وعن - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جابر . «أما بعد : فإن خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة»
قال في «أشعة اللمعات» : إن ، فما وافق منها أصول السنة ، وقواعدها ، وقيس عليها ، يقال له : البدعة الحسنة ، وما خالفها يقال له : بدعة وضلالة . كل ما حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم بدعة
وهذه الكلية المذكورة في هذا الحديث ، محمولة على ذلك .
وأن من البدع : ما هو واجب; كتعلم «الصرف» ، و «النحو» ، وتعليمهما ، فإنه يحصل بذلك معرفة الآيات والأحاديث ، وكحفظ غرائب الكتاب والسنة وغيرهما ، مما يتوقف عليه خط الدين والملة .
ومنها : ما هو مستحسن ومستحب; كبناء الرباطات والمدارس . ومنها : ما هو مكروه; كزخرفة المساجد والمصاحف - على قول البعض - .
ومنها : ما هو مباح; كالتوسعة في الأطعمة اللذيذة ، واللباسات الفاخرة ، بشرط كونها حلالا ، غير باعث على الطغيان والتكبر والمفاخرة .
وكذلك المباحات الأخرى التي لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم; كالغربال ، ونحوها .
ومنها : ما هو حرام; كمذاهب أهل البدع والأهواء المخالفة للسنة والجماعة .
[ ص: 24 ] الخلفاء الراشدون لم يبتدعوا شيئا في الدين
وما فعله الخلفاء الراشدون ، وإن كان بدعة ، على معنى : أنه لم يكن في عصر النبوة ، ولكن ذلك من قسم البدعة الحسنة ، بل هو في الحقيقة سنة; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : . انتهى . «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين»
الرد على من قسم البدعة إلى حسنة وسيئة
وأقول : في هذا الكلام نظر من وجوه :
الأول : إن قوله : كلية عامة شاملة لكل بدعة ، أي بدعة كانت ، حسنة أو سيئة ، ولا يصح حمله على القسمة إلا بدليل يساوي هذا النص ، أو يقدم عليه ، ولا دليل . «كل بدعة ضلالة»
الثاني : إن قسمة البدع إليها قول جمع من الفقهاء ، وقد خالفهم جمع آخر من أهل الحديث والفقه والسلوك .
منهم : الشيخ أحمد السهرندي ، مجدد الألف الثاني ، والعلامة الشوكاني ، وصاحب «رد الإشراك» ، والسيد العلامة حسن الحسيني القنوجي البخاري ، والإمام محمد بن إسماعيل الأمير اليماني ، وسائر المحدثين قديما وحديثا .
واستدلوا بهذا الحديث وعمومه ، وقالوا : لم يرد في حديث صحيح ، ولا ضعيف ما يصلح للتخصيص ، ولا ملجئ إلى صرف ظاهر النص .
وهذا الحق ليس به خفاء فدعني عن بنيات الطريق
الثالث : الذي جعلوه أقساما للبدعة ، منها : ما هو ليس ببدعة - في الحقيقة - ، فلا معارضة بينه وبين هذا الحديث .ومنها : ما هو في حكم السنة ، بعموم الأدلة .
[ ص: 25 ] ومنها : ما هو على أصل الإباحة والبراءة الأصلية; كما صرح بذلك في «إيضاح الحق الصريح» .
الرابع : أن هذا الحديث من أحاديث «صحيح ، وهو أرجح من أحاديث غيره ، إلا مسلم» ، فلا تصح معارضته بروايات أخرى على أي حال . البخاري
الخامس : أن حديث الباب بشرية الأمور المحدثات ، وليس في الشر خير ولا حسن أبدا ، والمحدث يعم البدع الاعتقادية ، والقولية ، والفعلية .
السادس : أن الحكم بالضلالة على كل بدعة ، ينادي بأعلى صوت أنه ليس فيها هدى أصلا ، والضلالة لا يكون فيها الحسن .
وبالجملة : الحديث - على إطلاقه - لم يرح رائحة التخصيص .
ويزيده إيضاحا حديث المتقدم ، وما ورد في معناه من الأحاديث الدالة على عائشة ، وكون كل ضلالة في النار ، وكل ما هو في النار لا يكون من الإسلام في صدر ولا ورد . ذم البدع وأهله
فتأمل في هذا النص الصريح الصحيح ، وأنصف إنصاف الفقيه الفحل النبيه ، ولا تكن من الممترين ، ولا من أبناء المبتدعين ، وانظر هذا البحث في كتاب «هداية السائل إلى أدلة المسائل» ، ففيه شفاء العليل ، وإرواء الغليل - إن شاء الله تعالى - وعن - رضي الله عنهما - ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن عباس . «أبغض الناس إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم»
الإلحاد في اللغة : الميل ، ولهذا يقال للحفرة التي تكون في جانب من القبر : لحد بهذا المعنى .
