ومن قال: إنه لم يقصد بدعاء الأموات، والنحر لهم، والنذر عليهم، عبادتهم، فقل له: فلأي مقتض صنعت هذا الصنيع؟ فإن دعاءك للميت عند نزول أمر بك لا يكون إلا لشيء في قلبك عبر عنه لسانك، فإن كنت تهذي بذكر الأموات عند عروض الحاجات من دون اعتقاد منك لهم، فأنت مصاب بعقلك، وهكذا إن كنت تنحر لله وتنذر لله، فلأي معنى جعلت ذلك للميت، وحملته إلى قبره؟ فإن الفقراء على ظهر البسيطة في كل بقعة من بقاع الأرض، وفعلك وأنت عاقل لا يكون إلا لمقصد قد قصدته، أو أمر قد أردته، وإلا فأنت مجنون قد رفع عنك القلم، ولا نوافقك على دعوى الجنون إلا بعد صدور أفعالك وأقوالك في غير هذا على نمط أفعال المجانين، فإن كنت تصدرها مصدر أفعال العقلاء، فأنت تكذب على نفسك في دعواك الجنون في هذا الفعل بخصوصه; فرارا عن أن يلزمك ما لزم عباد الأوثان الذين حكى الله عنهم في كتابه العزيز ما حكاه بقوله: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا [الأنعام: 139] [ ص: 68 ] وبقوله: ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون [النحل: 56].
فإن قلت: إن المشركين كانوا لا يقرون بكلمة التوحيد، وهؤلاء المعتقدون في الأموات يقرون لها.
قلت: هؤلاء إنما قالوا بألسنتهم، وخالفوها بأفعالهم، فإن من استغاث بالأموات، أو طلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه، أو عظمهم، أو نذر عليهم بجزء من مال، أو نحر لهم، فقد نزلهم منزلة الإلهية التي كان المشركون يفعلون لها هذه الأفعال، فهو لم يعتقد معنى "لا إله إلا الله" ولا عمل به، بل خالفها، اعتقادا وعملا، فهو في قوله: "لا إله إلا الله" كاذب على نفسه، فإنه قد جعل إلها غير الله، يعتقد أنه يضر وينفع، فعبده بدعائه عند الشدائد، والاستغاثة به عند الحاجة، وبخضوعه له، وتعظيمه إياه، ونحر له النحائر، وقرب إليه نفائس الأموال.
وليس فإنه لو قالها أحد من أهل الجاهلية، وعكف على صنمه يعبده لم يكن ذلك إسلاما. مجرد قوله: "لا إله إلا الله" من دون عمل بمعناها مثبتا للإسلام;
فإن قلت: قد أخرج أحمد بن حنبل، في "مسنديهما" من حديث والشافعي عبد الله بن علي بن الخيار: أن رجلا من الأنصار حدثه: أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في مجلسه، فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين، فجهر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله؟" قال الأنصاري: بلى يا رسول الله، ولا شهادة له. قال: "أليس يشهد أن محمدا رسول الله؟" قال: بلى، ولكن لا شهادة له، قال: "أليس يصلي؟" قال: بلى، ولا صلاة له، قال: "أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم".
وفي الصحيحين من حديث في أبي سعيد -رضي الله عنه-: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ فقال: "لا، لعله أن يكون يصلي" فقال خالد بن الوليد كم من مصل يقول [ ص: 69 ] بلسانه ما ليس في قلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق قلوبهم". خالد: قصة الرجل الذي قال: يا رسول الله! اتق الله، وفيه: فقال
ومنه لأسامة بن زيد -رضي الله عنه- لما قتل رجلا من الكفار بعد أن قال: لا إله إلا الله، فقال له: "فما تصنع بـ: لا إله إلا الله؟" فقال: يا رسول الله؟ إنما قالها تقية، فقال: "هل شققت عن قلبه؟" هذا معنى الحديث، وهو في "الصحيح". قوله -صلى الله عليه وسلم-
قلت: لا شك أن من قال: لا إله إلا الله، ولم يتبين من أفعاله ما يخالف معنى التوحيد، فهو مسلم، محقون الدم والمال، إذا جاء بأركان الإسلام المذكورة في حديث: وهكذا من قال: "لا إله إلا الله" متشهدا بها شهادة الإسلام، ولم يكن قد مضى عليه من الوقت ما يجب فيه شيء من أركان الإسلام، فالواجب حمله على الإسلام عملا بما أقر به لسانه، وأخبر به من أراد قتاله؛ ولهذا قال لأسامة بن زيد ما قال. "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان"
وأما من تكلم بكلمة التوحيد، وفعل أفعالا تخالف التوحيد; كاعتقاد هؤلاء المعتقدين في الأموات، فلا ريب أنه قد تبين من حالهم خلاف ما حكته ألسنتهم من إقرارهم بالتوحيد.
