الأئمة والعلماء الذين قالوا بمنع شد الرحال لزيارة القبور
وقد ذهب إمام دار الهجرة -رضي الله عنه- مالك بن أنس من أئمة المالكية إلى منع والقاضي عياض وكرهوها، وبه قال شيخ الإسلام السفر لزيارة القبور، ابن تيمية الحراني، والحافظ ابن القيم الجوزية؛ وقبلهما ابن عقيل وابن بطة من الحنابلة، وإليه ذهب إمام الحرمين أبو محمد الجويني. وتغليط إياه غلط؛ لعدم تفرده بذلك، وكذلك الغزالي القاضي حسين من الشافعية، وجماعة من الحنفية المتأخرة، الكائنة في هذه المائة الثالثة عشرة من الهجرة الشريفة. وقد عرفت بهذا أن الله يجمع أمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- على ما ليس بهدى.
وقد حقق بعض أهل العلم هذه المسألة في كتابه «جلاء العينين في المحاكمة بين أحمدين»، وذهب إلى ما هو الصواب فيها -إن شاء الله تعالى. وحققها أيضا صاحب «مسك الختام» في كتب ورسائل عديدة منها: «عون الباري»، و «السراج الوهاج»، و «رحلة الصديق إلى البيت العتيق»، وغيرها، [ ص: 551 ] وهي مذكورة أيضا في «النهج المقبول»، و «البنيان المرصوص» ونحوهما، راجع ذلك.
وقد ذب جماعة من المحققين عن شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، منهم: الشيخ أحمد ولي الله المحدث الدهلوي ومن تبعه من علماء السنة من أهل الهند، وصاحب «الصارم المنكي»، وصاحب «القول الجلي»، وغيرهما. ولا شك في أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ومن تبعه فيه ليس هو مذهبه خاصة، بل قال به قبله وبعده جماعة من أهل العلم، فالطعن عليه -رحمه الله- خاصة في هذه المسألة وما في معناها، طعن لا يصيب إلا صاحبه، وسب لا يرجع إلا إلى قائله، وكيف يجوز هذا في شأنه؟! وإن هذا لا يجوز في حق أحد من المسلمين، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ، سباب المؤمن فسوق، وقتاله كفر فالحذر الحذر من ومن قال لأخيه: يا كافر، فقد باء به إن لم يكن كذلك». أي مسلم كان، لا سيما المسلم الذي هو أتقى لله من كثير من عباده، وأعلمهم به سبحانه، وأعقلهم لمدارك الشرع من أكثر الخلق. فسب مثل ذلك الرجل وتكفيره وتضليله خروج بالمرة عن دائرة الإسلام؛ لأنه ليس بيد مخالفه حجة من الحديث، ولا برهان من القرآن. وأما هو، فهو مجتهد، معه أدلة على دعواه من السنة الصحيحة، ولو فرض أنه أخطأ في هذه المسألة، أو في غيرها من المسائل التي كفروه لأجلها، وضللوه بسببها، فإنه مأجور في خطئه هذا بلا شك أجرا واحدا، وليس عليه وزر في ذلك. إنما الوزر على الذي أساء الأدب في حقه لأجل هذه المسائل التي له سلف فيها. وليس للمسيء دليل عليها. فاتق الله يا هذا، ولا تقع في أئمة المسلمين. سب المسلم،
[ ص: 552 ] وأما استدلال ابن تيمية -رحمه الله- بحديث الباب المانع من السفر إلى زيارة القبور، فقد وافق هذا فهم بعض السلف، ولا مضايقة من ذلك، وإن لم يكن صريحا فيما هنالك. قال في «فتح المجيد» -تحت حديث: شد الرحال-: دخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد. فإما أن يكون نهيا، أو نفيا، وجاء في رواية بصيغة النهي، ولهذا فهم منه الصحابة المنع؛ كما في «الموطأ»، و «السنن» عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري: أنه قال لأبي هريرة -وقد أقبل من الطور-: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى».
وروى الإمام أحمد، وعمرو بن شيبة في «أخبار المدينة» بإسناد جيد عن قزعة، قال: أتيت فقلت: إني أريد الطور، فقال: إنما تشد الرحال إلى ثلاثة: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك ابن عمر، الطور ولا تأته. فابن عمر، وبصرة -رضي الله عنهما- جعلا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكره، فيه النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة. فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصا بالمساجد، ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث. والطور إنما يسافر من سافر إليه لفضيلة البقعة؛ فإن الله سماه: الوادي المقدس، والبقعة المباركة، وكلم كليمه موسى -عليه السلام- هناك. وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة، وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول [ ص: 553 ] في ذلك، والجواب عما يعارضه، فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيبا لابن الإخنائي فيما اعترض به عليه على ما دلت عليه الأحاديث وأخذ به العلماء.
وأما النهي عن فغاية ما فيه أنه لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه. وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتابه «الصارم المنكي على نحر ابن السبكي»، وذكر فيه علل الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. وذكر هو وشيخ الإسلام زيارة غير المساجد الثلاثة، ابن تيمية -رحمه الله-: أنه لا يصح منها حديث عن النبي-صلى الله عليه وسلم- ولا عن أحد من الصحابة، مع أنها لا تدل على محل النزاع، إذ ليس فيها إلا مطلق الزيارة، وذلك لا ينكره أحد بدون شد الرحال، فتحمل على الزيارة الشرعية التي ليس فيها شرك ولا بدعة. انتهى كلامه.
قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في «منسكه» آداب زيارة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- فلو كان منكرا لها لما ذكرها، ولكنه إنما ينكر السفر وشد الرحل لها، وهو في هذا على الصواب. فإنه لم يدل دليل عليه قط. ومن كان عنده في ذلك دليل صحيح صريح مرفوع متصل به -صلى الله عليه وسلم-، فليتفضل به علينا.
وأما فهم وبصرة الصحابيين منع السفر من حديث الباب إلى محل من محال القربة، فصحيح لا خلل في الاستدلال به عليه؛ لأنهما منعا عن السفر إلى الطور، بجامع كونه في معنى المساجد، وهذا بخلاف القبور، فإنها ليست في معناها، وإن كان قبر نبي أو صالح. فالاستدلال به على منع السفر للزيارة ليس بقوي عندنا، فإنه على المنع منه تدل أدلة أخرى، ولو قلنا بعموم المستثنى منه، للزم أن يكون كل سفر لأي أمر [ ص: 554 ] كان من أمور الدارين منهيا عنه، وهذا لا دليل عليه، فتقرر أن الحديث مختص بالمساجد، وبما في معناها من محل القربات، ومكان العبادات، وشريف الأمكنة، وليس بعام لجميع المواضع من القبور وأنواع الدور، حتى يدخل فيه شد الرحل إليها، بل الدليل على منع السفر لزيارة الموتى من أمد بعيد ومكان سحيق، ما تقدم، وما سيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -. ابن عمر
[ ص: 555 ] عن قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: أبي هريرة، ورواه النسائي، رواه لا تجعلوا بيوتكم قبورا، ولا تجعلوا قبري عيدا، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم بإسناد حسن، رجاله ثقات. أبو داود
قال شيخ الإسلام: معناه: لا تعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور. فأمر بتحري العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى، ومن تشبه بهم من هذه الأمة.