وقتال أهل البغي ، وقتال المحاربين . فأما القسم الأول في قتال أهل الردة فهو أن يرتد قوم حكم بإسلامهم سواء ولدوا على فطرة الإسلام أو أسلموا عن كفر ، فكلا الفريقين في حكم الردة سواء ، فإذا ارتدوا عن الإسلام إلى أي دين انتقلوا إليه مما يجوز أن يقر أهله عليه كاليهودية والنصرانية ، أو لا يجوز أن يقر أهله عليه كالزندقة والوثنية لم يجز أن يقر من ارتد إليه ، لأن الإقرار بالحق يوجب التزام أحكامه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { } . من بدل دينه فاقتلوه
فإذا كانوا ممن وجب قتلهم بما ارتدوا عنه من دين الحق إلى غيره من الأديان لم يخل حالهم من أحد أمرين : إما أن يكونوا في دار الإسلام شذاذا وأفرادا لم يتحيزوا بدار يتميزون بها عن المسلمين فلا حاجة بنا إلى قتالهم لدخولهم تحت القدرة ويكشف عن سبب ردتهم ، فإن ذكروا شبهة في الدين أوضحت لهم بالحجج والأدلة حتى يتبين لهم الحق وأخذوا بالتوبة مما دخلوا فيه من الباطل ، فإن تابوا قبلت توبتهم من كل ردة وعادوا إلى حكم الإسلام كما كانوا .
وقال : لا أقبل توبة من ارتد إلى ما يستر به من الزندقة إلا أن يبتدئها من نفسه ، وأقبل توبة غيره من المرتدين ، وعليهم بعد التوبة قضاء ما تركوه من الصلاة والصيام في زمان الردة لاعترافهم بوجوبه قبل الردة . مالك
وقال [ ص: 70 ] : لا قضاء عليهم كمن أسلم عن كفر ، ومن أبو حنيفة لم يبطل حجه بها ولم يلزمه قضاؤه بعد التوبة . كان من المرتدين قد حج في الإسلام قبل الردة
وقال قد بطل بالردة ولزمه القضاء بعد التوبة ، ومن أبو حنيفة وجب قتله رجلا كان أو امرأة . أقام على ردته ولم يتب
وقال : لا أقتل المرأة بالردة : وقد { أبو حنيفة قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالردة امرأة كانت تكنى أم رومان } . ولا يجوز إقرار المرتد على ردته بجزية ولا عهد ، ولا تؤكل ذبيحته ، ولا تنكح منه امرأة
واختلف الفقهاء في قتلهم هل يعجل في الحال أو يؤجلون فيه ثلاثة أيام على قولين أحدهما تعجيل قتلهم في الحال لئلا يؤخر لله عز وجل حق .
والثاني ينظرون ثلاثة أيام لعلهم يستدركونه بالتوبة ، وقد أنذر عليه السلام علي المستورد العجلي بالتوبة ثلاثة ثم قتله بعدها ، وقتل صبرا بالسيف . وقال ابن سريج من أصحاب يضرب بالخشب حتى يموت ، لأنه أبطأ قتلا من السيف الموحي وربما استدرك به التوبة ، وإذا قتل لم يغسل ولم يصل عليه . الشافعي
ووري مقبورا ولا يدفن في مقابر المسلمين لخروجه بالردة عنهم ولا في مقابر المشركين لما تقدم له من حرمة الإسلام المباينة لهم ، ويكون ماله فيئا في بيت مال المسلمين مصروفا في أهل الفيء لأنه لا يرثه عنه وارث من مسلم ولا كافر . وقال يورث عنه ما اكتسبه قبل الردة ويكون ما اكتسبه بعد الردة فيئا . وقال أبو حنيفة يورث عنه ما اكتسب قبل الردة وبعدها فإذا لحق المرتد بدار الحرب كان ماله في دار الإسلام موقوفا عليه ، فإن عاد إلى الإسلام أعيد عليه ، وإن هلك على الردة صار فيئا . أبو يوسف
وقال أحكم بموته إذا صار إلى دار الحرب وأقسم ماله بين ورثته ، فإن عاد إلى دار الإسلام استرجعت ما بقي في أيديهم من ماله ولم أغرمهم ما استهلكوه فهذا حكم المرتدين إذا لم ينحازوا إلى دار وكانوا شذاذا بين المسلمين والحالة الثانية أن ينحازوا إلى دار ينفردون بها عن المسلمين حتى يصيروا فيها ممتنعين فيجب قتالهم على الردة بعد مناظرتهم على الإسلام وإيضاح دلائله ، ويجري على قتالهم بعد الإنذار والإعذار حكم قتال أهل الحرب في قتالهم [ ص: 71 ] غرة وبيانا ومصافتهم في الحرب جهارا وقتالهم مقبلين ومدبرين . ومن أسر منهم جاز قتله صبرا إن لم يتب ، ولا يجوز أن يسترق عند أبو حنيفة رحمه الله وإذا ظهر عليهم لم تسب ذراريهم وسواء من ولد منهم في الإسلام أو بعد الردة ، وقيل إن من ولد منهم بعد الردة جاز سبيه . وقال الشافعي يجوز سبي من ارتد من نسائهم إذا لحقن بدار الحرب ; وإذا غنمت أموالهم لم تقسم في الغانمين وكان مال من قتل منها فيئا ومال الأحياء موقوفا ، إن أسلموا رد عليهم ، وإن هلكوا على ردتهم صار فيئا ، وما أشكل أربابه من الأموال المغنومة صار فيئا إذا وقع الإياس من معرفتهم ، وما استهلكه المسلمون عليهم في نائرة الحرب لم يضمن إذا أسلموا ، وما استهلكوا من أموال المسلمين في غير نائرة الحرب مضمون عليهم . أبو حنيفة
واختلف في على قولين : ضمان ما استهلكوه في نائرة الحرب
أحدهما يضمنونه ، لأن معصيتهم بالردة لا تسقط عنهم غرم الأموال المضمونة .
