المبحث التاسع: ونحو ذلك الوصية بالمال لمن يقرأ له القرآن،
اختلف في الوصية بالمال لمن يقرأ القرآن على قبره، أو يذكر الله عنه، أو يهلله على أقوال:
القول الأول: أن الوصية باطلة سواء أوصى لمعين أو لغير معين.
وهو قول الحنفية على المشهور، ولهم قول آخر بصحتها إذا كانت الوصية لمعين، على أن يأخذ المال الموصى به على وجه البر والصلة، لا على وجه الإجارة.
القول الثاني: الجواز سواء كانت الوصية لمعين أو لغيره.
وهو قول عند المالكية، وهو قول الشافعية.
وللمالكية قولان، بالكراهة والجواز، وبه جرى العمل.
واختلف القائلون بالجواز: فقال بعض المالكية: يجب تعين القراءة; لأنها إجارة، والإجارة لا بد فيها من تعيين الأجرة والمدة، أو العمل وإلا فسدت.
وقال الشافعية: إذا أوصى لمن يقرأ على قبره بمال، ولم يعين المدة، فإن الوصية تصح، ولا يستحق الموصى به إلا من قرأ على قبره مدة حياته.
[ ص: 199 ] وقال بعض الشافعية: إن عين المدة لم يستحق الموصى به إلا من قرأ كل المدة، وإن لم يعين المدة لم تصح.
ومنشأ الخلاف: هو الخلاف في وصول ثواب ذلك إلى الموصي وعدم وصوله من جهة، وجواز الاستئجار على القرب وعدمه، وهما مسألتان خلافيتان، فمن رأى وصول ثواب القراءة إلى الميت وأنه لا كراهة في الإجارة على القرب أجاز الوصية بذلك، ومن رأى أن ثواب القراءة يحصل للقارئ ولا يحصل للمقروء عنه، أو أن ممنوعة، قال بمنع الوصية بالعبادة البدنية، أو كراهة ذلك، قال هنا بمنع الوصية بالقراءة، كما يراه جمهور الإجارة على القرب الحنفية، أو بكراهتها كما يقول المالكية.
وحجة المانعين:
1- قوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى
2- قوله تعالى: لها ما كسبت
3- حديث - رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أبي هريرة «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له».
4- وبأنه ليس من عمل السلف الصالح، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد».
[ ص: 200 ] واحتج المجيزون:
(316) بما رواه من طريق ابن أبي شيبة عن حماد بن سلمة، عاصم، عن أبي صالح، عن -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أبي هريرة «القنطار اثنا عشر ألف أوقية، كل أوقية خير مما بين السماء والأرض».
وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إن الرجل لترفع درجته في الجنة فيقول: أنى هذا؟ فيقال: باستغفار ولدك لك.
وقالوا: إنه مخصص أو ناسخ لعموم قوله تعالى: وأن ليس للإنسان إلا ما سعى بناء على جواز تخصيص الكتاب ونسخه بخبر الآحاد، كما أجابوا عنها بأنها محمولة على الكافر، وبأن معناها لا حق له إلا فيما سعى، [ ص: 201 ] وأما ما سعاه غيره عنه فهو له بفضل الله، وليس حقا له، وبأنه منسوخ بآية والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم عن حكم الوقوف والوصايا على قراءة القرآن أو بعضه كل يوم، وإهداء ثوابه للميت، وهل يرفض نص الواقف بذلك؟فأجاب: الوقوف والوصايا على هذا الوجه المذكور لا تصلح; لأن من وليس قراءة القرآن وإهداء ثوابها إلى الأموات قربة; ولهذا لم يعرف مثل ذلك عن السلف الصالح والتابعين رضي الله عنهم، وغاية ذلك أن يكون جائزا، وفي مثل هذا الوقت مفسدة، وهي حصول القراءة لغير الله، والتأكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع. شرط الوقف على جهة أن يكون على بر وقربة،
قال في «الاختيارات» : وأما هذه الأوقاف التي على الترب ففيها من المصلحة بقاء حفظ القرآن في بعض البلاد بسبب عدم الأسباب الحاملة عليه، وفيها مفاسد أخر من حصول القراءة لغير الله، والتأكل بالقرآن، وقراءته على غير الوجه المشروع، واشتغال النفوس بذلك عن القراءة المشروعة، فمتى أمكن تحصيل هذه المصلحة بدون ذلك الفساد جاز.
والوجه: النهي عن ذلك، والمنع، وإبطاله.
قال شيخ الإسلام: «فإن إعطاء أجرة لمن يقرأ القرآن ويهديه للميت بدعة لم ينقل عن أحد من السلف; وإنما تكلم العلماء فيمن يقرأ لله ويهدي للميت، وفيمن يعطى أجرة على تعليم القرآن وجوه، فأما الاستئجار على القراءة وإهدائها فهذا لم ينقل عن أحد من الأئمة ولا أذن في ذلك; فإن القراءة إذا كانت بأجرة كانت معاوضة، فلا يكون فيها أجر ولا يصل إلى [ ص: 202 ] الميت شيء، وإنما يصل إليه العمل الصالح، والاستئجار على مجرد التلاوة لم يقل به أحد من الأئمة، وإنما تكلموا في الاستئجار على التعليم، لكن هذه المرأة إذا أرادت نفع زوجها فلتتصدق عنه بما تريد الاستئجار به، فإن الصدقة تصل إلى الميت باتفاق الأئمة وينفعه الله بها، وإن تصدقت بذلك على قوم من قراء القرآن الفقراء؛ ليستغنوا بذلك عن قراءتهم حصل من الأجر بقدر ما أعينوا على القراءة، وينفع الله الميت بذلك».
[ ص: 203 ]