والحديث المتقدم في ذم القياس أخرجه أيضا ابن القيم بأسانيده، ثم قال في حق رجاله: هؤلاء كلهم أئمة ثقات حفاظ، إلا حريز بن عثمان، فإنه كان منحرفا عن -رضي الله عنه- ومع هذا احتج به البخاري في «صحيحه». وقد روي عنه: أنه يتبرأ مما نسب إليه من الانحراف عن علي علي كرم الله وجهه.
وأما فكان إماما جليلا، سيفا بتارا على نعيم بن حماد، الجهمية المعطلة، وروى عنه في «صحيحه». البخاري
وإنما جازت الرواية عن مثل هؤلاء؛ لأنهم كانوا أئمة في الصدق والضبط.
ويكفي هذان الوصفان في الراوي، ولا حاجة مع ذلك إلى اشتراط العدالة المصطلح عليها فيه، فإنه مفهوم لا وجود له في الخارج إلا نادرا، والنادر كالمعدوم.
وإنما المعتبر عند المحققين من علماء أصول الحديث وفحوله: الضبط والصدق فقط.
فسقط اعتراض الرافضة على أصحاب «الصحيحين» بأن في رجالهم من كان مرجئا أو قدريا، أو معتزليا، أو خارجيا، ونحوهم؛ لأن تلك الحالة لا تضرهم مع وجود الصدق، وظهور الضبط، وتمام الحفظ، وعدم النسيان، وفقدان الكذب.
اشدد يديك على هذه الفائدة، وكن من الشاكرين، فإنك لا تجد مثلها في عامة الكتب، وبها ينحل كثير من الإشكالات والإيرادات الآتية من أهل البدع والرأي على أهل الحق.
قال تحت الحديث المتقدم: هذا هو القياس على غير أصل، والكلام في الدين بالخرص والظن. ابن عبد البر
ألا ترى إلى قوله في الحديث: «يحللون الحرام، ويحرمون الحلال»؟
[ ص: 327 ] ومعلوم أن الحلال هو ما في كتاب الله وسنة رسوله تحليله، والحرام ما فيهما تحريمه.
فمن جهل ذلك، وقال فيما سئل عنه بغير علم، أي: كتاب وسنة، وقاس برأيه ما خرج به من السنة، فهذا هو الذي قاس الأمور برأيه، فضل وأضل.
وأما من رد الفروع في علمه إلى أصولها، فهو لم يقل برأيه. انتهى.
قال الفلاني: هكذا أخرجه وأورده في مقام الاحتجاج على ذم الرأي، فصنيعه يدل على أن الحديث صالح للاحتجاج به. قال: وفي غيره من الأحاديث الصحاح الواردة في معناه كفاية. انتهى. الحافظ أبو عمر، يعني: ابن عبد البر،
قلت: ولعل المراد بذلك: الأخبار الواردة في ذم الرأي واستعمال القياس في موضع النص.
ولأصل الحديث شاهد أخرجه أصحاب السنن الأربعة، في «مسنده» من حديث وأحمد مرفوعا، في افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وله طرق وألفاظ، وقد تقدم في موضعه من هذا الكتاب، ونحو حديث: «تجاري الكلب» وسبق في باب العلم. أبي هريرة
وإنك إذا عرضت كتب الظن والخرص التي يقال لها: كتب الفقه، على هذا الحديث، وفحصت عن مصداقه فيها، وجدتها مصداقا صحيحا له، لا يشك فيه إلا من حرم من الإنصاف، واتصف بالاعتساف.
هذه كتب الفقه الحنفية فيها جواز أهل البيت النبوي -صلى الله عليه وسلم- في هذا الزمان؛ لعدم الخمس، وغيره من الأدلة. دفع الزكاة المفروضة إلى بني هاشم
وهذا تحليل لما حرم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الأحاديث الصحيحة. ومثله مسائل كثيرة تظهر عند تتبع الفتاوى والفروعات.