والثاني لا ضمان عليهم فيما استهلكوه من دم ومال . قد أصاب أهل الردة على عهد رضي الله عنه نفوسا وأموالا عرف مستهلكوها فقال أبي بكر رضي الله عنه يدون قتلانا ولا ندي قتلاهم فقال عمر لا يدون قتلانا ولا ندي قتلاهم فجرت بذلك سيرته وسيرة من بعده . أبو بكر
وقد أسلم طليحة بعد أن سبي وكان قد قتل وسبى فأقره رضي الله عنه بعد إسلامه ولم يأخذه بدم ولا مال ; ووفد عمر أبو شجرة بن عبد العزى وكان من أهل الردة على رضي الله عنه وهو يقسم الصدقات فقال أعطني فإني ذو حاجة فقال من أنت ؟ فقال عمر بن الخطاب أبو شجرة فقال أي عدو الله ألست تقول ( من الطويل ) :
ورويت رمحي من كتيبة وإني لأرجو بعدها أن أعمرا خالد
ثم جعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى ولى راجعا إلى قومه وهو يقول ( من البسيط ) :ضن علينا أبو حفص بنائله وكل مختبط يوما له ورق
[ ص: 72 ] ما زال يضربني حتى حدثت له وحال من دون بعض البغية الشفق
لما رهبت أبا حفص وشرطته والشيخ يقرع أحيانا فينمحق
فأما ما تفارق به دار الإسلام فمن أربعة أوجه :
أحدها : أنه لا يجوز أن يهادنوا على الموادعة في ديارهم ويجوز أن يهادن أهل الحرب .
والثاني : أنه لا يجوز أن يصالحوا على مال يقرون به على ردتهم ، ويجوز أن يصالح أهل الحرب .
والثالث : أنه لا يجوز استرقاقهم ولا سبي نسائهم ، ويجوز أن يسترق أهل الحرب وتسبى نساؤهم .
والرابع : أنه لا يملك الغانمون أموالهم ، ويملكون ما غنموه من مال أهل الحرب وقال رضي الله عنه : قد صارت ديارهم بالردة دار حرب ويسبون ويغنمون وتكون أرضهم فيئا وهم عنده كعبدة الأوثان من أبو حنيفة العرب وأما ما تفارق به دار الإسلام فمن أربعة أوجه :
أحدها : وجوب قتالهم مقبلين ومدبرين كالمشركين .
والثاني : إباحة إمائهم أسرى وممتنعين .
والثالث : تصير أموالهم فيئا لكافة المسلمين .
والرابع : بطلان مناكحتهم بمضي العدة وإن اتفقوا على الردة . وقال : تبطل مناكحتهم بارتداد أحد الزوجين ، ولا تبطل بارتدادهما معا ; ومن أبو حنيفة كان قوله مقبولا بغير يمينه ، ادعيت عليه الردة فأنكرها ، ولو قامت عليه البينة بالردة لم يصر مسلما بالإنكار حتى يتلفظ بالشهادتين يجري عليهم حكم أهل الردة ولو امتنعوا من أدائها مع الاعتراف بوجوبها كانوا من بغاة المسلمين ، يقاتلون على المنع منه ، وقال وإذا امتنع قوم من أداء الزكاة إلى الإمام العادل جحودا لها كانوا بالجحود مرتدين رحمه الله : لا يقاتلون . أبو حنيفة
وقد قاتل رضي الله عنه مانعي الزكاة مع تمسكهم بالإسلام حتى قالوا والله ما كفرنا بعد إيماننا ولكن شححنا على أموالنا فقال أبو بكر رضي الله عنه علام تقاتلهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : [ ص: 73 ] { عمر } . أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأولادهم إلا بحقها
قال هذا من حقها : أرأيت لو سألوا ترك الصلاة ؟ أرأيت لو سألوا ترك الصيام ؟ أرأيت لو سألوا ترك الحج ؟ فإذا لا تبقى عروة من عرى الإسلام إلا انحلت ; والله لو منعوني عناقا وعقالا مما أعطوه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه فقال أبو بكر رضي الله عنه فشرح الله صدري للذي شرح له صدر عمر رضي الله عنه ، وقد أبان عن إسلامهم قول زعيمهم أبي بكر حارثة بن سراقة في شعره ( من الطويل ) :
ألا فاصحبينا قبل نائرة الفجر لعل المنايا قريب ولا ندري
أطعنا رسول الله قد كان بيننا فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر
فإن الذي سألوكم فمنعتمو لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر
سنمنعكم ما كان فينا بقية كرام على العزاء في ساعة العسر