ولقد جرد السلف الصالح التوحيد، وحموا جانبه، حتى كان أحدهم إذا سلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم أراد الدعاء، استقبل القبلة، وجعل ظهره إلى جدار القبر، ثم دعا، ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر؛ فإن الدعاء عبادة كما في وغيره مرفوعا: الترمذي فجردوا العبادة لله»، ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الدعاء لأصحابها، والاستغفار لهم، والترحم عليهم. ونهى عن تحري وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم. ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعيادا وأعراسا من المفاسد العظيمة، التي [ ص: 601 ] لا يعلمها إلا الله، ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله، وغيرة على التوحيد، وتهجين وتقبيح للشرك. ومن المفاسد اتخاذها أعيادا وأعراسا، والصلاة إليها أو عندها، والطواف بها وتقبيلها، واستلامها، وتعفير الوجوه على ترابها، وعبادة أصحابها، والاستغاثة بهم، وسؤالهم النصر، والرزق، والولد، والعافية، وقضاء الديون، وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات، وغير ذلك من أنواع الظلمات التي كاد عباد الأوثان يسألونها أوثانهم. النافلة عند القبور،
فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا، وقد نزلوا عن الأكوار والدواب إذا رأوها من كل مكان بعيد، فوضعوا لها الجباه، وكشفوا الرؤوس، وارتفعت أصواتهم بالضجيج، وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج، ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج، فاستغاثوا بمن لا يبدئ ولا يعيد، ونادوا ولكن من مكان بعيد، حتى إذا دنوا منها صلوا، ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ولا أجر من صلى إلى القبلتين! فتراهم حول القبر ركعا وسجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا، وقد ملأوا أكفهم خيبة وخسرانا. فلغير الله، بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات، ويرتفع من الأصوات، ويطلب من الميت من الحاجات، ويسأل من تفريج الكربات، وإغناء ذوي الفاقات، ومعافاة ذوي العاهات والبليات. ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا، وهدى للعالمين. ثم أخذوا في التقبيل والاستلام، أرأيت الحجر وما يفعل به وفد البيت الحرام؟ ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لن تعفر كذلك بين يديه في السجود.
[ ص: 602 ] ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق، واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذا لم يكن لهم عند الله من خلاق، وقد يعطى لذلك الوثن القرابين، وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين. فلو رأيتهم يهنئ بعضهم بعضا، ويقول: أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا. فإذا رجعوا، يسألهم غلاة المتخلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجج المتخلف إلى البيت الحرام، فيقول: لا ولا بحجك كل عام.
ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم، ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم؛ إذ هي فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال. وهذا بدء عبادة الأصنام في قوم نوح -عليه السلام- وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقه يعلم أن من أهم الأمور، سد الذريعة إلى هذا المحذور، وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه، وما يؤول إليه، وأحكم في نهيه عنه، وتوعده عليه، وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته، والشر والضلال في معصيته ومخالفته. انتهى كلام الحافظ العارف بالشريعة المحمدية «ابن قيم الجوزية» رحمه الله.
وأقول: إن الوقوف على كلام هذا الإمام، أوقفنا على أن هذه الفعلات شاعت في هذه الأمة منذ زمان طويل عريض؛ لأنه -رحمه الله- كان في المائة الثامنة من الهجرة، ولها إلى هذا اليوم خمسمائة سنة، فما ظنك بعباد القبور اليوم بعد مضي هذه الأعوام الكثيرة الأعداد والشهور؟! ونحن -والله- في هذا العصر بأقوام زادوا على هذه الأمور بدعا أخرى، وشركا غير الشرك المذكور. أرأيت هل سمعت ما يفعل أهل الهند بقبور صلحائها في بلدة «أجمير»، و «دهلي»، و « بهرائج»، و « مكن فور»؟ ازدادوا -والله- عليهم في القبائح والشرور، وسودوا وجوههم بعبادات المقبور المرموس المهجور، وشاركهم في ذلك بعض من ينمى إلى الشرافة، وعلو النسب، وفضيلة العلم المأثور، وقد كان عليهم أن ينتهوا وينهوا غيرهم عن تلك الأمور، ومفاسدها المؤثرة في الجمهور، [ ص: 603 ] المروجة بلا نكير عليها في هذه الدهور والعصور، ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد؟!
والذي نفسي بيده! إن هذا الكلام المذكور، من هذا الإمام المشهور، وإن ثقل على أكثر عباد القبور، ولكن يتلألأ عليه من الله النور، ومن السنة المطهرة له ظهور. لولا أن هذه البدع والإشراك خرجت عن ضبط المحصور، لذكرت لك منها ما وقفت عليها بلا فتور فيها ولا قصور، ولكن الوقت ضاق عن إحصائها واستقصائها، ومع ذلك إذا رجعت إلى هذا الكتاب المسطور، في رق منشور، وأراد الله هدايتك، كفاك ما فيه -إن شاء الله تعالى- وهديت إلى الصراط السوي، وبخلت بدينك القوي، ولا ترضى أبدا بذهاب إيمانك لا كذهاب إيمان البلعم الباعور.
وها أنا أقول: يا أسفى على ما فرط هؤلاء في جنب الله الرحيم الغفور، وأضاعوا دينهم الذي جاءهم من سلف هذه الأمة وأئمتها، وهو كله نور على نور، فأخرجهم الشيطان المغرور من ذلك النور إلى ظلمات الديجور، وعبادة غير الله من القبور، وأحدث فيهم بدعا وأنواعا من الشرك يعتقدونها عين الإيمان، وكمال الإحسان، وتمام الإسلام المبرور. ومن ينهاهم عن ذلك، يرمونهم بكل حجر ومدر، وسوط، وإيذاء، وتكليف ورد، وقدح وافتراء، وبهتان، ونميمة وحسد، وبغض وعداوة، وشحناء وسوء ظن وزور. ويسعون إلى الحكام في أذيته مع مزيته عليهم في العلم المبارك المأثور. ويجهدون كل الجهد في إتلاف عرضه وماله ونفسه، وهو فيهم مقهور ومجبور، كأن سنته بدعة، وبدعة هؤلاء هي السنة، وقد صار المعروف منكرا، والمنكر معروفا منذ حدث هؤلاء المشركون المبتدعون في بلاد الإسلام، وهجروا الكتاب، ونبذوا السنة وراء الحجاب، وهم يزعمون أنهم مسلمون، ويظنون أنهم مؤمنون.
[ ص: 604 ]
شكوت وما شكوى لمثلي عادة ولكن تفيض الكأس عند امتلائها
والجهل من أعظم أسباب العداوة، وقد أظل على كل العالم وأهله، فسبوا الأتقياء العلماء، على خلاف ظهر منهم لهم في هذه المراسم والمواسم، وفعلوا وفعلوا، والله هو المنتقم لهم منهم -إن شاء الله تعالى- وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .