المبحث العاشر: الشرط العاشر: كون الموصى له قريبا للموصي
اختلف الفقهاء في على أقوال: اشتراط القرابة للموصي في الموصى له، وعدم اشتراطه
القول الأول: أنه لا يشترط كون الموصى له قريبا للموصي.
وهو قول جمهور أهل العلم.
إلا أنه يستحب عندهم أن يوصي لقرابته; لإطلاق قوله تعالى: وآتى المال على حبه ذوي القربى ، وقوله: وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل فإنه يشمل الإيتاء في حال الحياة على وجه الصدقة، والإيتاء بعد الممات على وجه الوصية، كما يشمل الغني والفقير،
ولما روى البخاري من طريق ومسلم ، عن عمرو بن الحارث زينب امرأة عبد الله رضي الله عنهما، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: . "لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة"
[ ص: 573 ] القول الثاني: لا تجوز ، واعتبروا القرابة شرطا في صحة الوصية. الوصية لأجنبي غير قريب
وبه قال ، طاووس والحسن ، والضحاك ، ثم اختلفوا:
فقال الضحاك : ترد ولو بنيت بها الدور، أو اتخذت بها الأموال.
وقال : تنزع من الأجنبي وتعطى للقرابة. طاوس
وقال الحسن : يترك للموصى له ثلث الثلث ولقرابته ثلثا الثلث.
القول الثالث: تصح . الوصية لأجنبي إذا أوصى لثلاثة من أقاربه فأكثر
وبه قال ، ونحوه ابن حزم للحسن .
قال : "فإن أوصى لثلاثة من أقاربه المذكورين أجزأه، والأقربون هم من يجتمعون مع الميت في الأب الذي به يعرف إذا نسب، ومن جهة أمه كذلك أيضا هو من يجتمع مع أمه في الأب الذي يعرف بالنسبة إليه; لأن هؤلاء في اللغة أقارب، ولا يجوز أن يوقع على غير هؤلاء اسم أقارب بلا برهان". ابن حزم
الأدلة:
أدلة الرأي الأول:
1 - قوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين ، فهذا مطلق، والمطلق محمول على إطلاقه حتى يرد ما يقيده.
2 - حديث رضي الله عنه: أبي أمامة ، فإنه يدل بمفهومه على صحتها لغير وارث، وهو عام في القريب والأجنبي; لقاعدة عموم المخالفة. "لا وصية لوارث"
[ ص: 574 ] ومن جهة أخرى، فإن العلة في منعها لوارث هي كونه وارثا، كما يؤخذ من ترتيب الحكم على المشتق، والحكم يدور مع العلة، فإذا لم يكن وارثا جازت الوصية له.
3 - ما رواه من طريق مسلم أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن رضي الله عنه عمران بن حصين فهذه وصية لأجانب; لأن الرقيق كانوا من غير أقارب الموصي. "أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجزأهم أثلاثا، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة"
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أنه منسوخ.
الوجه الثاني: أنه ليس فيه بيان أنه كان بعد نزول آية الوصية، ويحتمل أن يكون الرجل الذي أوصى بعتق رقيقه لم يكن له قرابة، وليس في الحديث ما يدل على أنه كان صليبة في الأنصار، له قرابة لا يرثونه.
وأجيب: بأنه ليس في الحديث ما يدل على أنه كان حليفا، كما أنه ليس فيه ما يدل على أنه كان قبل نزول آية الوصية، وإذا كان نسخ القرآن لا يثبت بالشك، فإن نسخ هذا الحديث لا يثبت بالشك أيضا، فلماذا جزم بنسخ الحديث لآية الوصية، وأحال العكس مع وجود الشك فيهما، على أنه يمكن دعوى الجزم بتأخر حديث عمران عن آية الوصية، فيكون ناسخا; لما يلي:
أن آية المواريث نزلت بعد الوصية.
فروى من طريق البخاري عطاء ، عن رضي الله عنهما قال: "كان المال للولد، وكانت الوصية للوالدين، فنسخ الله من ذلك ما أحب، فجعل للذكر [ ص: 575 ] مثل حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس، وجعل للمرأة الثمن والربع، وللزوج الشطر والربع" . ابن عباس
فدل هذا على أن آية المواريث نزلت بعد الوصية.
كما أن حديث سعد في منع الوصية بأكثر من الثلث إنما كان في حجة الوداع على الصحيح، وكانت آية الفرائض نزلت قبل ذلك قطعا، وهذا يرجح أن حديث عمران كان بعد الوصية، فيكون هو الناسخ لها، دون العكس، كما أن عمران لم يسلم إلا في السنة السابعة، وآية الوصية نزلت قبل ذلك.
