المسألة الثانية: : وقت الإجازة
أولا: الإجازة بعد الموت:
اتفق القائلون بصحة الإجازة على أنها إذا وقعت بعد موت الموصي فهي لازمة لا رجوع فيها إذا توفرت شروطها الآتية، وإن لم يجزها الموصى له، والحجة في ذلك:
[ ص: 545 ] 1 - قوله تعالى: أوفوا بالعقود ، والإجازة عقد عقده المجيز على نفسه، فيلزمه الوفاء به.
(193) 2 - ما رواه البخاري من طريق ومسلم ، عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ابن عباس . "العائد في هبته كالعائد في قيئه "
والإجازة هبة على أحد القولين، فلا يحل الرجوع فيها للمجيز.
3 - أنه أسقط حقه بعد وجوبه، فلزمه قياسا على إسقاط الشفعة بعد البيع.
4 - حديث رضي الله عنهما: ابن عباس بناء على تقدير: لا وصية لازمة، فالاستثناء من عدم اللزوم يقتضي اللزوم عند الإجازة; لأن الاستثناء من النفي إثبات، وفي رواية: زيادة: "وإن أجازوا فليس لهم أن يرتجعوا" وهي صريحة في اللزوم عند الإجازة، إلا أنها زيادة ضعفها "لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة" بالإرسال، وضعف رواتها. ابن حزم
ثانيا: الإجازة في مرض الموت:
اختلف الفقهاء في الإجازة في مرض الموت على قولين:
القول الأول: أنها غير لازمة، وللورثة الرجوع إذا مات الموصي.
وبهذا قال الجمهور: الحنفية ، والشافعية ، والحنابلة .
[ ص: 546 ] ودليلهم:
1 - أن فإذا تنازلوا بشيء منه كان تنازلا عن حق لم يثبت أصلا، فلا أثر له. حق الورثة في المال لا يثبت إلا بعد موت الموصي،
2 - أن حال مرض الموت لا يصح فيها رد الوصية، فكذلك لا تصح فيها إجازة الورثة.
3 - أنها من باب إسقاط الشيء قبل وجوبه فلا يلزم، قياسا على إسقاط الشفعة قبل البيع.
القول الثاني: أن الوقت المعتبر هو ما كان بعد موت الموصي، أو ما كان في مرض موته.
وهذا مذهب المالكية ، وبه قال شيخ الإسلام رحمه الله.
ودليلهم:
1 - حديث رضي الله عنهما: ابن عباس فإنه يشمل الإجازة بعد الموت وقبله في الصحة والمرض، إلا أنه لما كان في الصحة قادرا على التبرع بما شاء من ماله لم تلزم الإجازة; لانتفاء عذره بقدرته على التبرع، بخلاف حال المرض، فإنه لما كان محجورا عليه التبرع لحق الورثة لزمتهم الإجازة; لوجود سبب الملك في الجملة، وإن كان بعيدا؟. "إلا أن يجيز الورثة"
ونوقش هذا الاستدلال: بأنها زيادة ضعيفة.
2 - وروي عن رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة لابنه [ ص: 547 ] عمرو بن العاص عبد الله : "قد أردت أن أوصي، فقال له: أوص ومالك في مالي، فدعا كاتبا فأملى، فقال عبد الله : فقلت له: ما أراك إلا وقد أتيت على مالي ومالك، ولو دعوت إخوتي فاستحللتهم" .
ففي هذا دليل على لزوم الإجازة في حال المرض، فإنها لو كانت غير لازمة لما كانت فائدة في دعوتهم واستحلالهم.
3 - أن الإجازة تصح من الورثة في حال مرض الموصي; لأن حقهم قد تعلق بما له في هذه الحال، بخلاف حال الصحة.
ونوقش من وجهين:
الوجه الأول: أن الموصى له أن يبطل الوصية حال حياته، ولو في مرضه قبل موته، وإذا صح منه إبطال الوصية، فمن باب أولى أن يصح رجوع الورثة في إجازتهم، فلا يعتبر هذا الوقت في نفاذ إجازتهم.
