قال اختلف العلماء في الرأي المقصود إليه بالذم والعيب، في هذه الآثار المذكورة في هذا الباب عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه، وعن التابعين لهم بإحسان. ابن عبد البر:
فقال جمهور أهل العلم: إن الرأي المذموم المذكور هو القول في أحكام [ ص: 338 ] الشرع وشرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع والنوازل بعضها إلى بعض قياسا، دون ردها إلى أصولها، والنظر في عللها واعتبارها.
فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل، وفرعت وشققت قبل أن تقع، وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظنون.
قالوا: وفي الاشتغال بهذا، والاستغراق فيه تعطيل السنن، والبعث على الجهل منها، وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها، ومن كتاب الله -عز وجل- ومعانيها. واحتجوا على صحة ما ذهبوا إليه من هذا بأشياء:
منها: ما رواه عن طاوس، أنه قال: لا تسألوا عما لم يكن؛ فإني سمعت ابن عمر: يلعن من سأل عما لم يكن. عمر
وعن معاوية وفسرها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الأغلوطات. بصعاب المسائل. الأوزاعي
وعن الصنابحي، -رضي الله عنه-: أنهم ذكروا المسائل عنده، فقال: أما تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن عضل المسائل؟! معاوية بن أبي سفيان عن
وفي حديث وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كره المسائل وعابها، وقال: سهل بن سعد «إن الله يكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال».
وفي حديثه: لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل، وعابها. هكذا ذكره أحمد بن زهير بسنده، وهو خلاف لفظ «الموطأ». ولفظه عنه: أنه كره المسائل وعابها.
روى عن الأوزاعي قال: وددت أن حظي من أهل هذا الزمان ألا أسألهم عن شيء، ولا يسألوني عن شيء، يتكاثرون بالمسائل، كما يتكاثر أهل الدراهم بالدراهم. عبدة بن أبي لبابة،
وفي رواية الحجاج بن عامر الثمالي، وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إياكم وكثرة السؤال».
[ ص: 339 ] وفي سماع عن أشهب عنه -صلى الله عليه وسلم-: مالك ثم قال: أما كثرة السؤال، فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه من كثرة المسائل، فقد كره رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسائل وعابها. «أنهاكم عن قيل وقال، وكثرة السؤال»
وقال تعالى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم [المائدة: 101] فلا أدري أهو هذا، أم السؤال في مسألة الناس في الاستعطاء؟ انتهى.
قلت: عموم اللفظ يشمل كلا المرادين، ولا مانع من إرادتهما في هذه الأخبار وفي غيرها، والقرآن يساعد ذلك، وكذلك الروايات الأخرى الواردة في هذا الباب.
قال أبو عمرو: واحتج الجمهور أيضا بحديث قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: سعد بن أبي وقاص، والحديث له طرق ثابتة. «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين، فحرم عليهم من أجل مسألته»
وبحديث يرفعه: أبي هريرة والحديث له طرق وأسانيد. «ذروني ما تركتكم، وإنما أهلك الذين قبلكم سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم»
وقال -رضي الله عنه- وهو على المنبر: أحرج بالله على كل امرئ سأل عن شيء لم يكن، فإن الله قد بين ما هو كائن. عمر بن الخطاب
وعن قال: ما رأيت قوما خيرا من أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض، كلهن في القرآن: ابن عباس،
1- ويسألونك عن المحيض [البقرة: 222].
2- يسألونك عن الشهر الحرام [البقرة: 217].
3- ويسألونك عن اليتامى [البقرة: 220] ما كانوا يسألون إلا عما ينفعهم.
قال أبو عمرو: ليس في الحديث من الثلاث عشرة مسألة إلا ثلاث.
وأقول: إن أراد تعداد ما في القرآن من الأسئلة، كما هو ظاهر كلامه -رضي الله عنه- فمنها قوله:
4- يسألونك عن الخمر والميسر [البقرة: 219].
[ ص: 340 ] 5- ويسألونك ماذا ينفقون [البقرة: 219].
6- يسألونك عن الأهلة [البقرة: 189].
7- يسألونك ماذا أحل لهم .
8- يسألك الناس عن الساعة [الأحزاب: 63].
9- يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا [النساء: 153]. انتهى.