ولو كان مجرد التكلم بكلمة التوحيد موجبا للدخول في الإسلام والخروج من الكفر، سواء فعل المتكلم بها ما يطابق التوحيد أو يخالفه، لكانت نافعة لليهود، مع أنهم يقولون: عزير ابن الله، وللنصارى مع أنهم يقولون: المسيح ابن الله، وللمنافقين مع أنهم يكذبون بالدين، ويقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم، وجميع هذه الطوائف الثلاث يتكلمون بكلمة التوحيد.
بل لم تنفع الخوارج; فإنهم من أكمل الناس توحيدا، وأكثرهم عبادة، وهم كلاب النار، وقد أمرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقتلهم، مع أنهم لم يشركوا بالله، ولا خالفوا معنى "لا إله إلا الله" بل وحدوا الله توحيده.
[ ص: 70 ] وكذلك المانعون الزكاة، هم موحدون لم يشركوا، ولكنهم تركوا ركنا من أركان الإسلام.
ولهذا أجمعت الصحابة -رضي الله عنهم- على قتالهم، بل دل الدليل الصحيح المتواتر على ذلك، وهو الأحاديث الواردة بألفاظ:
منها: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويحجوا البيت، ويصوموا رمضان، فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها".
فمن ترك أحد هذه الخمس فلم يكن معصوم الدم ولا المال.
وأعظم من ذلك تارك معنى التوحيد، أو المخالف له بما يأتي به من الأفعال.
فإن قلت: هؤلاء المعتقدون في الأموات لا يعلمون بأن ما يفعلونه شرك، بل لو عرض أحدهم على السيف لم يقر بأنه مشرك بالله، ولا فاعل لما هو شرك، ولو علم أدنى علم أن ذلك شرك، لم يفعله.
قلت: الأمر كما قلت، ولكن لا يخفى عليك ما تقرر في أسباب الردة أنه لا يعتبر في ثبوتها العلم بمعنى ما قاله من جاء بلفظ كفري، أو فعل فعلا كفريا.
وعلى كل حال، فالواجب على كل من اطلع على شيء من هذه الأقوال والأفعال، التي اتصف بها المعتقدون في الأموات، أن يبلغهم الحجة الشرعية، ويبين لهم ما أمره الله ببيانه، وأخذ عليه الميثاق ألا يكتمه كما حكى ذلك لنا في كتابه العزيز.
فيقول لمن صار يدعو الأموات عند الحاجات، ويستغيث بهم عند حلول المصيبات، وينذر لهم النذور، وينحر لهم النحور، ويعظمهم تعظيم الرب سبحانه: إن هذا الذي يفعلونه هو الشرك الذي كانت عليه الجاهلية، وهو الذي بعث الله رسوله بهدمه، وأنزل كتبه في ذمه، وأخذ على النبيين أن يبلغوا عباده أنهم لا يؤمنون حتى يخلصوا له التوحيد، ويعبدوه وحده.
فإذا علموا بهذا علما لا يبقى معه شك ولا شبهة، ثم أصروا على ما هم فيه [ ص: 71 ] من الطغيان والكفر بالرحمن، وجب عليه أن يخبرهم بأنهم إذا لم يقلعوا عن هذه الغواية، ويعودوا إلى ما جاءهم به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الهداية، فقد حلت دماؤهم وأموالهم.
فإن رجعوا، وإلا فالسيف هو الحكم العدل، كما نطق به الكتاب المبين، وسنة سيد المرسلين في إخوانهم من المشركين.
فإن قلت: فقد ورد الحديث الصحيح بأن الخلائق يوم القيامة يأتون آدم، فيدعونه، ويستغيثون، ثم نوحا، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمدا.
قلت: ويدعوا لهم بفصل الحساب والإراحة من ذلك الموقف، وهذا جائز; فإنه من طلب الشفاعة والدعاء المأذون فيهما، وقد كان الصحابة يطلبون من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته أن يدعو لهم كما في حديث: أهل المحشر إنما يأتون هؤلاء الأنبياء يطلبون منهم أن يشفعوا لهم إلى الله سبحانه، لما أخبرهم بأنه يدخل الجنة سبعون ألفا. "يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم"
وحديث: عكاشة" "سبقك بها "يا رسول الله! ادع الله لي" أم سليم: وقول امرأة أخرى سألته الدعاء بألا تنكشف عند الصرع، فدعا لها. وقول
ومنه إرشاده الجماعة من الصحابة بأن يطلبوا من الدعاء إذا أدركوه، ومنه ما ورد في دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب، وغير ذلك مما لا يحصر. أويس القرني
حتى إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لما خرج معتمرا: لعمر "لا تنسني يا أخي من دعائك".
فمن جاء إلى رجل صالح، واستمد منه أن يدعو له، فهذا ليس من ذلك الذي يفعله المعتقدون في الأموات، بل هو سنة حسنة، وشريعة ثابتة.
وهكذا طلب الشفاعة ممن جاءت الشريعة المطهرة بأنه كان من أهلها; كالأنبياء.
