ذم التقليد
والحديث دليل على ذم الخلف المبتدعين المحدثين وأفعالهم وأقوالهم ، ومدح السابقين السالفين المتبعين الصالحين .
وفيه إشارة إلى حدوث المحدثات ، وشر الأمور ، والبدع المنكرات بعد القرون الثلاثة ، المشهود لها بالخير .
ومن جملة هذه البدع : ، والتمسك بالفقه المصطلح عليه اليوم ، ورفض الاتباع للكتاب والاعتصام بالسنة ، وهذا مشاهد في هذه الأمة منذ زمن طويل عريض . تقليد الرجال ، وترك النصوص
[ ص: 29 ] وقد حدثت بعض هذه البدع في زمن الصحابة والتابعين وتابعيهم بالإحسان ، فما ظنك بأزمان بعده؟ وبالله التوفيق ، وهو المستعان .
وعن ، قال : العرباض بن سارية : وصل مدلولها إلى المقصود ، والبليغ : ما تصل عبارته إلى الضمير . صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، ثم أقبل علينا بوجهه ، فوعظنا موعظة بليغة أي : دمعت . «ذرفت منها العيون;
و «الذرف» : جري الدمع من العين . ووجلت منها القلوب; أي خافت :
و «الوجل» : الخوف ، والمراد : تأثيرها في النفوس .
- بالإضافة - فإن المودع - بكسر الدال - عند الوداع لا يترك شيئا مما يهم المودع - بفتح الدال - أي : كأنك تودعنا بها . فقال رجل : يا رسول الله! كأن هذه موعظة مودع
قاله لما رأى من مبالغته صلى الله عليه وسلم في الموعظة . فأوصنا; أي : إذا كان الأمر كذلك ، فمرنا بما فيه كمال صلاحنا وتمام فلاحنا .
فقال : هذا من جوامع الكلم; لأن التقوى امتثال المأمورات ، واجتناب المنهيات ، «أوصيكم بتقوى الله» ; أي : قبول حكم الأمراء وإطاعتهم فيما يوافق الشرع; لأنه «والسمع والطاعة» ، ولكن لا يجوز محاربته ، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قيل : هذا مبالغة في وإن كان عبدا حبشيا» لأن من شرائط الإمارة الحرية ، وهذا كما في حديث آخر : إطاعة الأمراء ، وولاة الأمور; أو كما قال . «من بنى مسجدا لله ، بنى الله له بيتا في الجنة ، وإن كان كمفحص قطاة»
أو المراد : أن يكون العبد نائب السلطان ، فيجب طاعته بأمره .
ويحتمل أن يكون المعنى : إذا تسلط عبد حبشي حقير ذليل على مملكة ، لا يجوز المحاربة معه ، بل يجب سمعه وطاعته; لأنه لا يجوز تأمير العبيد ابتداء من أهل الحل والعقد ، بل لا بد من أن يختاروا لها قرشيا متصفا بأوصاف الإمامة .
وفي هذا الباب كتاب «إكليل الكرامة» .
[ ص: 30 ] قال علي القاري في «المرقاة» : معناه : إن كان المطاع (يعني : من ولاه الإمام عليكم) عبدا حبشيا ، فأطيعوه ، ولا تنظروا إلى نسبه ، بل اتبعوه على حسبه .
قيل هذا على سبيل المثل ، إذ لا تصح خلافته; لقوله صلى الله عليه وسلم : . «الأئمة من قريش»
قلت : لكن تصح إمارته مطلقا ، وكذا خلافته تسلطا كما هو في زماننا في جميع البلدان . انتهى .
وأقول : ولي كثير من العبيد وأرقاء الملوك ، على كثير من الممالك الإسلامية قديما وحديثا ، كما يشهد لذلك كتب التواريخ ، وأطاعهم العلماء والعامة تبعا لهذا الحديث ، ويقع مثله في أكثر الرياسات والممالك ، من جهة ولاة الأمور .
في الناس ، يذهب كل واحد منهم إلى مذهب ، ويكرع كل واحد من مشرب ، ويقع تباين الآراء ، وتضاد الأهواء في ولاة الأمور وأهل العلم المشهور . «فإنه من يعش منكم بعدي ، فسيرى اختلافا كثيرا»
وهذا ، فإنه وقع كما أخبر ، ووجد مصداقه من بعد القرون المشهود لها بالخير ، كما دلت عليه السين) . علم من أعلام النبوة
وفي إطاعة الأمراء وسمعهم أمن من الفتنة التي تنشأ من اختلاف الناس .
ثم أشار إلى حفظ التقوى في الدين ، وقال : . «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين»
الرشد . والرشاد : خلاف الغي .
والمراد بهؤلاء : الخلفاء الأربعة ، ومن هو على سيرتهم ، وعامل بالسنة ، لا من يذهب مع هوى نفسه ويحدث البدع . وسنة الخلفاء هي - في الحقيقة - سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، التي لم تكن اشتهرت في زمنه صلى الله عليه وسلم ، ثم راجت بعد زمان في عصر هؤلاء ، وأضيفت إليهم .