وبقي في هذا التعداد مسائل أربعة لم يذكرها أبو عمرو رحمه الله.
وأما في السنة، فهي أكثر، وقد جمعها الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في «إعلام الموقعين» وغيره في «بلوغ السول من أقضية الرسول» وهي في أربع كراريس، أو نحوها.
بخلاف تلك المسائل التي هي في كتب القوم المؤلفة في الفروع، فقد جاوز عددها آلاف آلاف.
وجميعها أو أكثرها مما لم يكن، ولا يكون، وأما ما كان، أو يكون غالبا، فليس فيها من حكمها شيء غالبا.
وإذا يعرضهم أمر من هذه الأمور، يعدون كل جانب، ويستخرجون له حكما من قال العلماء وقيلهم، ويقيسون على آرائهم، ثم يفتون به المسائل، ويقضون به عليه، وهم في ذلك أبعد الخلق من كتاب الله وسنة رسوله.
ومن أعلام النبوة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبر بما سيكون في أمته، من كثرة السؤال والمسائل، وكثرة القال والقيل، ثم وقع كما أخبر.
هذه كتب الفروع من أهل الرأي وغيره، انظر فيها تجد فيها من هذا الباب ما لا يحصيه العقل الفعال، فضلا عن غيره، وفيها من لفظة «قيل» و«قال» و«إن قيل كذا قيل كذا» خاصة ما لا يحصره إلا الله تعالى.
فهذا من نفائس المعجزات وغرائب الكرامات لسيد الكائنات عليه من الصلاة أفضلها ومن السلام أكمله.
وإنك لو وقفت يوما من الدهر، بل آنا من الزمان للنظر في كتب السنة [ ص: 341 ] والقرآن رأيت أنه لا وجود لهذا السؤال، ولهذا القيل والقال في شيء منهما أبدا، وإن الله تعالى صانهما عن خلط الرأي، ودخل الظن، وولوج الجهل فيهما ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا وبالله التوفيق.
قال ابن عبد البر: قالوا: ومن تدبر الآثار المروية في المرفوعة، وآثار الصحابة والتابعين في ذلك، علم أنهم كانوا يكرهون الجواب في مسائل الأحكام ما لم تنزل. ذم الرأي
فكيف يوضع الاستحسان، والظن، والتكلف، وتسطير ذلك، واتخاذه دينا؟
وذكروا من الآثار أيضا ما روي عن مرفوعا: معاذ بن جبل «لا تعجلوا بالبلية قبل نزولها، فإنكم إن تفعلوا ذلك أوشك أن يكون فيكم من إذا قال، سدد، أو وفق، وإنكم إن عجلتم تشتت بكم الطرق هاهنا وهاهنا».
وقال -رضي الله عنه-: إنه لا يحل لأحد أن يسأل عما لم يكن؛ إن الله تعالى قد قضى فيما هو كائن. عمر
وسئل مسروق، عن مسألة، فقالا: أكانت هذه بعد؟ قلت: لا، قالا: فأجمنا حتى تكون. وأبي بن كعب
وعن أنه كان لا يقول برأيه في شيء، حتى يسأل عنه، حتى يقول: أنزل أم لا؟ فإن لم يكن نزل، لم يقل فيه، وإن وقع تكلم فيه. زيد بن ثابت:
وكان إذا سئل عن مسألة يقول: أوقعت؟ فيقال له: ما وقعت، ولكنها نعدها، فيقول: دعوها، إن كانت وقعت أخبرهم.
عن قال: ما سمعت أبي يقول في شيء قط برأيه، قال: وربما سئل عن شيء، فيقول: هذا من خالص السلطان. هشام بن عروة،
وقال من أحب أن يسأل، وليس بأهل أن يسأل، فما ينبغي أن يسأل. ابن عيينة:
وعن قال: أدركت أهل المدينة، وما فيها إلا الكتاب والسنة، والأمر ينزل، فينظر فيه السلطان. ابن هرمز،
[ ص: 342 ] قال: وقال لي مالك: أدركت أهل هذه البلاد، وإنهم يكرهون هذا الإكثار الذي في الناس اليوم.
