ، والذي نهى عنه لمفسدة ، لا أنه أمر به ونهى عنه عبثا ، وتقدير النهي بعد الأمر قبل إمكان الأول ضرب من البداء ، وغاية ما تمسكوا به أن الأمر بالفعل مشروط ببقائه أو مشروط بانتفاء النهي . فإذا نهي عنه فقد زال الشرط بعد نهيه عن الفعل غير الوجه الذي أمر به . وليس كما إذا قال : أمرتكم بكذا وكذا . ونهيتكم عنه متصلا به ، لأنه نهى عن الفعل على وجه الأمر . وهاهنا النهي على غير وجه الأمر ، فهو كقولك : أمرتكم بشرط أن لا يظهر لكم ما ينافيه .
فائدة [ ] تحقيق لغوي في لفظ البداء
حكى في كتاب " النكت " عن بعضهم : أن لفظ البداء غير صحيح في اللغة ، وإنما هو البدو من بدا الشيء يبدو بدوا وبدوا ، إذا ظهر . قال ابن الفارض المعتزلي في " فوائد رحلته " : وهذا ليس [ ص: 207 ] بصحيح ، فقد أورد هذا اللفظ ابن الصلاح في قصيدته في " الممدود والمقصور " فقال : ابن دريد
توصى وعقلك في بدا فكذاك رأيك ذو بداء
قال التبريزي : البدا المقصور موضع ، وقيل : إنه بغير ألف ولام ، والبداء الممدود من قولهم : بدا لي في الأمر ، تريد : تغير رأيي فيه عما كان . قلت : وحكاه صاحب " المحكم " عن ، فقال : بدا الشيء يبدو بدوا وبدوا وبداء ، الأخيرة عن سيبويه . وفي " صحاح " سيبويه : بدا له في هذا الأمر بداء ممدود . وقد نبه عليه الجوهري أبو محمد بن بري ، فقال : صوابه بداء بالرفع لأنه الفاعل . وقال السهيلي في " الروض " : المصدر البدو والبدو ، والاسم البداء . ولا يقال في المصدر بدا له بدو ، كما لا يقال : ظهر له ظهور بالرفع ، لأن الذي يظهر ويبدو هاهنا هو الاسم ، نحو البداء . قال : ومن أجل أن البدو الظهور كان البداء في وصف البارئ سبحانه محالا ، لأنه لا يبدو له شيء كان غائبا عنه ، وقد يجيء بدا بمعنى أراد مجازا كحديث في الثلاثة : الأقرع والأعمى والأبرص ، وأنه صلى الله عليه وسلم قال : بدا لله أن يبتليهم . [ ص: 208 ] البخاريتنبيه
منع بعض الحنفية ، فإنه رفع الحكم المنسوخ وإقامة الناسخ مقامه ، وذلك يوهم البداء ، وهو محجوج بقوله تعالى { إطلاق لفظ التبديل على النسخ وإذا بدلنا آية مكان آية } . .