الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                              السراج الوهاج من كشف مطالب صحيح مسلم بن الحجاج

                                                                                                                              صديق خان - محمد صديق حسن خان القنوجي الظاهري

                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3833 باب منه

                                                                                                                              وهو في النووي في: (الباب المتقدم).

                                                                                                                              [ ص: 518 ] (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي، ص 17 - 20 جـ 14، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري، وحامد بن عمر البكراوي، ومحمد بن عبد الأعلى القيسي، كلهم عن المعتمر، واللفظ لابن معاذ، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: قال أبي، حدثنا أبو عثمان، أنه حدثه عبد الرحمن بن أبي بكر، أن أصحاب الصفة، كانوا ناسا فقراء، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال مرة: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثلاثة، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس، بسادس" أو كما قال: وإن أبا بكر جاء بثلاثة، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، وأبو بكر بثلاثة، قال: فهو وأنا وأبي وأمي - ولا أدري هل قال: وامرأتي وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر - قال: وإن أبا بكر تعشى عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لبث حتى صليت العشاء، ثم رجع، فلبث حتى نعس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله، قالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك - أو قالت: ضيفك؟ - قال: أو ما عشيتهم؟ قالت: أبوا حتى تجيء، قد عرضوا عليهم فغلبوهم، قال: فذهبت أنا فاختبأت، وقال: يا غنثر، فجدع وسب، وقال: كلوا لا هنيئا، وقال: والله لا أطعمه أبدا، قال: فايم الله، ما كنا نأخذ من لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها، قال: حتى شبعنا وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك، فنظر إليها أبو بكر فإذا هي كما هي أو أكثر، قال لامرأته: يا أخت بني فراس ما [ ص: 519 ] هذا؟ قالت: لا وقرة عيني، لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار، قال: فأكل منها أبو بكر، وقال: إنما كان ذلك من الشيطان يعني يمينه، ثم أكل منها لقمة، ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت عنده، قال: وكان بيننا وبين قوم عقد، فمضى الأجل فعرفنا اثنا عشر رجلا مع كل رجل منهم أناس الله أعلم كم مع كل رجل، إلا أنه بعث معهم فأكلوا منها أجمعون أو كما قال].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عبد الرحمن بن أبي بكر) رضي الله عنهما: (أن أصحاب الصفة، كانوا ناسا فقراء).

                                                                                                                              قال في الفتح: إن "الصفة" مكان في مؤخر المسجد النبوي، ظل، أعد لنزول الغرباء فيه، ممن لا مأوى له ولا أهل. وكانوا يكثرون فيه ويقلون، بحسب من يتزوج منهم، أو يموت، أو يسافر. وقد سرد أسماءهم: "أبو نعيم" في الحلية، فزادوا على المائة. انتهى.

                                                                                                                              (وإن رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم; قال مرة: من كان عنده طعام اثنين; فليذهب بثلاثة). هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم "بثلاثة" ووقع في صحيح البخاري: "بثالث". قال عياض: هذا الذي ذكره البخاري: هو الصواب، وهو الموافق لسياق باقي الحديث. قال النووي: وللذي في مسلم أيضا: [ ص: 520 ] وجه. وهو محمول على موافقة البخاري. وتقديره: فليذهب بمن يتم ثلاثة. أو بتمام ثلاثة. كما قال تعالى: وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام أي: في تمام أربعة. انتهى.

                                                                                                                              (ومن كان عنده طعام أربعة; فليذهب بخامس، بسادس. أو كما قال) معناه: من كان عنده ما يكفي أربعة، فليذهب بخامس من أهل الصفة، أو سادس. أي: يذهب معه بواحد، أو اثنين. أو المراد: إن كان عنده طعام أربعة; فليذهب بخامس. وإن كان عنده طعام خمسة; فليذهب بسادس.

