وأما النسخ قبل الفعل فهو على أقسام : القسم الأول : أن يكون قبل علم المكلف بوجوبه ، كما إذا أمر الله سبحانه جبريل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم بوجوب شيء على الأمة ، ثم ينسخه قبل وصوله إليه ، فجزم الماوردي ، والروياني في باب القضاء بأنه لا يجوز ورود النسخ عليه ، لأن من شرط النسخ أن يكون بعد استمرار الفرض ، ليخرج عن البداء إلى الإعلام بالمدة . قالا : وأما ما روي في ليلة المعراج من فرض خمسين صلاة ، ثم استقرت بخمس ، فكان على وجه التقدير دون الفرض ، لأن الفرض يستقر بنفوذ الأمر ، ولم يكن من الله تعالى فيه أمر إلا عند استقرار الخمس . انتهى . وقد حكى ابن السمعاني في ذلك الاتفاق ، وليس كذلك ، بل في المسألة وجهان لأصحابنا ، حكاهما ، الأستاذ أبو منصور وإلكيا . وقال : لا يتحقق الخلاف ، لأن النسخ نوع تكليف أو حط تكليف ، فإن كان إلى بدل كان تكليفا وإلا حط تكليف ، وقد شرع لمثل ما شرع له أصل التكليف . والعلم شرط لحصول أصل التكليف إلا حيث لا يتوقف الإمكان عليه ، فالنسخ مثله بلا فرق . قال : وإنما يظهر الخلاف في أن القضاء هل يلزمهم بعد العلم والتدارك أو لا يتحتم عليهم ؟ وينبغي التغاير ، على أن القضاء [ ص: 221 ] هل يجب بالأمر الأول أو بأمر جديد ؟ فإن قلنا بالأول وجب ، وإلا فلا . ولا مزيد على حسن هذا . ا هـ .
وقال ابن برهان في " الوجيز " في آخر باب النسخ : جائز عندنا ومنعته نسخ الحكم قبل علم المكلف بوجوبه المعتزلة ، وأصحاب ، وبنوا على ذلك أن عزل الوكيل لا يثبت قبل العلم . وزعموا أن النسخ قبل العلم يتضمن تكليف المحال . قال : وهذه المسألة فرع تكليف ما لا يطاق ، فإذا قضينا بصحته صح النسخ حينئذ . قال : واحتج علماؤنا في هذه المسألة بقصة المعراج ، فإن الله تعالى أوجب على الأمة خمسين صلاة ، ثم نسخها قبل علمهم بوجوبها ، وهذا لا حجة فيه ، لأن النسخ إنما كان بعد العلم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد المكلفين ، وقد علم ، ولكنه قبل علم جميع الأمة . وعلم الجميع لا يشترط ، فإن التكليف استقر بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا اعتماد على هذا الحديث . ا هـ . وظهر أن ما قاله أبي حنيفة الماوردي ، وابن السمعاني مذهب المعتزلة ، وقد قال ابن حاتم الأزدي تلميذ القاضي في كتاب " اللامع " له : من لم يبلغه الأمر ، ولم يعلم أنه مأمور هل يجوز أن يقال : إنه قد ينسخ عنه الأمر أم لا ؟ ثم قال : عندنا يصح أن يقال : إنه قد ينسخ عنه الأمر إذا بلغه ، وتأدى إليه لزمه المصير إلى موجب الناسخ . قال عبد الجليل الربعي في شرحه : وهذا صحيح ، وإن تجوز في قوله : يصح ، وحقه أن يقول : يجب ، إذ [ ص: 222 ] ليس من شرط كون الأمر نسخا أن يبلغ المأمور ، وإنما البلاغ شرط الامتثال ، لأنه يجوز عندنا أن يكون مأمورا حين عدمه .
وقال ، القاضي أبو بكر وابن حاتم واللفظ له : يجوز عندنا أن يقال : قد نسخ عنه الأمر ، وإذا بلغه لزمه المصير إلى موجب الناسخ لا بالأمر المتقدم ، بل باعتقاد له آخر ، ولو كان على شيء آخر فبلغه أنه أمر ، ثم نسخ عنه وجب أن يصير إلى موجب الناسخ .
وقال جمهور الفقهاء ، والمتكلمين : مثل هذا لا يكون نسخا ، أما إذا لم يبلغه المنسوخ ، فلا يلزمه حكم الناسخ ، كما لم يبلغه حكم المنسوخ . ا هـ .
وقال بعض المتأخرين : نسخ الحكم قبل علم المكلف بالحكم المنسوخ ، اتفقت الأشاعرة على جوازه ، والمعتزلة على منعه . وحكى الفقهاء في المسألة طريقين : أحدهما : أن في المسألة قولين . والثاني : الفرق بين الأحكام التكليفية والأحكام التعريفية ، فمنعوه في الأول وجوزوه في الثاني ، كتكليف الغافل . وهو مذهب الحنفية . ا هـ . [ ص: 223 ] واعلم أن الناسخ إذا كان مع للشافعي جبريل عليه السلام ، فلا يثبت حكمه قبل أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق ، كما قاله ، القاضي أبو الطيب وسليم ، وغيره واختلفوا بعد وصوله إلى النبي عليه السلام وقبل تبليغه إلينا ، هل يثبت حكمه بالنسبة إلينا قبل العلم به ؟ على وجهين لأصحابنا ، حكاهما ، القاضي أبو الطيب وسليم ، وابن الصباغ في " العدة " وغيرهم وهما قولان للأصوليين ، واختار الثبوت . وقال سليم : إنه الصحيح ، ونصره الشيخ أبو إسحاق في " التبصرة " . وقال ابن برهان في " الأوسط " : إنه مذهب أصحابنا ، ونصره .