[ ص: 31 ] فلما كانت هذه الإضافة مظنة أن يزعم أحد أنها بدعة ، ويردها ، أو ينكرها ، وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعها .
قال في «أشعة اللمعات» : وعلى هذا فكل ما حكم به الخلفاء الراشدون - وإن كان اجتهادا منهم ، أو قياسا - هو موافق للسنة ، ولا يجوز إطلاق البدعة عليه كما تقول: الفرقة الزائغة . انتهى .
وفي هذا نظر; لأن الخلفاء أنفسهم أطلقوا على اجتهادهم وقياسهم لفظ : البدعة .
هذا - رضي الله عنه - أطلق على صلاة التراويح في ليالي رمضان ، أنها نعمت البدعة . عمر الفاروق
فكل اجتهاد وقياس منهم يخالف السنة الصحيحة ، لا ينبغي أن يتمسك به .
قال في «سبل السلام» : ليس المراد بسنة الخلفاء الراشدين إلا طريقتهم الموافقة بطريقته صلى الله عليه وسلم من جهاد الأعداء ، وتقوية شعائر الدين ونحوها; فإن الحديث عام لكل خليفة راشد ، ولا يخص الشيخين .
ومعلوم من قواعد الشريعة : أنه صلى الله عليه وسلم . ليس لخليفة راشد أن يشرع طريقة غير ما كان عليه النبي
ثم إن هذا نفسه الخليفة الراشد سمى ما رآه من تجميع صلاته ليالي رمضان : بدعة ، ولم يقل : إنها سنة . فتأمل . عمر
على أن الصحابة خالفوا الشيخين في مواضع ومسائل ، فدل أنهم لم يحملوا الحديث على أن ما قالوه أو فعلوه حجة .
وقد حقق البرماوي الكلام في «شرح ألفيته في أصول الفقه» ، وقال : إنما الحديث يدل على أنهم إذا اتفقوا على قول ، كان حجة ، لا إذا انفرد واحد منهم أو منهما .
[ ص: 32 ] وفي حديث آخر : ، أبي بكر وعمر» أخرجه «اقتدوا باللذين من بعدي : وحسنه ، الترمذي ، وأحمد ، وابن ماجه ، وله طرق فيها مقال ، إلا أنه يقوي بعضها بعضا . وابن حبان
قال : والتحقيق أن الاقتداء ليس هو التقليد ، بل هو غيره ، كما حققناه في شرح «نظم الكافل» في بحث الإجماع . انتهى كلام السبل .
جمع ناجذة - بالذال المعجمة - قيل : هو الضرس الأخير ، وقيل : هو مرادف السن ، وقيل : بمعنى مطلق الأنياب . «تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ»
وعلى كل حال هو كناية عن شدة ملازمة السنة والتمسك بها التي لم تكن في عصر النبوة ، ولا في زمن الخلفاء الراشدين «وإياكم ومحدثات الأمور» هاتان الكليتان على إطلاقهما ، وهما تعمان كل فرد من المحدثات ، وكل حقير وكبير من البدعات لا دليل على تخصيص شيء منها . «فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة»
وفيه رد على القائل بتقسيم البدعة إلى أقسام ، وهو نص في محل النزاع عند من يدرك مدارك الشرع ، ويعلم بكيفية الاستدلال .
وأما من نشأ على التقليد ، وليس له حلاوة الإيمان وذوق الاتباع المأمور به ، فلا يكفيه ألف دليل . رواه ، أحمد وأبو داود ، والترمذي . إلا أنهم لم يذكروا الصلاة; أي : لم يوردوا أول الحديث . وابن ماجه
وعن - رضي الله عنه ، قال : عبد الله بن مسعود ; أي : هذا الخط المستقيم الذي خطته هو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه . ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله وقال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ، ثم قال : «هذا سبيل الله»
[ ص: 33 ] وقرأ : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الآية ، وهي قوله : «هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه» . ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
والمراد بالسبل : الأديان المختلفة ، والطرق الزائغة ، ومحدثات الأمور ، وبدعات القبور ونحوها ، مما لم يجئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم ينزل الله به من سلطان .
والحديث تفسير لقوله تعالى : اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين [الفاتحة : 6 - 7] . فتقرر بهذا : أن ، وأن ما خالفهما - كائنا ما كان - فهو من سبل الشيطان . رواه سبيل الله ، والصراط المستقيم ، هو اتباع ظواهر القرآن والحديث وصرائحهما ، أحمد ، والنسائي . والدارمي
قال في «أشعة اللمعات» : اعلم أن في هذا الحديث وما ورد في معناه في كتب الأحاديث ، لم يأت عدد هذه الخطوط إلا في «تفسير المدارك» ; فإنه روى في تفسير هذه الآية حديثا معناه : ، وقرأ الآية . أنه صلى الله عليه وسلم خط خطا مستويا ، وقال : «هذا سبيل الرشد وسبيل الله ، اتبعوه» . ثم خط في كل جانب منه ستة خطوط مائلة ، وقال : «هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، فاجتنبوه»
قال : ثم يصير كل خط من هذه الخطوط الاثني عشر ستة خطوط ، فتكون السبل ثنتين وسبعين سبيلا .