                                                                                                                              والحكمة في كونه يزيد كل واحد: واحدا فقط، أن عيشهم في ذلك الوقت لم يكن متسعا. فمن كان عنده مثلا ثلاثة أنفس، لا يضيق عليه: أن يطعم الرابع من قوتهم. وكذلك الأربعة، فما فوقها. واستنبط من هذا: أن السلطان يفرق (في المسغبة) الفقراء على أهل السعة، بقدر ما لا يجحف بهم.

                                                                                                                              قال النووي: وفيه فضيلة الإيثار والمواساة. وأنه إذا حضر ضيفان كثيرون، فينبغي للجماعة أن يتوزعوهم، ويأخذ كل واحد منهم من يحتمله. وأنه ينبغي لكبير القوم أن يأمر أصحابه بذلك، ويأخذ هو من يمكنه.

                                                                                                                              (وإن أبا بكر) رضي الله عنه (جاء بثلاثة) أي: من أهل الصفة.

                                                                                                                              (وانطلق نبي الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم: بعشرة منهم).

                                                                                                                              [ ص: 521 ] هذا مبين لما كان عليه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: من الأخذ بأفضل الأمور، والسبق إلى السخاء والجود. فإن عيال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم كانوا قريبا من عدد ضيفانه هذه الليلة. فأتى بنصف طعامه أو نحوه. وأبو بكر: بثلث طعامه أو أكثر. وأتى الباقون بدون ذلك. والله أعلم.

                                                                                                                              (وأبو بكر بثلاثة. قال: فهو أنا، وأبي، وأمي. ولا أدري; هل قال: وامرأتي، وخادم بين بيتنا وبيت أبي بكر. قال: وإن أبا بكر) رضي الله عنه (تعشى عند النبي، صلى الله عليه) وآله (وسلم: ثم لبث حتى صليت العشاء) بضم الأول، وكسر الثاني مشددة. مبنيا للمفعول. كذا في القسطلاني. (ثم رجع، فلبث حتى نعس) بفتح العين: (رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم، فجاء بعدما مضى من الليل ما شاء الله) وفي هذا: جواز ذهاب من عنده ضيفان إلى أشغاله ومصالحه، إذا كان له من يقوم بأمرهم، ويسد مسده. كما كان لأبي بكر هنا: عبد الرحمن.

                                                                                                                              وفيه: ما كان عليه أبو بكر "رضي الله عنه" من الحب للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والانقطاع إليه، وإيثاره في ليله ونهاره: على الأهل، والأولاد، والضيفان، وغيرهم. (قالت له امرأته) "أم رومان": زينب بنت دهمان، بضم الدال وسكون الهاء: "أحد بني فراس بن غنم بن مالك بن كنانة": (ما حبسك عن أضيافك؟ أو [ ص: 522 ] قالت: ضيفك) بالإفراد; مع كونهم ثلاثة لإرادة الجنس. (قال: أوما عشيتهم؟) بهمزة الاستفهام. وفي البخاري: "عشيتيهم": بالياء، المولدة من إشباع كسرة التاء. (قالت: أبوا) أي: امتنعوا من الأكل (حتى تجيء) هذا فعلوه أدبا، ورفقا بأبي بكر، فيما ظنوه؛ لأنهم ظنوا: أنه لا يحصل له عشاء، من عشائهم: قال العلماء: والصواب للضيف: أن لا يمتنع مما أراده المضيف، من تعجيل طعام وتكثيره، وغير ذلك من أموره، إلا أن يعلم: أنه يتكلف ما يشق عليه، حياء منه، فيمنعه برفق. ومتى شك: لم يعترض عليه، ولم يمتنع. فقد يكون للمضيف عذر، أو غرض في ذلك، لا يمكنه إظهاره. فتلحقه المشقة بمخالفة الأضياف. كما جرى في قصة أبي بكر، رضي الله عنه، هذه.