ونقل عن أصحاب أنه لا يثبت ما لم يصل إلينا ، واختاره أبي حنيفة ، وجزم به ابن الحاجب الروياني في باب القضاء ، ونسبه القاضي في " التقريب " للجمهور . وقال : والقائلون بأنه يثبت النسخ شرطوا فيه البلاغ ، فوجب كون الخلاف لفظيا . ا هـ . ولا شك أن من لم يبلغه قسمان : أحدهما : المتمكن وهو [ الثابت ] في حقه . والثاني : غير المتمكن وهو محل الخلاف ، فالجمهور على أنه لا يثبت في حقه لا بمعنى الامتثال ، ولا بمعنى ثبوته في الذمة . وقال بعضهم : ويثبت بالمعنى الثاني كالنائم ، ولم يصر أحد إلى ثبوته بالمعنى الأول . وقال القاضي في " مختصر التقريب " : إن هؤلاء يقولون : لو قدر أن من لم يبلغه الناسخ أقدم على الحكم الأول يكون ذلك خطأ منه ، بيد أنه لا يؤاخذ به ، ويعذر لجهله . ا هـ . وليس كما قال . فإن قال : إن من أصحابنا من قال : يصح عمله بالمنسوخ إلى وقت علمه بالنسخ . ومنهم من قال : لا يحسن العمل به قبل [ ص: 224 ] علمه بالنسخ ، لكنه يعذر . قال : ولأجل هذا الخلاف خرجوا عمل الوكيل قبل علمه بالعزل على وجهين وقال الأستاذ أبا منصور البغدادي ابن دقيق العيد : لا شك أنه لا يثبت في التأثيم ، وهل يثبت في حكم القضاء إذ هو من الأحكام الوضعية ؟ هذا فيه تردد ، لأنه ممكن بخلاف الأول ، لأنه يلزم فيه تكليف ما لا يطاق . قال ابن برهان : وهكذا القول في الأحكام الواردة من جهة الله تعالى ، ولم تتصل بنا ، لأن العادة تخصيص جانب النسخ بالذكر دون الحكم المبتدأ . ا هـ .
وهي مسألة غريبة . والقائلون بأن النسخ لا يثبت في حق من لم يبلغه اتفقوا على أنه يخاطب بحكم الأول إلى أن يبلغه النسخ ، ثم اختلفوا : هل يتصف بكونه ناسخا قبل البلوغ كما أن الأمر أمر للمعدوم على شرط الوجود ، أو لا يتصف إلا بعد البلوغ ؟ قال القاضي : وهو خلاف لفظي ، وإنما الخلاف الحقيقي مع الذين قدمنا ذكرهم يعني القائلين بأن الحكم يرتفع عمن لم يبلغه الناسخ . وقد تبع إمام الحرمين القاضي في جعل الخلاف لفظيا . قال : لأنه إن كان المراد أن عليهم الأخذ بالناسخ قبل بلوغه ، فتكليف ما لا يطاق . وإن أريد إلزام التدارك فلا منع قطعا . وقد قال : بل تظهر فائدته في أنه هل يحتاج في التدارك إلى خطاب جديد ، أو يكفي الناسخ ؟ وقد سبق عن إلكيا ما ينبغي استحضاره هنا . قال إمام الحرمين في " التلخيص " : وهذه المسألة قطعية ، وذهب بعضهم إلى إلحاقها بالمجتهدات ، حتى نقلوا فيها قولين من الوكيل إذا عزل ، ولم يبلغه العزل . هذا كله إذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الأرض ، فإن بلغه وهو في السماء كقضية الصلاة ، فهل يسمى نسخا أم لا ؟ ظاهر كلام ابن السمعاني تسميته [ ص: 225 ] به ، ومنع في كتابه ذلك ; لأن الأمر لم يقع قط إلا في الوقت الثاني . قال : ولو جاز أن يكون نسخا للتخلص من تأخير البيان لجاز ذلك في قصة أصحاب البقرة حين أمروا بذبحها حتى راجعوا ، وعين لهم فردوا ، فينبغي تسميته نسخا ; لأنه سبب حادث بعد الأمر المتقدم ، بل أولى ; لأن الخطاب قد وجه به ، فهو أولى من الذي لم يواجه به المفروض عليه ، ولا نزل من السماء . قال : ولا يسمي أحد هذا نسخا . وقال أبو إسحاق المروزي من الحنابلة : يجوز النسخ في السماء إذا كان هناك تكليف ، مثل أن يكون قد أسري ببعض الأنبياء ، كنبينا صلى الله عليه وسلم ، ولا يكون ذلك بداء ، خلافا ابن عقيل للمعتزلة ، ومنعوا كون الإسراء يقظة . وقال في كتاب " الناسخ والمنسوخ " تأليفه : لا نعلم أحدا من أهل العلم استجاز أن يطلق اللفظ بنسخ الشيء قبل أن ينزل من السماء إلى الأرض . قيل : القاشاني يسمي الرجوع من خمسين صلاة إلى خمس نسخا ، فخرج بذلك من قولك الأمة . انتهى . . الإمام أبو إسحاق المروزي