قال -يريد المسائل- قال: وقال ابن وهب إنما كان الناس يفتون بما سمعوا وعلموا، ولم يكن هذا الكلام الذي في الناس اليوم. مالك:
وعن قال: قال ابن سيرين، -رضي الله عنه- عمر بن الخطاب لعقبة بن عمرو: ألم أنبأ أنك تفتي الناس ولست بأمير؟ ولحارها من تولى قارها.
قال: وكان يقول: إياكم وهذه العضل؛ فإنها إذا نزلت بعث الله إليها من يقيمها ويفسرها.
وعن يزيد بن أبي حبيب: أن سأل عبد الملك بن مروان عن شيء، فقال له ابن شهاب أكان هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا، قال: فدعه؛ فإنه إذا كان أتى الله له بفرج. ابن شهاب:
وعن عن مجاهد، قال: يا أيها الناس! لا تسألوا عما لم يكن؛ فإن ابن عمر، كان يلعن من سأل عما لم يكن. عمر
وعن موسى بن علي، عن أبيه، قال: كان إذا سأله إنسان عن شيء، قال: آلله أكان هذا؟ فإن قال: نعم، نظر، وإلا، لم يتكلم، وأتاه قوم فسألوه، فأخبر، فكتبوها، ثم قال: أخبرناه، قال: فأتوه فأخبروه، فقال: أغدرا؟ لعل كل شيء حدثتكم به خطأ، إنما اجتهدت لكم رأيي. زيد بن ثابت
وعن قال: قيل عمرو بن دينار، لجابر بن زيد: إنهم يكتبون منك ما يسمعون، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، أيكتبون رأيا أرجع عنه غدا؟!
وعن قال: كان إذا جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنة، سمى صوافي الأمراء، فيرفع إليهم، فجمعوا له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم فهو الحق. المسيب بن رافع،
وذكر في كتاب «تمهيد الآثار» بسنده عن الطبري إسحاق بن إبراهيم الحنيني، قال: قال قبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد تم هذا الأمر واستكمل، فإنما ينبغي [ ص: 343 ] أن يتبع آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا يتبع الرأي، فإنه متى اتبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك فاتبعته. فأنت كلما جاء رجل اتبعته، أرى هذا لا يتم. مالك:
وقال عبدان: سمعت يقول: ليكن الذي يعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر به الحديث. ابن المبارك
وعن يحيى بن سعيد، قال: جاء رجل إلى فسأله عن شيء، فأملاه عليه، ثم سأله عن رأيه، فأجابه، فكتب الرجال، فقال رجل من جلساء سعيد بن المسيب، سعيد: أيكتب يا أبا محمد رأيك؟ فقال سعيد للرجل: ناولنيها، فناوله الصحيفة، فحرقها.
وعن عبد الله بن موهب: أن رجلا جاء إلى فسأله عن شيء، فأجابه، فلما ولى الرجل، دعاه فقال له: لا تقل: إن القاسم زعم أن هذا هو الحق، ولكن إن اضطررت إليه عملت به. القاسم بن محمد،
وقال عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوا لك القول. وفي لفظ: وإن زخرفوه بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت منه على طريق مستقيم. الأوزاعي:
وذكر عن البخاري ابن بكير، عن قال: قال الليث، ربيعة لابن شهاب: يا إذا حدثت الناس برأيك، فأخبرهم أنه رأيك، وإذا حدثت الناس بشيء من السنة، فأخبرهم أنه سنة، لا يظنون أنه رأيك. أبا بكر!
قال قال لي ابن وهب: وهو ينكر كثرة الجواب للمسائل: يا عبد الله! ما علمته فقل به، ودل عليه، وما لم تعلم فاسكت عنه. وإياك أن تتقلد للناس قلادة سوء. مالك بن أنس
وعن عبد الله بن مسلمة القعنبي، قال: دخلت على فوجدته باكيا، فسلمت عليه، فرد علي، ثم سكت عني يبكي، فقلت له: يا مالك، أبا عبد الله! [ ص: 344 ] ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب! إنا لله على ما فرط مني، ليتني جلدت بكل كلمة تكلمت بها في الأمر بسوط، ولم يكن فرط مني ما فرط من هذا الرأي، وهذه المسائل، وقد كانت لي سعة فيما سبقت إليه، انتهى.