                                                                                                                              (قد عرضوا عليهم) بضم العين، وكسر الراء المخففة، أي: عرض الطعام على الأضياف. وفي رواية: "عرضوا": بفتح العين والراء. أي: الأهل من الولد، والمرأة، والخادم. (فغلبوهم قال: فذهبت أنا فاختبأت) خوفا من أبي وشتمه.

                                                                                                                              (وقال: يا غنثر!) بضم الغين، وسكون النون، وفتح الثاء وضمها: لغتان. هذه هي الرواية المشهورة في ضبطه. وحكى [ ص: 523 ] عياض: "غنثر" بفتح الغين والثاء. ورواه الخطابي وطائفة: "عنتر" بعين مهملة، وتاء مثناة مفتوحة، قالوا: وهو الذباب. وقيل: هو الأزرق منه. شبه به، تحقيرا له.

                                                                                                                              ومعنى الأول: يا ثقيل! أو يا جاهل! أو يا أدنى! أو يا لئيم! أو يا سفيه! (فجدع) بفتح الجيم، والدال المشددة، أي: دعا على ولده بالجدع. وهو قطع الأذن، والأنف، والشفة. (وسب) ولده؛ ظنا منه أنه فرط في حق الأضياف. "والسب": الشتم. (وقال: كلوا لا هنيئا) قاله لما حصل له من الحرج والغيظ، بتركهم العشاء بسببه. وقيل: إنه ليس بدعاء. إنما أخبر. أي: لم تتهنأوا به في وقته. قال البرماوي: وهذا ينبغي الحمل عليه. وقال القسطلاني: قاله تأديبا لهم؛ لأنهم تحكموا على رب المنزل بالحضور معهم، ولم يكتفوا بولد. مع إذنه لهم في ذلك. ثم حلف أبو بكر أن لا يطعمه. (وقال: والله! لا أطعمه أبدا).

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: "قالوا: والله! لا نطعمه حتى تطعمه، ثم أكل وأكلوا".

                                                                                                                              فيه: أن من حلف على يمين، ثم رأى غيرها خيرا منها فعل ذلك، وكفر عن يمينه. كما جاءت به الأحاديث الصحيحة.

                                                                                                                              وفيه: حمل المضيف المشقة على نفسه، في إكرام ضيفانه. وإذا تعارض حنثه وحنثهم: حنث نفسه؛ لأن حقهم عليه آكد. (قال: [ ص: 524 ] وايم الله! ما كنا نأخذ من لقمة، إلا ربا من أسفلها) أي: زاد (أكثر منها) ضبطوه بالباء وبالثاء. وكلاهما صحيح.

                                                                                                                              (قال: حتى شبعنا، وصارت أكثر مما كانت قبل ذلك. فنظر إليها أبو بكر) رضي الله عنه (فإذا هي كما هي، أو أكثر. قال لامرأته: يا أخت بني فراس!): بكسر الفاء وتخفيف الراء. أي: يا من هي منهم. قال في الفتح: وفيه نظر. والعرب تطلق على من كان منتسبا إلى قبيلة: أنه أخوهم. انتهى.

                                                                                                                              ثم قال النووي: وقد اختلف في نسبها اختلافا كثيرا، ذكره ابن الأثير; قال عياض: "فراس" هو ابن غنم بن مالك. ولا خلاف في نسب "أم رومان": إلى "غنم": وقيل: هي من بني "الحارث بن غنم".

                                                                                                                              قال النووي: وهذا الحديث الصحيح، دل على كونها من "بني فراس بن غنم".

                                                                                                                              (ما هذا؟ قالت. لا، وقرة عيني!) يعني: وحق قرة عيني "صلى الله عليه وآله وسلم".

                                                                                                                              قال أهل اللغة: "قرة العين": يعبر بها عن المسرة، ورؤية ما يحبه الإنسان ويوافقه.