والمتبادر أن عمران شهد قصة الذي أعتق، فتكون متأخرة عن آية الوصية، واحتمال أن تكون وقعت في أول الإسلام قبل نزول آية الوصية، كما يراه ، ورواها ابن حزم عمران عمن حضرها احتمال بعيد، يلزم عليه أن يكون الحديث مرسل صحابي، كما يرده أنها لو وقعت في أول الإسلام قبل الوصية لما سأل جابر عن الوصية لإخوته بالنصف، ولما سأل سعد عن الوصية بماله كله، أو ثلثه أو نصفه; لأن القصة كانت ستكون مشتهرة بين الصحابة، وحضروها أو سمعوها، فلا داعي للسؤال بعدها عن الوصية بأكثر من الثلث.
4 - حديث رضي الله عنه حين عاده النبي صلى الله عليه وسلم وسأله الوصية بجميع ماله، أو ثلثيه، أو نصفه، فدل ذلك على صحة الوصية للأجنبي دون القريب. سعد بن أبي وقاص
5 - وصية المخيرق لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوصية بحائطه.
[ ص: 576 ] 6 - وصية له صلى الله عليه وسلم بثلث ماله. البراء بن معرور
فهذه الوصايا كلها لغير قرابة الموصي.
7 - ما رواه الحسن : "أن رضي الله عنه أوصى لأمهات أولاده بأربعة آلاف لكل امرأة منهن" . عمر بن الخطاب
(منقطع; الحسن لم يسمع من ). عمر
8 - أن رضي الله عنه أوصى بحديقة لأمهات المؤمنين، بيعت بأربعمائة ألف . عبد الرحمن بن عوف
9 - عن حميدة ابنة أبي يونس مولاة قالت: أوصت عائشة لنا بمتاعها، فوجدت في مصحف عائشة رضي الله عنها: " عائشة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر وقوموا لله قانتين " .
10 - ما رواه : حدثنا ابن أبي شيبة ابن علية ، عن سلمة بن علقمة ، عن الحسن أن رضي الله عنه: "أوصى لأمهات أولاده" . عمران بن حصين
ونوقش هذا الاستدلال: بأنه ليس في هذه الأخبار أن هؤلاء لم يوصوا.
أجيب: أن احتمال العكس أقرب، فإنهم لو أوصوا لقرابتهم لرواها الذين رووا وصاياهم لغيرهم من الأجانب، ولا داعي لأن يروي الرواة بعض الوصايا، ويكتموا الآخر أو يسكتوا عنه.
11 - وذكر في التمهيد: "ذكر ابن عبد البر ، عن حماد بن سلمة قتادة ، عن ، عن الزهري سالم ، عن في رجل أوصى بثلثه في غير قرابته [ ص: 577 ] قال: "يمضى حين أوصى ، وذكر ابن عمر أيضا عن حماد بن سلمة حميد الطويل أن كتب إلى ثمامة بن عبد الله يسأله، عن رجل أوصى بثلثه في غير قرابته، فكتب جابر أن أمضه كما قال، وإن أمر بثلثه أن يلقى في البحر، قال جابر حميد ، وقال : أما في البحر فلا، ولكن يمضي" . محمد بن سيرين
دليل القول الثاني:
استدل لهذا الرأي: بقوله تعالى: الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف فإن تعريف الوصية يفيد الحصر، أي: لا وصية إلا للوالدين والأقربين؛ عملا بقاعدة تعريف المبتدأ بلام الجنس يفيد حصره في الخبر، نحو: العزة لله ورسوله وللمؤمنين.
ونوقش هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: على تسليم ذلك، فإن الأدلة الأخرى تدل على مشروعية الوصية للأجانب.
الوجه الثاني: أن هذا الاستدلال مبني على إعراب الوصية مبتدأ، وخبره "للوالدين"، ونائب فاعل "كتب" مقدرا، أي: كتب عليكم الإيصاء، وهو أحد احتمالين في إعرابها.
والاحتمال الثاني: أن الوصية هي نائب فاعل "كتب"، أي: كتب عليكم الوصية، وسوغ حذف التاء من الفعل أمران:
طول الفاصل بين الفعل ونائبه، وكون التأنيث في الوصية مجازيا.
وهذا الاحتمال أرجح من الأول؛ عملا بقاعدة: أنه لا ينوب المصدر مع وجود المفعول به.
[ ص: 578 ] دليل القول الثالث:
استدل لهذا الرأي بما يلي:
1 - قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف ، فإنها تدل على وجوب الوصية للقرابة، وإذا أوصى لمن أمر به فقد أدى الواجب، وله أن يوصي بعد ذلك لمن شاء من الأجانب.
ونوقش هذا الاستدلال: بما تقدم بحثه من عدم وجوب الوصية للأقارب.
الترجيح:
الراجح - والله أعلم -: أن يقال: حكم هذه المسألة كحكم مسألة الوصية للأقارب غير الوارثين، وقد تقدم بحثها.
[ ص: 579 ]