[ ص: 328 ] ومن مذهبهم: كراهة مثلا، والكراهة في اصطلاح السلف بمعنى التحريم، مع أنه حلال، سنة سنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الخبر الصحيح. إشعار الهدي
ومنها ثبت حلتها بكثير من الأحاديث الصحيحة المحكمة الصريحة. وهو عندهم حرام، وفي لفظ: مكروه، وهذا تحريم الحلال بعينه. ومثله مسائل أخرى واضحة لمن نظر في صحائفهم ودفاترهم. وهكذا وقع لإخوانهم الآخرين من مقلدة المذاهب أيضا، وليس هذا مختصا بهم. رفع اليدين في المواضع الأربعة من الصلاة،
فلا نجاة من هذا الوعيد إلا لمن هو على سواء الطريق، وهو سلوك سبيل الكتاب والسنة، والاجتناب من بدع الرأي والقياس، وترك الظن والتخمين في الدين، وعدم المبالاة بما جاء من المقلدين والمجتهدين، على خلاف كتاب الله وسنة رسوله خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أخرج بسنده عن ابن عبد البر -رضي الله عنه- مرفوعا، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبي هريرة «تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله، وبرهة بسنة رسول الله، ثم يعملون بالرأي، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا».
وفي رواية أخرى بلفظ: «تعمل هذه الأمة بكتاب الله، ثم تعمل برهة بسنة رسول الله، ثم تعمل بعد ذلك بالرأي، فإذا عملوا بالرأي ضلوا». انتهى.
وفي سنده جبارة، تكلم فيه غير واحد، وهو من رجال ابن ماجه.
وهذه الأحاديث دليل على صحة رسالته -صلى الله عليه وسلم- حيث وقع ما أخبر به طابق النعل بالنعل، فهذا علم من أعلام النبوة، ومعجزة من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
وعن أن ابن شهاب: -رضي الله عنه- قال -وهو على المنبر-: يا أيها الناس! إن الرأي إنما كان من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مصيبا؛ لأن الله كان يريه، وإنما هو منا الظن والتكلف. عمر
[ ص: 329 ] وفيه انقطاع؛ لأن ابن شهاب لم يدرك وأخرجه عمر بن الخطاب، أيضا في «المدخل» بالسند المذكور، وقال: هذه الآثار عن البيهقي كلها مراسيل. انتهى. عمر
والمرسل إذا لم يخالف المسند حجة عند أكثر أهل العلم.
وعن محمد بن إبراهيم التيمي: أن -رضي الله عنه- قال: أصبح أهل الرأي أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يعوها، وتفلتت منهم أن يردوها، فاستبقوا الرأي. عمر
وزاد صدقة: وفي رواية «استحيوا حين يسألوا أن يقولوا: لا نعلم، فعارضوا السنن برأيهم، فإياكم وإياهم».
وفي رواية أخرى عن عمرو بن حرب: إياكم وأصحاب الرأي؛ فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا.
وفي رواية أخرى عن محمد التيمي بلفظ: فقالوا في الدين برأيهم. وعنه -رضي الله عنه-: اتقوا الرأي في دينكم.
وهذه الآثار دليل واضح على أن تسمية المتفقهة بأهل الرأي، وأصحاب الرأي من -رضي الله عنه- وفيه تنصيص على كون هؤلاء أعداء السنة المطهرة، ولله در الفاروق فقد أظهر الكرامة العظيمة في هذا الباب، وما أصدقه تحقيقا في أهل الزمان، ولا غرو؛ فإنه الذي وافق رأيه [الرأي] الإلهي في غير موضع، وكان الشيطان يفر منه، ويسلك غير سبيله. عمر؛
ثم رأيت في غير كتاب من كتب علماء الأمة وفضلائها: أنهم يذكرون الحنفية بهذه اللفظة في مطاوي فخاويهم، كالنووي في «شرح مسلم» وغيره في غيره. وقد صار هذا اللقب علما لهم من غاية شهرتهم بإيثار الرأي في الدين، وعدم مبالاتهم بالرواية الحديثية.
[ ص: 330 ] وإن توجه أحد منهم إلى الحديث توجه لتأييد مذهبه، لا للأخذ به في خلاف المذهب.
وهذا من الشناعة في مكان لا يخفى، وفيه عكس القضية؛ لأن من حق التفريعات أن تعرض على السنة، لا أن تعرض السنة عليها.
فما كان منها موافقا لأقوال أهل الرأي يقبل، وما كان يخالفها، يرد أو يؤول. وما أحسن ما قال أبو بكر بن أبي داود في قصيدة في السنة:
ودع عنك آراء الرجال وقولهم فقول رسول الله أزكى وأشرح
وإنما سميت الحنفية بهذا الاسم الشؤم؛ لأجل مزيد خوضهم في الرأي بالنسبة إلى غيرهم من المذاهب الثلاثة، وإلا ليس مذهب من المذاهب المتعارفة إلا وفيه دخل للرأي على الجملة، وإنما العبرة بالكثرة؛ لأن الأكثر في حكم الكل، والأقل النادر في حكم المعدوم.