                                                                                                                              قيل: إنما قيل ذلك؛ لأن عينه تقر لبلوغه أمنيته، فلا يستشرف [ ص: 525 ] الشيء. فيكون مأخوذا من القرار.

                                                                                                                              وقيل: مأخوذ من "القر": بالضم. وهو البرد. أي: عينه باردة؛ لسرورها، وعدم مقلقها. قال الأصمعي وغيره: "أقر الله عينه" أي: أبرد دمعته؛ لأن دمعة الفرح باردة، ودمعة الحزن حارة؛ ولهذا يقال في ضده: "أسخن الله عينه".

                                                                                                                              قال صاحب المطالع: قال الداودي: أرادت بقرة عينها: "النبي صلى الله عليه وآله وسلم" فأقسمت به. ولفظة: "لا" زائدة. ولها نظائر مشهورة. ويحتمل أنها نافية وفيه محذوف. أي: لا شيء غير ما أقول، وهو "قرة عيني" (لهي الآن أكثر منها قبل ذلك بثلاث مرار).

                                                                                                                              قال النووي: فيه كرامة ظاهرة لأبي بكر "رضي الله عنه".

                                                                                                                              وفيه: إثبات كرامات الأولياء، وهو مذهب أهل السنة، خلافا للمعتزلة. انتهى.

                                                                                                                              ولفظ القسطلاني: هذا النمو كرامة، من كرامات الصديق، آية من آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ظهرت على يد أبي بكر الصديق.

                                                                                                                              (قال: فأكل منها أبو بكر. وقال: إنما كان ذلك من الشيطان) يعني: يمينه في قوله: "والله! لا أطعمه أبدا" (ثم أكل منها لقمة. ثم حملها إلى رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم [ ص: 526 ] فأصبحت عنده. قال: وكان بيننا وبين قوم عقد) أي: عهد مهادنة (فمضى الأجل) فجاءوا إلى المدينة، ففرقنا اثنا عشر رجلا، مع كل رجل منهم أناس. والمعنى: ميزنا. أو جعلنا: كل رجل منهم فرقة. ولأبي ذر: "فعرفنا". أي: جعلناهم عرفاء.

                                                                                                                              قال النووي: هكذا هو في معظم النسخ، بالعين وتشديد الراء. وفي كثير منها: بالفاء المكررة في أوله وبقاف، من التفريق. قال: فهما صحيحان، ولم يذكر عياض غير الأول.

                                                                                                                              قال : وفي هذا الحديث دليل لجواز تفريق العرفاء، على العساكر ونحوها.

                                                                                                                              وفي سنن أبي داود: "العرافة حق" لما فيه من مصلحة الناس، وليتيسر ضبط الجيوش ونحوها على الإمام: باتخاذ العرفاء.

                                                                                                                              وأما الحديث الآخر: "العرفاء في النار" فمحمول على العرفاء المقصرين في ولايتهم، المرتكبين فيها ما لا يجوز. كما هو معتاد لكثير منهم.

                                                                                                                              وفي معظم النسخ: "اثنا عشر". وفي نادر منها: "اثني عشر" وكلاهما صحيح. والأول: جار على لغة من جعل "المثنى" بالألف، في الرفع والنصب والجر. وهي لغة أربع قبائل من العرب. ومنها قوله [ ص: 527 ] تعالى: (إن هذان لساحران) وغير ذلك.

                                                                                                                              ولفظ القسطلاني: "اثنا عشر" بالألف، على لغة من يجعل المثنى كالمقصور، في أحواله الثلاثة. انتهى.

                                                                                                                              (الله أعلم كم مع كل رجل) منهم (قال: إلا أنه بعث معهم، فأكلوا منها) أي: من الأطعمة (أجمعون) أو كما قال عبد الرحمن بن أبي بكر، رضي الله عنهما. والشك من "أبي عثمان" وعلى هذا الحديث أتم البخاري الجزء الأول من صحيحه.




                                                                                                                              الخدمات العلمية