قلت: وهذا من كمال تقواه، وتمام خشوعه لله، وإلا فليس لمالك رأي كما لهم.
وكان مجتهدا، والمجتهد مأجور على خطئه بأجر واحد، وقد روى آثارا مرفوعة وموقوفة، وقال بها، ولم يقل بشيء من عند نفسه، إلا ما شاء الله. فهذا البكاء منه -رحمه الله- دليل على صدقه وإنصافه. مالك
وإنما العبرة بمن كان مداره على الرأي، ولم يرفع إلى تحصيل السنن رأسا. انتهى.
قال سحنون بن سعيد: ما أدري ما هذا الرأي؟ سفكت به الدماء، واستحلت به الفروج، واستحقت به الحقوق، غير أنا رأينا رجلا صالحا فقلدناه.
قال إذا أراد الله أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانه الأغاليط. الأوزاعي:
وروينا عن أنه قال: إن شرار عباد الله الذين يجيبون بشرار المسائل، ويفتون بها عباد الله. انتهى. الحسن البصري:
المراد بهذه المسائل: ما خالف منها كتاب الله وسنة رسوله من أحكام الرأي، والبدع والظنون، والاستحسان.
قال قيل حماد بن زيد: لأيوب: ما لك لا تنظر في الرأي؟ فقال: قيل للحمار: ما لك لا تجتر؟ فقال: أكره مضغ الباطل.
وعن أنه قال لرجل رآه يختلف إلى صاحب الرأي: يا هذا؟ رقبة بن مصقلة:
يكفيك من رأيه ما مضغت، وترجع إلى أهلك بغير ثقة.
قال والله! لقد بغض هؤلاء القوم إلي المسجد، حتى لهو أبغض إلي من كناسة داري. الشعبي:
[ ص: 345 ] قلت: من هم يا أبا عمرو؟ قال: الآرائيون. قلت: ومن هم؟ قال: الحكم، وحماد، وأصحابهما.
قال إياكم أن يقول الرجل لشيء: إن الله حرم هذا، ونهى عن هذا، فيقول الله: كذبت، لم أحرمه، ولم أنه عنه، أو يقول: إن الله أحل هذا، وأمر به، فيقول: كذبت، لم أحله ولم آمر به. الربيع بن خثيم:
وذكر ابن وهب، وعتيق بن يعقوب: أنهما سمعا يقول: لم يكن من أمر الناس ولا من أمر من مضى من سلفنا، ولا أدركت أحدا أقتدي به يقول في شيء: هذا حلال وهذا حرام، ما كانوا يجترئون على ذلك، وإنما كانوا يقولون: نكره هذا، ونرى هذا حسنا، ونتقي هذا، ولا نرى هذا. مالك بن أنس
وزاد عتيق: ولا يقولون: هذا حلال وحرام، أما سمعت قول الله -عز وجل-: قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون [يونس: 59] الحلال: ما أحله الله ورسوله. والحرام: ما حرمه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
قال معنى قول ابن عبد البر: هذا: أن ما أخذ من العلم رأيا واستحسانا لم يقل فيه: حلال أو حرام. والله أعلم. مالك
وقد روي عن أنه قال في بعض ما كان ينزل، فيسأل عنه، فيجتهد فيه رأيه مالك: إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين [الجاثية: 32] وما أحسن قول أبي العتاهية:
وما كل الظنون تكون حقا وما كل الصواب على القياس
وقال أبو وائل: لا تقاعدوا أصحاب «أرأيت». وقال ما كلمة أبغض إلي من «أرأيت». وقال الشعبي: داود الأودي: قال احفظ علي ثلاثا: الشعبي:
الأولى: إذا سئلت عن مسألة، فأجبت فيها، فلا تتبع مسألتك «أرأيت» فإن الله تعالى يقول في كتابه: أرأيت من اتخذ إلهه هواه [الفرقان: 43] حتى فرغ من الآية.
[ ص: 346 ] الثانية: إذا سئلت عن مسألة، فلا تقس شيئا بشيء، فربما حللت حراما، أو حرمت حلالا.
الثالثة: إذا سئلت عما لا تعلم، فقل: لا أعلم، وأنا شريكك. وقال: وإنما هلك من كان قبلكم في «أرأيت». انتهى.