الوجه الثاني: أن اعتبار وصف الورثة لا يتحقق إلا بعد موت الموصي، وأما قبل موته فلا يصدق عليهم أنهم ورثته، ولا يملكون من ماله شيئا، وهذا الحكم - وهو الإجازة - متعلق بوصفهم أنهم ورثة، فإذا لم يتحقق ذلك فإن هذا الوقت إذا غير معتبر.
4 - بأنه لو لم تلزم الإجازة في المرض لأدى ذلك إلى حرمانه من الوصية؛ حيث يظهر له الورثة الموافقة على الوصية للوارث، حتى لا يوصي لغيره، فإذا مات رجعوا في إجازتهم، واستولوا على المال كله، وحرموا [ ص: 548 ] الموصي مما أعطاه الله من حقه في الوصية في ثلث ماله لأجنبي، فعوملوا بنقيض قصدهم.
ونوقش: أنه في هذه الحال يعاملون بنقيض قصدهم.
5 - أن الإجازة في المرض معلقة في الموت والملك، فتلزمهم كسائر التعاليق، كما لو قال: إن ملكت هذا العبد فهو حر، فإنه يلزمه عتقه إذا ملكه.
ونوقش: بأنه استدلال في محل النزاع.
وفي كلا القولين قوة، إلا أن قول الجمهور أقوى; لكون دليله أقوى، إلا إن ترتب على ذلك تحيل على إبطال الوصية، فتلزم الإجازة.
ثالثا: الإجازة في حال الصحة والإقامة:
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في حكم على قولين: الإجازة في حال صحة الموصي وحضوره
القول الأول: أنها غير لازمة للورثة، وأن لهم الرجوع فيها إذا مات الموصي مطلقا.
وهو قول الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
القول الثاني: أن الإجازة لازمة لهم، ولا حق لهم في الرجوع.
وبه قال الحسن ، ، والزهري . والأوزاعي
[ ص: 549 ] الأدلة:
أدلة الرأي الأول، استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - أنه إسقاط الشيء قبل وجوبه، فلا يلزم قياسا على إسقاط الشفعة قبل البيع، والصداق قبل النكاح.
2 - وأنها حالة لا يصح فيها ردهم، فلا تصح فيها إجازتهم.
أدلة الرأي الثاني:
1 - عموم حديث رضي الله عنهما: ابن عباس ، فإنه شامل للإجازة في الصحة والمرض، وبعد الموت. "إلا أن يجيز الورثة"
ونوقش الاستدلال بهذا الحديث من وجهين:
الأول: الضعف.
الثاني: أن الورثة حقيقة فيمن كان وارثا بالفعل، ولا يكونون كذلك إلا بعد وفاة الموصي، فلا يتم الاحتجاج بها.
2 - أن الحق للورثة، فإذا رضوا بإسقاطه لزمهم، كما لو رضي المشتري بالعيب.
ونوقش: بالفرق; إذ أن إجازة الورثة قبل وقتها.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم -: القول الأول; لقوة دليله.
رابعا: الإجازة في السفر.
[ ص: 550 ] اختلف العلماء رحمهم الله في حكم الإجازة في حال السفر على قولين:
القول الأول: أن الإجازة في السفر والصحة لا تلزم.
وهو قول جمهور أهل العلم: الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنابلة .
القول الثاني: أنها لازمة.
وهو أحد قولي ، مالك ، وهو قول وابن القاسم ، الزهري . والأوزاعي
الأدلة:
أدلة القول الأول:
1 - ما تقدم من الأدلة على عدم لزوم إجازة الصحيح، ويدخل في ذلك المسافر.
2 - قياس المسافر على الصحيح الحاضر، بجامع أن كلا منها قادر على إنفاق ماله إذا شاء لعدم الحجر عليه، بخلاف المريض فإنه محجور عليه، فلا يصح قياس المسافر على المريض.
أدلة القول الثاني
1 - عموم حديث رضي الله عنهما: ابن عباس . "إلا أن يجيزها الورثة"
2 - قياس الإجازة في السفر على الإجازة في المرض; إذ السفر مظنة العطب كالمرض.
ونوقش: بالفرق كما تقدم في أدلة القول الأول.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم -: قول جمهور أهل العلم ; لقوة دليله.
[ ص: 551 ]