وقال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الأحبار، جمع حبر -بفتح الحاء- وهو الذي يحسن القول، ومنه ثوب محبر. وقيل: جمع حبر -بكسر الحاء- وقال يونس: لم أسمعه إلا بكسر الحاء، وقال الفراء: الفتح والكسر لغتان.
قال الحبر: العالم، ذميا كان أو مسلما، بعد أن يكون من أهل الكتاب. الليث:
والرهبان جمع "راهب" مأخوذ من الرهبة، وهم علماء النصارى، كما أن [ ص: 111 ] "الأحبار" علماء اليهود. وقيل: "الرهبان": أصحاب الصوامع. وقيل: النساك.
وبالجملة: معنى الآية: لما أطاعوهم فيما يأمرونهم به، وينهونهم عنه، كانوا بمنزلة المتخذين لهم أربابا; لأنهم أطاعوهم كما تطاع الأرباب.
قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟
قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله تعالى ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
قال الرازي في "تفسيره": قال شيخنا -رضي الله عنه-: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني: كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟!
ولو تأملت حق التأمل، وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا.
قال: والقول الثاني في تفسير هذه الربوبية: أن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم، فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد.
وذلك الشيخ إذا كان طالبا للدنيا، بعيدا عن الدين، كان يأمر أتباعه وأصحابه بأن يسجدوا له، وكان يقول لهم: أنتم عبيدي، فكان يلقي إليهم من حديث الحلول والاتحاد أشياء، ولو خلا ببعض الحمقاء من أتباعه، فربما ادعى الإلهية.
فإذا كان ذلك مشاهدا في هذه الأمة، فكيف يبعد ثبوته في الأمم السالفة؟!
وحاصل الكلام: أن تلك الربوبية تحتمل أن يكون المراد منها: أنهم أطاعوهم فيما كانوا فيه مخالفون لحكم الله.
وأن يكون المراد منها: أنهم قبلوا أنواع الكفر، فكفروا بالله، فصار ذلك جاريا مجرى أنهم اتخذوا أربابا من دون الله.
[ ص: 112 ] ويحتمل أنهم أثبتوا في حقهم الحلول والاتحاد.
وكل هذه الوجوه الأربعة مشاهد وواقع في هذه الأمة. انتهى كلامه.
قلت: وهذا يفيدك أن الآية الشريفة رد على المقلدة، وعلى الوجودية كليهما، وفيها صراحة أن تقليدهم هذا للعلماء والمشايخ مما لم يأمرهم به الله. وهو المطلوب.
المسيح ابن مريم الذي اتخذه النصارى ربا معبودا.
قال في "فتح البيان": وفي هذه الآية ما يزجر من كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد، عن التقليد في دين الله، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز، والسنة المطهرة.
فإن طاعة المتمذهب لمن يقتدي بقوله، ويستن بسنته من علماء هذه الأمة، مع مخالفته لما جاءت به النصوص، وقامت به حجج الله وبراهينه، ونطقت به كتبه وأنبياؤه، هو كاتخاذ اليهود والنصارى للأحبار والرهبان أربابا من دون الله، للقطع بأنهم لم يعبدوهم، بل أطاعوهم وحرموا ما حرموا، وحللوا ما حللوا.
وهذا هو صنيع المقلدين من هذه الأمة، وهو أشبه به من شبه البيضة بالبيضة، والتمرة بالتمرة، والماء بالماء.
فيا عباد الله! ويا أتباع محمد بن عبد الله! ما بالكم تركتم الكتاب والسنة جانبا، وعمدتم إلى رجال، هم مثلكم في تعبد الله لهم بهما، وطلبه للعمل منهم بما دلا عليه وأفاداه؟! فعملتم بما جاؤوا به من الآراء التي لم تعمد بعماد الحق، ولم تعضد بعضد الدين، ونصوص الكتاب والسنة تنادي بأبلغ نداء، وتصوت بأعلى صوت بما يخالف ذلك وبيانه، فأعرتموها آذانا صما، وقلوبا غلفا، وأفهاما مريضة، وعقولا هيضة، وأذهانا كليلة، وخواطر عليلة!!