قلت: وما أصدق هذا المقال؛ فإن آخر هذه الأمة بعد الصدر الأول هلكت في «أرأيت» وعاد الإسلام غريبا، إلى أن لم يبق بيده ملك، ولا دولة، ولا شوكة، ولا صولة، وصار أهله مقهورين ممقوتين، صاغرين في أعين أعداء الله ورسوله، حتى إنه ليس في الدنيا اليوم قوم أذل من المسلمين عند المشركين الضالين، وهم غالبون عليهم، قاهرون لهم.
قال ليث بن سعد: رأيت في المنام، فقلت له: يا ربيعة بن عبد الرحمن أبا عثمان! ما حالك؟ قال: صرت إلى خير، إلا أني لم أحمد على كثير مما خرج مني من الرأي. انتهى.
قلت: وإذا كان هذا عاقبة الرأي الذي كان من سلف الأمة وأكابرها في الملة، فما ظنك برأي من جاء بعدهم؟ وماذا تكون عاقبته؟ اللهم احفظنا.
قال يحيى بن أيوب: بلغني أن أهل العلم كانوا يقولون: إذا أراد الله تعالى ألا يعلم عبده خيرا، شغله بالأغاليط.
وسئل عن أصحاب الرأي، فقال: هم أعلم الناس بما لم يكن، و أجهلهم بما كان؛ يريد: أنهم لم يكن لهم علم بآثار من مضى. رقبة بن مصقلة
قال الفلاني: وهذا الأمر مشاهد في الطائفة المقلدين، والعصابة المعتصبين.
فإنك إذا قلت لواحد منهم: أرأيت لو نسي المصلي، فسلم في ثلاثة من الرباعية، لبادر أن يقول: مذهبنا كذا وكذا. وإذا قلت له: لم أسألك عن مذهبك، إنما أسألك عن فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الأربعة، وقف حمار الشيخ في العقبة، وغضب واحمار واصفار. انتهى.
[ ص: 347 ] وأقول -مع قطع النظر عن غضب المقلدة وأهل الرأي على السائل المتبع-: جهلهم بالآثار أمر واضح كالشمس في رابعة النهار، وهذا الجهل منهم هو الباعث لهم على هذا الإنكار، ولو علموها لتواضعوا لله الجبار.
قال الإمام رأي أحمد: ورأي الأوزاعي، ورأي مالك، كله رأي، وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار -يعني: الأحاديث- وفيه: أن أبي حنيفة، الرأي لا حجة فيه، وإن جاء عن أكابر؛ فإن الحق أكبر من كل كبير.
وقال ما أحدث أحد في العلم شيئا، إلا سئل عنه يوم القيامة، فإن وافق السنة، وإلا فهو العطب؛ أي: الهلاك. انتهى كلام ابن عمرو. سهل بن عبد الله التستري:
وزاد في «المدخل إلى علم السنن» فقال: باب: ما يذكر من البيهقي وذكر آية التنازع، والرد إلى الله والرسول. ذم الرأي وتكلف القياس في موضع النص،
قال: وقال هو الرد إلى ما قال الله وقال رسوله. وقال تعالى: الشافعي: ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [الأنعام: 153] قال هي البدع والشبهات، وأقول: البدع في كلام الفقهاء أهل الرأي، والشبهات في كلام المتكلمين في العقائد. وقد نهى الله عن اتباع هذه كلها في هذه الآية. مجاهد:
ثم ذكر بسنده إلى حديث الخطبة. وفيه: جابر بن عبد الله ورواه «أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة» أيضا، وأخرجه مسلم الثوري عن جعفر، وقال فيه: «وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار».
قلت: وما أجمع هذا الحديث لأنواع المحدثات وأقسام البدعات، وللحكم على كلها بالضلالة!! [ ص: 348 ] فكل رأي في الدين من أي رجل كان، وفي أي مسألة كان، بدعة وشر وضلالة، وعاقبتها النار.
ولو جد أهل الرأي واجتهدوا في كسب الحديث، وجمع الآثار، ما جدوا واجتهدوا في تدوين هذا الرأي المشؤوم، والظن المبتدع، والقياس المحدث، لكان خيرا لهم وأحسن أثاثا ورئيا.
