وأصل هذا الداء العضال، وأس هذا المرض، مرض تقليدات الرجال، جاء من اليهود المغضوب عليهم، كما أوضح ذلك صاحب «دليل الطالب على أرجح المطالب».
وفي تفسير «فتح البيان» تحت قوله سبحانه: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون [المائدة: 44]: لفظ «من» من صيغ العموم، فيفيد أن هذا غير مختص بطائفة معينة، بل لكل من ولي الحكم، وهو الأولى، وبه قال السدي.
وقيل: إنها مختصة بأهل الكتاب. وقيل: بالكفار مطلقا؛ لأن المسلم لا يكفر بارتكاب الكبيرة، وبه قال ابن عباس، وقتادة والضحاك.
وقيل: في خصوص بني قريظة والنضير. وعن قال: أنزل الله هذه الآيات في الكفار. أخرجه البراء بن عازب، مسلم.
وقال ابن مسعود، والحسن، والنخعي: هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود، وفي هذه الأمة.
فكل من ارتشى، وحكم بغير حكم الله، فقد كفر وظلم وفسق. وهو الأولى؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقيل: وهو محمول على أن الحكم بغير ما أنزل الله وقع استخفافا، أو استحلالا، أو جحدا. قاله أبو السعود والإشارة بقوله: «فأولئك» إلى «من» والجمع باعتبار معناها، وكذلك ضمير الجماعة في قوله هم الكافرون .
وذكر الكفر هنا مناسب؛ لأنه جاء عقب قوله: ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وهذا كفر، فناسب ذكر الكفر هنا. قاله أبو حيان.
قال يقول: من جحد الحكم بما أنزل الله، فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم، فهو ظالم فاسق. ابن عباس:
[ ص: 285 ] وعنه قال: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفرا ينقل من الملة، بل كفر دون كفر.
وقال عطاء: هم الظالمون هم الفاسقون هم الكافرون كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
وعن قال: نزلت في اليهود خاصة. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. ابن عباس،
وعن حذيفة بسند صحيح: أن هذه الآيات ذكرت عنده، فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل.
فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل، إن كان لكم كل حلوة، ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قد الشراك. وعن حذيفة: نحوه. ابن عباس
أقول: هذه الآية، وإن نزلت في اليهود، لكنها ليست مختصة بهم؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وكلمة «من» وقعت في معرض الشرط، فتكون للعموم.
فهذه الآية الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله، وهو الكتاب والسنة.
والمقلد لا يدعي أنه حكم بما أنزل الله، بل يقر أنه حكم بقول العالم الفلاني، وهو لا يدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه، أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل؟
ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ؟ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف؟
فانظر يا مسكين، ماذا صنعت بنفسك، فإنك لم يكن جهلك مقصورا عليك، بل جهلت على عباد الله، فأرقت الدماء، وأقمت الحدود، وهتكت الحرم، وأحللت الفروج بما لا تدري.
فقبح الله الجهل بما أنزله، ولا سيما إذا جعله صاحبه شرعا ودينا له [ ص: 286 ] وللمسلمين كما فعل كثير من المتفقهين، والمتصوفين، والمتفلسفين والمتكلمين.
فإنه طاغوت وجبت عند التحقيق، وإن ستر من التلبيس بستر رقيق، وحجب منه بحجاب دقيق.
فيا أيها المقلد! أخبرنا: أي القضاة أنت؟ أمن الذين قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أخرجه «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة، فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم، فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» أبو داود، عن وابن ماجه، بريدة.
فبالله عليك، هل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق؟!
إن قلت: نعم، فأنت وسائر أهل العلم يشهدون بأنك كاذب؛ لأنك معترف بأنك لا تعلم ما الحق، وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا، من غير فرق بين مجتهد ومقلد.
وإن قلت: بل قضيت بما قاله إمامي، ولا تدري أحق هو أم باطل، كما هو شأن كل مقلد على وجه الأرض، فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين: إما قضيت بالحق ولا تعلم أنه الحق، أو قضيت بغير الحق؛ لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين: 1- إما أن يكون حقا. 2- وإما أن يكون غير حق.
وعلى كلا التقديرين، فأنت من قضاة النار، بنص الصادق المختار. وهذا ما أظن يتردد فيه أحد من أهل الفهم؛ لأمرين:
أحدهما: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جعل القضاة ثلاثة، وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل، والعالم والجاهل.
الثاني: أن المقلد لا يدعي أنه يعلم ما هو حق من كلام إمامه، وما هو باطل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة، وأنه لا يعقل الحجة إذا [ ص: 287 ] جاءته، فأفاد هذا: أنه حكم بشيء لا يدري ما هو؟ فإن وافق الحق فهو قضى بالحق، ولا يدري أنه الحق. وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق. وهذان هما القاضيان اللذان في النار.
فالقاضي المقلد على كل حال يتقلب في نار جهنم كما قال قائل:
خذا بطن هرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق
وكما تقول العرب: «ليس في الشر خيار»، ولقد خاب وخسر من لا ينجو على كل حال من النار.فيا أيها القاضي المقلد؟ ما الذي أوقعك في هذه الورطة، وألجأ إلى هذه العهدة التي صرت فيها على كل حال من أهل النار؟
وإذا دمت على قضائك ولم تتب، فإن أهل المعاصي والبطالة على اختلاف أنواعهم هم أرجى لله منك، وأخوف له؛ لأنهم على عزم التوبة والإقلاع، ويلومون أنفسهم على ما فرط منها.
بخلاف هذا القاضي المسكين فإنه ربما دعا الله -في خلواته وبعد صلواته- أن يديم عليه تلك العهدة، ويحرسها عن الزوال، حتى لا يتمكنوا من فصله، ولا يقدروا على عزله.
وقد يبذل في استمراره على ذلك نفائس الأموال، ويدفع الرشا والبراطيل لمن كان له في أمره مدخل، فيجمع -بهذا الافتعال- بين خسران الدنيا والآخرة، وتسمح نفسه بهما جميعا في حصول ذلك القضاء، فيشتري بهما النار، ولا يخرج عن هذه الأوصاف إلا القليل النادر.
والآيات الكريمة في هذا المعنى والأحاديث الصحيحة في هذا المبنى كثيرة جدا.
ولو لم تكن من الزواجر عن هذا، إلا هذه الآية وهذا الحديث المتقدم، لكفت.