[ ص: 113 ] وأنشدتم بلسان الحال:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
فدعوا -أرشدكم الله وإياي- كتبا كتبها لكم الأموات من أسلافكم، واستبدلوا بها كتاب الله، خالقهم وخالقكم، ومتعبدهم ومتعبدكم، ومعبودهم ومعبودكم، واستبدلوا بأقوال من تدعونهم بأئمتكم، وما جاؤوكم به من الرأي بأقوال إمامكم وإمامهم، وقدوتهم وقدوتكم، وهو الإمام الأول، محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- .
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمن في دينه كمخاطر
اللهم هادي الضال، مرشد التائه، موضح السبيل! اهدنا إلى الحق، وأرشدنا إلى الصواب، وأوضح لنا منهج الهداية.
وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا أي: والحال أنهم ما أمروا في الكتب القديمة المنزلة عليهم على ألسنة أنبيائهم إلا بعبادة الله وحده.
أي: ما أمر الذين اتخذوهم أربابا من الأحبار والرهبان إلا بذلك، فكيف يصلحون لما أهلوهم له من اتخاذهم أربابا؟! لا إله إلا هو استئناف مقرر للتوحيد سبحانه عما يشركون [التوبة: 31] أي: تنزيها له عن الإشراك في طاعته وعبادته.
وقد أخرج ابن سعد، وعبد بن حميد، وحسنه، والترمذي وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، وابن مردويه، في "سننه" عن والبيهقي قال: عدي بن حاتم، اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فقال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه" وأخرجه أيضا أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقرأ في سورة براءة: أحمد، وابن جرير.
وقال تعالى: إذ قال [الأنبياء: 52] أي: إبراهيم -عليه السلام- لأبيه [ ص: 114 ] "آزر" وقومه "نمرود" ومن اتبعه: ما هذه التماثيل وهي الصور والأصنام إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين [الأنبياء: 53] فقلدناهم، واقتدينا بهم.
أجابوه بهذا الجواب، الذي هو العصا، التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق، وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء.
أي: وجدنا آباءنا يعبدونها، فعبدناها اقتداء بهم، ومشيا على طريقتهم.
وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية.
فإن العالم بالكتاب والسنة، إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل، قالوا: هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين، وبرأيه آخذين.
قال الحفناوي: أي: فلم يكن جوابهم إلا التقليد. انتهى.
وجوابهم هو ما أجاب به الخليل -عليه السلام- هاهنا، قال: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين [الأنبياء: 54] أي: في خسران واضح ظاهر، لا يخفى على أحد، ولا يلتبس على ذي عقل.
قال النسفي: أراد أن انتهى. المقلدين والمقلدين منخرطون في سلك ضلال ظاهر.
أقول: وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- كتبا قد دونت فيها اجتهادات عالم من علماء الإسلام، زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها، إما لقصور منه، أو لتقصير في البحث، فوجد ذلك الدليل من وجده، وأبرزه واضح المنار، كأنه علم في رأسه نار، وقال: هذا كتاب الله، أو هذه سنة رسوله.
فدع عنك نهبا صيح في حجراته وهات حديثا ما حديث الرواحل
وما أحسن ما قيل:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح
[ ص: 115 ] قال البيضاوي: والتقليد، وإن جاز، فإنما يجوز لمن علم في الجملة أنه على الحق.
وقال تعالى: إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون [الشعراء: 70] القائل هو إبراهيم -عليه السلام- إلى قوله: قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون [الشعراء: 78] فقلدناهم.
قال أبو السعود المفسر الحنفي: هذا الجواب منهم، اعتراف بأنها بمعزل عن ذكر من السمع، والمنفعة، والمضرة بالمرة، واضطروا إلى إظهار أن لا مستند لهم سوى التقليد.