وفي الشرع : ميل من الحق إلى الباطل . والمراد به : ارتكاب الأمور المنهي عنها في أرضه المحترمة; [ ص: 26 ] كالقتل ، والجدال ، والصيد ، أو فعل المعاصي مطلقا ، وإليه ذهب ابن عباس ، وقال : كما أن الطاعة تضعف في الحرم ، كذلك حكم المعصية أيضا; يعني : في المضاعفة; لأن إساءة الأدب في مقام القرب أشنع وأقبح منها في غيره . «في الحرم»
ولهذا كره - رضي الله عنه - إقامة مكة ، صونا لحرمتها وتعظيمها ، وتوطن بالطائف .
لكن الأرجح أن المضاعفة خاصة بالطاعات ، وأن السيئات لا تضاعف فيه; لسبق الرحمة على الغضب ، ولغير ذلك من الدالة على ذلك . فالأول أولى .
; أي : شعارها; كالنوحة ، وضرب الوجه ، وخرق الجيب على الميت ، والطيرة ونحوها ، من كل ما يصدق عليه أنه من سنن الجاهلية . كائنا ما كان ، أو ثبت في الشرع كونه منها ، ويدخل فيه كل بدعة ومحدثة ، ليس عليه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنها سنة الجاهلية في الإسلام المخالف لها . «ومبتغ الإسلام سنة الجاهلية»
; لأن إهراق الدم مطلقا مذموم وممنوع . «ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهرق دمه»
وإذا كان بقصد مجرد الإثخان ، فهو أشد ذما ، وأقبح كراهة ، كأن المقصود منه نفس المعصية وذاتها .
قال بعض العلماء : فإذا كان هذا حال طالب المعصية ، وهو لم يفعل ، فكيف بمن أتى بها وفعلها؟ «رواه . البخاري»
استدل بهذا الحديث على أن . ابتغاء البدع في الإسلام موجب لبغض الله تعالى لمبتغيه
والبدعة : هي ما كان من سنة الجاهلية ، وكان خلاف السنة المطهرة . [ ص: 27 ]
وعن - رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ابن مسعود وفي رواية : «ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي» - بالتنوين - «في أمة» . «إلا كان له من أمته حواريون»
الحواري في اللغة : المحب ، والمخلص ، والناصر ، والمعين المبرأ من الكذب ، والخلاف ، والنفاق .
مشتق من الحور ، وهو البياض الخالص . وبهذا المعنى قيل لأصحاب عيسى بن مريم - عليهما السلام - ومخلصيه : الحواريين .
وقيل : هم الأصل في تسمية الأنصار والمخلصين بذلك ، وكانوا قصارين . و «القصار» يقال له : حواري; لأنه يبيض الثياب . وقيل : لأنهم صفوا أنفسهم من دنس الجهل والمعصية بالعلم والطاعة .
جمع «خلف» - بسكون اللام - ، وجمع «خلف» - بفتحها - : أخلاف . «ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف»
والخلف في الأصل : من جاء بعد أحد ، وجلس مجلسه ، والغالب في الاستعمال إطلاق الخلف» - بسكون اللام - في الشر والفساد ، و- بفتحها - في الخير والصلاح ، كما يقال : فلان خلف صدق لأبيه ، وفلان خلف سوء له .
والمعنى : أن لكل نبي أصحابا مخلصين ، أنصارا محبين ، ثم يأتي من بعدهم من صفتهم كما قال : ; أي : فعلهم خلاف قولهم ، وهذا نوع من النفاق ، «يقولون ما لا يفعلون» ، وهذا نوع من الفسق . «ويفعلون ما لا يؤمرون»
قال بعض العلماء : هؤلاء هم علماء السوء وأمراؤه - أعاذنا الله من ذلك . انتهى .
ومن كان هذا وصفه ، فهو خلف سوء لسلف صالح .
، والجهاد باليد : هو تغيير المنكر ، وكسر [ ص: 28 ] المظالم ، وهضم الفساد الواقع من البدع والمحدثات . «فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن»
; أي : يمنعهم ، ويسبهم ، ويقبحهم ، وينصحهم بفمه ، فله نصيب من الإيمان كامل ، «ومن جاهدهم بلسانه» . «فهو مؤمن»
; أي : ينكره بجنانه ، ويحزن ، ويتألم ، ويتغير فؤاده بمشاهدته ، فله أيضا نصيب من الإيمان ، وإن كان نازلا بالنسبة إلى الثاني والأول . «ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن»
ولهذا قيل : إن الأول فعل الولاة والأمراء ، والرؤساء والملوك والسلاطين .
والثاني : صنيع العلماء والعرفاء والصلحاء والشيوخ وأحبار الإسلام ورهبانه ، الرادين على أهل البدع بتأليف الكتب ، وتقرير الأدلة في الصحف .
والثالث : عمل ضعفاء المسلمين ، الذين لا يقدرون على شيء من اليد واللسان .
فهذه ثلاث درجات للإيمان ، قوة ، وضعفا ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل .
وفي حديث آخر : رواه «وذلك أضعف الإيمان» . مسلم
وفي هذا النفي من الوعيد ما تقشعر له القلوب ، وترجف له الأفئدة .