فصل في بيان حكم اتخاذ الستائر في البيوت
عن عائشة: متفق عليه. أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج في غزاة، فأخذت نمطا فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط، فجذبه حتى هتكه، ثم قال: "إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين"
النمط: ضرب من البسط، له خمل رقيق يلقى على الهودج، ويتخذ منه الستر، جمعه أنماط.
وفي الحديث دليل على وإذا لم يجز هذا مع باب الدار لم يجز كسوة القبور بها بالأولى. النهي عن إرخاء الستور على أبواب الدور،
[ ص: 39 ] وهذه العبارة أبلغ في النهي من صيغته.
فهذه الثياب التي يكسوها أهل الرفاهية بيوتهم، ويتكلفون في زخرفتها، ويلبسونها الديار والأبواب ومغانيها، ومدارجها، كلها منهي عنها أشد النهي بهذا النص الصحيح، الصريح، المحكم. والناس فيه على أنحاء شتى.
قال في "الترجمة": وقيل: كانت فيه صور الأفراس، فأتلفها ومحاها.
ولكن سيأتي الحديث ينظر في أن المنع منه وهتكه لم يكن من جهة الصورة، بل من جهة كراهية إلباس الباب والجدار الثياب.
وقال الطيبي: هذه كراهة تنزيهية لا تحريمية; لأن عدم الأمر الإلهي به لا يدل على النهي، ولكن مع هذا غيره وغضب عليه وهتكه، من جهة عظم شأن أهل البيت الشريف النبوي من أن يقعوا في أمر مكروه. قال: ولم يذكر في هذا الحديث الوسائد. انتهى.
قلت: والأول أولى، كما قررناه.
وأما إذا كان في ثوب تماثيل حيوان، فهتكه معين، وإرخاؤه على باب ونحوه منهي عنه; لحديثها الآخر قالت: متفق عليه. إنها كانت قد اتخذت على سهوة لها سترا فيها تماثيل، فهتكه النبي -صلى الله عليه وسلم- فاتخذت منه نمرقتين، وكانتا في البيت يجلس عليهما.
قالوا: لم تكن هذه التماثيل صور الحيوانات، وإنما هتكها; لأن ستر الباب والديار بالثياب غير مأمور به.
ولو فرض أنها كانت فيه الصورة المحرمة، فالظاهر أنه قطع رؤوسها، ثم جعل نمرقة.
وقال بعضهم: معنى "الهتك" و"القطع": محو الصور التي كانت فيه. كذا قال الطيبي.
[ ص: 40 ] وعلى كل حال: إلباس الجدران والأبواب منهي عنه، سواء كان ذلك بدور السكنى، أو بديار الموتى، وبالبيوت أو بالقبور، والقبور أشد كراهة وحرمة في هذا الأمر.
ولفظ "السهوة" يشمل الكوة بين الدارين، والصفة التي تكون بين يدي البيت، وبيتا صغيرا منحدرا في الأرض، سمكه مرتفع منها، شبيه بالخزانة يكون فيها المتاع.
وقيل: شبيه بالرف، أو الطاق يوضع فيها شيء، كأنها سميت بذلك; لأنها يسهى عنها لصغرها وخفائها.
وبهذا تقرر أن إلباس هذه كلها وما في معناها من الأحجار، والخشب، والطين ونحوها، لا يجوز في الدين، وأن الله ورسوله لم يأمر الناس بذلك.
وعدم الأمر به دليل على النهي عنه; لقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد".
وعن -رضي الله عنه-: أنه بلغه أن مالك كان يتوسد القبور، ويضطجع إليها. رواه في "الموطأ". علي بن أبي طالب
وهذا لا حجة فيه; لكونه موقوفا معارضا بالأحاديث الصحيحة المرفوعة الواردة في النهي عن اللهم إلا أن يفرق بين الوسادة والاضطجاع، وبين الجلوس والقعود. القعود والجلوس على القبور،
والذي يظهر لي: أن الاحتياط في كل ذلك هو الأولى.
وعن -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبي سعيد رواه "الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام" أبو داود، والترمذي، والدارمي.
استثنى المقبرة من مواضع الصلاة; لأن الصلاة فيها تؤدي إلى تعظيم الموتى، وتعظيمهم يفضي إلى اعتقاد الشرك.
[ ص: 41 ] ولهذا نهى في أحاديث أخرى عن لئلا يجر إلى الاستعانة بها، والاستعانة بأهلها، فيصير مشركا بالله. اتخاذ القبور مساجد، وعن الصلاة إليها;
والحمام موضع اجتماع الخبث والخبائث، فنهى عن الصلاة فيها أيضا، ونص على أن هذين الموضعين ليسا بمسجد فيصلى فيه.
وعن -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ابن مسعود رواه "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها; فإنها تزهد في الدنيا، وتذكر بالآخرة" ابن ماجه.
وعن بريدة مرفوعا مثله إلى قوله: رواه "فزوروها" مسلم.
والحديث عام في زيارة كل ميت، سواء كان مسلما أو غيره. ويزيده إيضاحا حديث قال: أبي هريرة رواه زار النبي -صلى الله عليه وسلم- قبر أمه، فبكى وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي، فزوروا القبور; فإنها تذكر الموت" ورواه مسلم، وصححه بلفظ: الترمذي وأخرجه أيضا "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، وقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه، فزوروها; فإنها تذكر الآخرة" أبو داود، وابن حبان، والحاكم.
قال في "نيل الأوطار": فيه دليل على جواز زيارة قبر القريب الذي لم يدرك الإسلام.
قال سبب زيارته -صلى الله عليه وسلم- قبرها أنه قصد قوة الموعظة والذكرى لمشاهدة قبرها. عياض:
ويؤيده قوله في آخر الحديث: انتهى. "فزوروها; فإنها تذكركم الموت".
والحاصل: أن المقصود من زيارة الأموات -سواء كانوا أقرباء أو غرباء، وسواء كانوا من المسلمين من أو غيرهم- هو العبرة، وتذكر الموت.
فإن كان الميت مسلما، يستحب التسليم عليه، والدعاء له بالعافية، [ ص: 42 ] وبالمأثور أولى. وإن كان غير مسلم، فالزيارة فقط، لنهي الله سبحانه عن الاستغفار للمشركين، وانتهاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنه لأمه; لكونها لم تدرك الإسلام، وكذلك لم يدركه أبوه صلى الله عليه وسلم.
والمسألة محققة في موضعها، دلت عليها الأحاديث الصحيحة الواردة في "صحيح فلا يعارضها تلك الأخبار الضعيفة الشاذة الفاذة، الواردة في إسلام أبويه صلى الله عليه وسلم. مسلم"
وتمسك بعض أهل العلم بها من باب السكر والمغلوبية. وما أحسن الاقتصار على ما ورد، وعدم الخوض في أمثال هذه المسائل التي لا يتوقف عليها أوامر الدين ونواهيه، ولم يخض فيها أحد من سلف هذه الأمة وأئمتها! فبهداهم اقتده.
قال في هامش "المشكاة": زيارة القبور مستحبة; فإنها تورث رقة القلب، وتذكر الموت والبلى، إلى غير ذلك من الفوائد، والعمدة في ذلك: الدعاء للموتى، والاستغفار لهم، وبذلك وردت السنة، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأتي البقيع، ويسلم على أهلها، ويستغفر لهم.