ولكن حبب إليهم إبليس اللعين الرأي والإحداث والابتداع، وزينها في أعينهم، وأوقعهم فيها؛ لئلا يتوبوا عنها أبدا؛ لأنهم يستحسنونها، ولا يرونها سيئة، وهذا من مكائده -لعنه الله- وتلاعبه بهذه الأمة، فهم ذلك من فهم، وغفل عنه من غفل.
قال اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم. ابن مسعود:
وفي حديث -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: عبادة بن الصامت «يكون بعدي رجال يعرفون منكم ما تنكرون، وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله، ولا تعملوا برأيكم».
وفي حديث يرفعه: ابن عمرو أخرجهما «لن يستكمل مؤمن إيمانه حتى يكون هواه تبعا لما جئت به» بسنده. وقال في الآخر: تفرد به البيهقي نعيم بن حماد.
قلت: قال الفلاني: إن نعيما ثقة صدوق، وزاد في «التقريب»: يخطئ كثيرا، ولكن له شاهد عند أهل السنن وغيرهم.
وعن اتقوا الرأي في دينكم. عمر الفاروق:
قال هؤلاء الرائيون أصحاب الرأي، لما أعيتهم أحاديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يحفظوها، جاؤوا يجادلون. وعن الشعبي: مثله. الزهري
وعن -رضي الله عنه- بسند رجاله ثقات: أنه قال: يا أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني أرد أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برأيي اجتهادا، فوالله! ما آلو على الحق، وذلك يوم أبي جندل، والكتاب بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأهل مكة، فقال: «اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم» فقالوا: ترانا قد صدقناك [ ص: 349 ] بما تقول؟ ولكنك تكتب: باسمك اللهم، قال: فرضي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبيت عليهم، حتى قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تراني أرضي، وتأبى أنت؟» قال: فرضيت. عمر
وفيه الاتهام على الرأي، وإن كان بعد الاجتهاد فيه، وأن الاجتهاد مردود عند وجود النص.
-كرم الله وجهه-: لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخفين أحق بالمسح من ظاهرهما، ولكن رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح على ظاهرهما؛ أي: فتركت الرأي للرواية. علي وهذا هو الحق الواضح المبين، ومن خالف ذلك فهو من عمل الشياطين. وعن
وعن -رضي الله عنه-: أنه قال: لا يزال الناس على الطريق ما اتبعوا الأثر. ابن عمر
وعن قال: عروة بن الزبير، اتباع السنن قوام الدين.
قال بسنده إلى البيهقي أنه قال: أول من قاس إبليس اللعين، قال ابن سيرين: خلقتني من نار وخلقته من طين [الأعراف: 12] وإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس.
وأقول: كل كفر وشرك وبدعة وضلالة في الدنيا والدين، فإنما هو من الرأي والظن والقياس والتخمين، ورثه أهله من عزازيل الرجيم، والله تعالى قال في كتابه: ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين [الأنعام: 142] وهذا في غير موضع من التنزيل العظيم.
فاعتبر يا مسلم بهذه الآية، وتأمل فيما صنع أهل الرأي بالرواية، كيف اتبعوا خطوات إبليس، وأتوا بسببه بكل تدليس وتلبيس، فإنا لله على أصحاب الرأي والاستحسان، وأهل البدع والطغيان.
قال اتهموا أهواءكم وآراءكم على دين الله، وانتصحوا كتاب الله وسنة رسوله على أنفسكم ودينكم. الحسن:
[ ص: 350 ] وعن عامر بن يساف، عن قال: إذا بلغك عن رسول الله حديث، فإياك يا الأوزاعي، عامر أن تقول بغيره؛ فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كان مبلغا عن الله تبارك وتعالى.
وعن قال: إنما العلم كله العلم بالآثار. وقال سفيان الثوري، المراء في العلم يقسي القلب، ويورث الضغائن. الشافعي:
قلت: وقد شاهدت أهل المراء من المقلدة، قست قلوبهم، فهي كالحجارة أو أشد قسوة، ووجدتهم يرون المجادلة والمكابرة والمكاتبة أحسن الأعمال لهم، وإنهم يلجئون أصحاب الهداية والسنة إلى الرد عليهم، وهم عنها مبعدون، وعن الالتفات إليها معرضون.
اللهم إلا أن تدعو الضرورة الشديدة إلى الذب عن أهل الحق، فيحررون الجواب في غاية من الإكراه والاستنكاف؛ امتثالا لأمر الله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن [النحل: 125] لحا الله هذا الرأي المشؤوم، ماذا فعل بأهله وبغيرهم؟ وأباده، وحفظ عنه الدين.
قال أبو الأسود: قلت لابن المبارك: ما ترى في كتابة الرأي؟ قال: إن تكتبه لتعرف به الحديث فنعم، وأما أن نكتبه فتتخذه دينا، فلا.
قلت: وقد وقع خلاف ما أفتى به هذا المبارك بن المبارك، فإنهم كتبوه ليتخذوه دينا، ودونوه شريعة، وجمعوا منه ما لا يعلم غايته إلا الله، فإنا لله على ذهاب الآثار وكتابة الآراء.
هذه كتبهم المدونة في آراء الرجال وأقوال العلماء، صارت سببا عظيما لاندراس السنة، وانطماس الآيات، وباعثا لهم على اتخاذ البدع والضلالات صراطا مستقيما.
فما آفة في الدين، ولا مصيبة على أهله، ولا بلية في الشرع، ولا داهية على [ ص: 351 ] أصحابه، إلا وقد صدر من هذا الرأي والظن والاستحسان، وابتلي بها كل فرد من نوع الإنسان، إلا من رحمه الله، وعصمه من اتباع خطوات الشيطان.
قال لما جئت عبد العزيز بن أبي سلمة: العراق، جاءني أهله فقالوا: حدثنا عن فقلت: يا أهل ربيعة الرأي، العراق! تقولون ربيعة الرأي، لا والله ما رأيت أحدا أحفظ للسنة منه. انتهى.
قلت: ربيعة من التابعين، وكان من مذهبه: الجمع بين الصلاتين تأخيرا بلا عذر، وفيه قال بعضهم:
جمع الصلاتين تأخيرا بلا مرض وغير عذر من الأعذار مشهور
عن ابن سيرين رأس التابعين وعن ربيعة الرأي والقفال مذكور
والحق أن الجمع بينهما بلا عذر وردت به السنة غير جائز بنص الكتاب العزيز: فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا [النساء: 103] وتمام البحث على هذه المسألة في «دليل الطالب» وليس هذا موضع بسط الكلام عليها، فراجعه.
وإذا لم يثبت هذا الجمع، فما الرأي وربيعته في مقابلة القرآن والحديث؟
وإن صح عنه هذا المذهب بألف سند وطريق.
قال سفيان: قال ربيعة: إذا بشع القياس، فدعه.
وقال وكيع: قال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى-: من القياس ما هو أقبح من البول في المسجد.
وقال الفلاني: وصدق الإمام الأعظم، وذلك هو القياس المصادم لنص كتاب أو سنة.
قلت: ولم يعظم هذا الإمام الأعظم إلا لقوله بالحق، وهكذا شأن الإمام الكائن في الدين، أي إمام كان.
[ ص: 352 ] وإنما جاء التقصير من جهة المدعين للتقليد بهم، الكاذبين في دعواهم هذه.
فالأئمة الكرام براء منهم، وهم ينسبون أنفسهم إليهم جزافا ومجانا، ومع مباينة طريقهم عن طريق هؤلاء الجهلة.
فإنهم -رضي الله عنهم- قد نهوا عن الرأي والتقليد، وصرح بعضهم بأن الاستحسان بدعة في الدين.
ولكن مقلدوهم باللسان دون الجنان، لم يرضوا بهذا النهي منهم، وقالوا: نحن مقلدوكم، شئتم أو أبيتم. وهم والله يعلم إنهم لكاذبون؛ لأنه لا يستقيم تقليد أحد لأحد إلا إذا قلده في كل ما قاله وأفتى به.
وأما إذا أخذ المقلد -بالكسر- من قول المقلد وفعله -بالفتح- ما وافق رأيه، وترك ما خالف ذلك، فهو في الحقيقة مشاقق له، راد عليه ما قاله، مقلد لنفسه، متخذ لهواه كما قال سبحانه: أرأيت من اتخذ إلهه هواه .