[ ص: 72 ] ولهذا يقول الله لرسوله يوم القيامة: وذلك هو "سل تعطه، واشفع تشفع" الذي وعده الله به كما في كتابه العزيز. المقام المحمود
والحاصل: أن طلب الحوائج من الأحياء جائز، إذا كانوا يقدرون عليها، ومن ذلك الدعاء، فإنه يجوز استمداده من كل مسلم، بل يحسن ذلك. وكذلك الشفاعة من أهلها الذين ورد الشرع بأنهم يشفعون.
ولكن ينبغي أن يعلم أن دعاء من يدعو له لا ينفع إلا بإذن الله وإرادته ومشيئته، وكذلك شفاعة من شفع لا تكون إلا بإذن الله كما ورد بذلك القرآن العظيم، فهذا تقييد للمطلق، لا ينبغي العدول عنه بحال.
واعلم أن من الشبه الباطلة التي يوردها المعتقدون في الأموات أنهم ليسوا كالمشركين من أهل الجاهلية; لأنهم إنما يعتقدون في الأولياء والصالحين، وأولئك اعتقدوا في الأوثان والشياطين.
وهذه الشبهة داحضة تنادي على صاحبها بالجهل; فإن الله سبحانه لم يقرر من اعتقد في عيسى -عليه السلام- وهو نبي من الأنبياء، بل خاطب النصارى بتلك الخطابات القرآنية.
ومنها: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ، [النساء: 171].
وقال لمن كان يعبد الملائكة: ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم [سبأ: 40 - 41] ولا شك أن عيسى والملائكة أفضل من هؤلاء الأولياء والصالحين، الذين صار هؤلاء القبوريون يعتقدونهم، ويغلون في شأنهم، مع أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هو أكرم الخلق على الله، وسيد ولد آدم، وقد نهى أمته أن يغلوا فيه، كما غلت النصارى في عيسى -عليه السلام- ولم يمتثلوا أمره، ولم يمتثلوا ما ذكره الله في كتابه العزيز من قوله: ليس لك من الأمر شيء ، ومن قوله: وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله .
[ ص: 73 ] وما حكاه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أنه لا يملك لنفسه نفعا وضرا، وما قاله -صلى الله عليه وسلم- "لقرابته الذين أمره الله بإنذارهم بقوله: وأنذر عشيرتك الأقربين ، فقام داعيا لهم ومخاطبا لكل واحد منهم قائلا: "يا فلان بن فلان! لا أغني عنك من الله شيئا، يا فلانة بنت فلان! لا أغني عنك من الله شيئا، يا بني فلان! لا أغني عنكم من الله شيئا".
فانظر -رحمك الله- ما وقع من كثير من هذه الأمة من الغلو المنهي عنه، المخالف لما في كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما يقوله صاحب البردة -رحمه الله تعالى-:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
فانظر كيف نفى كل ملاذ، ما عدا عبد الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وغفل عن ذكر ربه، ورب رسول الله. إنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذا باب واسع، قد تلاعب الشيطان بجماعة من أهل الإسلام حتى ترقوا إلى خطاب غير الأنبياء بمثل هذا الخطاب، ودخلوا من الشرك في أبواب بكثير من الأسباب.
من ذلك قول من يقول مخاطبا لابن العجيل:
هات لي منك يا بن موسى إغاثة عاجلا في سيرها حثاثة
فهذا محض بميت من الأموات قد صار تحت أطباق الثرى، منذ مئين من السنين. الاستغاثة، التي لا تصلح لغير الله،
ويغلب على الظن أن مثل هذا البيت والبيت الذي قبله إنما وقعا من قائليهما لغفلة وعدم تيقظ، ولا مقصد لهما إلا تعظيم جانب النبوة والولاية، ولو نبها لتنبها ورجعا، وأقرا بالخطأ.
وكثيرا ما يعرض ذلك لأهل العلم والأدب والفطنة، وقد سمعنا ورأينا.
فمن وقف على شيء من هذا الجنس لحي من الأحياء، فعليه إيقاظه بالحجج الشرعية، فإن رجع، وإلا كان الأمر فيه كما أسلفناه.
[ ص: 74 ] وأما إذا كان القائل قد صار تحت أطباق الثرى، فينبغي إرشاد الأحياء إلى ما في ذلك الكلام من الخلل.
وقد وقع في "البردة" و"الهمزية" شيء كثير من هذا الجنس، ووقع أيضا لمن تصدى لمدح نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ولمدح الصالحين، والأئمة الهادين، ما لا يأتي عليه الحصر، ولا يتعلق بالاستكثار منه فائدة.
فليس المراد إلا التنبيه والتحذير لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين [الذاريات: 50] ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب [آل عمران: 8] .
واعلم أن ما حررناه وقررناه من أن كثيرا مما يفعله المعتقدون في الأموات يكون شركا، قد يخفى على كثير من أهل العلم، وذلك لا لكونه خفيا في نفسه، بل لإطباق الجمهور على هذا الأمر، وكونه قد شاب عليه الكبير، وشب الصغير، وهو يرى ذلك ويسمعه، ولا يرى ولا يسمع من ينكره، بل ربما يسمع من يرغب فيه، ويندب الناس إليه.