وإني أقسم بالله سبحانه: إن هؤلاء المقلدة للأئمة ليسوا بمقلدين لهم، وإن حلفوا ألف مرة، وجاؤوا بألف يمين؛ لأني شاهدتهم يخالفون الأئمة فيما لا يوافق رأيهم، في كثير من المسائل، ويقلدون غير ذلك الإمام فيما يطابق ظنهم وقياسهم، فأين التقليد، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟
نعم يتفوهون بمناقب الإمام، ويدعون أنهم مقلدوه في الكلام، كما أن كل فرقة تدعي أنها ناجية، والأمر في نفس الواقع خلاف ذلك.
وكل يدعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
قال يحيى بن حريس: سمعت سفيان -وأتاه رجل فقال: ما تنقم على قال: وما له؟ قال: سمعته يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد فبسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإن لم أجد في كتاب الله، ولا سنة نبيه -صلى الله عليه وسلم- أخذت بقول [ ص: 353 ] أصحابه من شئت منهم، وأدع قول من شئت، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم. أبي حنيفة؟-
فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم، والشعبي، وابن سيرين، والحسن، والعطاء، وسعيد بن المسيب -وعدد رجالا- فهم قوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا.
قال: فسكت سفيان طويلا، ثم قال كلمات برأيه ما بقي في المجلس أحد إلا كتبه: نسمع الشديد من الحديث فنخاف، ونسمع اللين فنرجوه، ولا نحاسب الأحياء، ولا نقضي على الأموات، نسلم ما سمعناه، ونكل ما لا نعلم إلى عالمه، ونتهم رأينا لرأيهم.
قال قد ذكرنا في الصحابة إذا اختلفوا كيف يرجح قول بعضهم على بعض، وبماذا يرجح، وليس له في الأخذ بقول بعضهم اختيار شهوة من غير دلالة. البيهقي:
والذي قال سفيان: من «إنا نتهم رأينا لرأيهم» إن أراد به الصحابة إذا اتفقوا على شيء، أو الواحد منهم إذا تفرد بقول ولا مخالف له منهم نعلمه، فكما قال.
وإن أراد التابعين إذا اتفقوا على شيء، فكما قال.
وإن أراد الواحد منهم إذا تفرد بقول لا مخالف له نعلمه منهم، فقد قال كذلك بعض أصحابنا. وإن اختلفوا، فلا بد من الاجتهاد في اختيار أصح أقوالهم. انتهى.
وعن محمد بن إسحاق يقول: سمعت أبا الوليد، وحدث بحديث مرفوع عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فقيل له: ما رأيك؟ فقال: ليس لي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رأي.
وقال يحيى بن آدم: لا تحتاج مع قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى قول أحد، وإنما يقال: سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، ليعلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مات وهو عليها. وعمر؛
قال الفلاني: وعلى هذا ينبغي أن يحمل حديث: فلا يبقى إشكال في العطف؛ لأنه ليس للخلفاء سنة تتبع إلا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. «عليكم بسنتي وسنة [ ص: 354 ] الخلفاء الراشدين من بعدي»
وعن ليس أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك من قوله، إلا رسول الله. وروي معناه عن مجاهد: الشعبي.
وقال ما حدثوك عن أصحاب رسول الله فخذ به، وما قالوا فيه برأيهم، فبل عليه. الشعبي:
قال يريد به: الرأي المخالف للأثر. انتهى. ابن عبد البر:
وأقول: هذا آخر هذا الباب، وإذا تأملت في مبانيه ومعانيه، وجدت الأدلة من المرفوعات والموقوفات طافحة بذم الرأي وأهله، داعية إلى اتباع القرآن والحديث، ناهية عن إيثار البدعات والمحدثات، ناصة على أن الأصل في الدين هو الكتاب والسنة، لا ثالث معهما، ولا رابع، وأن الاجتهاد في مقابلة النص لا يصح، وأن السلف كانوا ينكرون على الرأي وأهله أشد إنكار، ويحذرون الأمة عنه تحذيرا بالغا.
حتى نبغت نابغة في الإسلام، فضربت أيديها بأذيال القياس والاستحسان، فظهرت بدع كثيرة وآراء غزيرة، وأصيب الإسلام بها مصيبة شديدة، وابتلي بها الدين بآفاتها، وكان أمر الله قدرا مقدورا.