أي: ما علمنا، ولا رأينا منهم ما ذكر من الأمور، بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فاقتديناهم. انتهى.
قال الخازن: وفي الآية دليل على ومدح الأخذ بالاستدلال. انتهى. إبطال التقليد في الدين، وذمه،
قال في "فتح البيان": وهذا الجواب هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز، ويمشي بها كل أعرج، ويغتر بها كل مغرور، وينخدع لها كل مخدوع.
فإنك لو سألت الآن هذه المقلدة للرجال، التي طبقت الأرض بطولها والعرض، وقلت لهم: ما الحجة لكم على تقليد فرد من أفراد العلماء، والأخذ بكل ما يقوله في الدين، ويبتدعه من الرأي المخالف للدليل؟
لم يجدوا غير هذا الجواب، ولا فاهوا بسواه، وأخذوا يعدون عليك من سبقهم إلى تقليد هذا من سلفهم، واقتدى بقوله وفعله، وهم قد ملئوا صدورهم هيبة، وضاقت أذهانهم عن تصورهم، وظنوا أنهم خير أهل الأرض، وأعلمهم وأورعهم، فلم يسمعوا لناصح نصحا، ولا لداع إلى الحق دعاء.
[ ص: 116 ] ولو فطنوا لرأوا أنفسهم في غرور عظيم، وجهل شنيع، وأنهم كالبهيمة العمياء، وأولئك الأسلاف كالعمي الذين يقودون البهائم العمي، كما قال الشاعر:
كبهيمة عمياء قاد زمامها أعمى على عوج الطريق الحائر
فعليك -أيها العامل بالكتاب والسنة، المبرأ من التعصب والتعسف- أن تورد عليهم حجج الله، وتقيم عليهم براهينه، فإنه ربما انقاد لك منهم من لم يستحكم داء التقليد في قلبه.
وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء العضال، فلو أوردت عليه كل حجة، وأقمت عليه كل برهان، لما أعارك إلا أذنا صماء، وعينا عمياء، ولكنك قد قمت بواجب البيان، الذي أوجبه عليك القرآن، والهداية بيد الخلاق العليم: إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء .
وقال تعالى: وإذا قيل لهم [لقمان: 21] أي: لهؤلاء المجادلين: اتبعوا ما أنـزل الله [لقمان: 21] على رسوله من الكتاب، تمسكوا بمجرد التقليد البحت قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا [لقمان: 21] أي: نمشي في الطريق التي كانوا يمشون فيها في دينهم.
ثم قال على طريق الاستفهام، للاستبعاد والتبكيت: أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير [لقمان: 21].
قال في "فتح البيان" تحت هذه الآية:
وما أقبح التقليد، وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته، وأشأم عائدته على من وقع فيه!!
فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله، كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار؛ لئلا تحترق، فتأبى ذلك، وتتهافت في نار الحريق وعذاب السعير. انتهى.
[ ص: 117 ] وقال تعالى: إنهم ألفوا آباءهم ضالين [الصافات: 69] أي: صادفوهم كذلك، فاقتدوا بهم تقليدا وضلالة، لا لحجة أصلا.
قال أبو السعود: أي بتقليد آبائهم في الدين، من غير أن يكون لهم أو لآبائهم شيء يتمسك به أصلا.
فهم على آثارهم يهرعون [الصافات: 70] أي: من غير أن يتدبروا أنهم على الحق أو لا، مع ظهور كونهم على الباطل بأدنى تأمل.
والإهراع: الإسراع الشديد، وقال الفراء: الإسراع برعدة.
وقال تعالى: بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة أي: على طريقة ومذهب.
قال هي الطريقة والدين، وبه قال أبو عبيدة: ابن عباس، يقال : فلان لا أمة له، ولا نحلة; أي: لا دين له ولا مذهب. وقتادة.
بل قالوا إنا وجدنا [الزخرف: 22] بهم، اعترفوا بأنه لا مستند لهم من حيث العيان، ولا من حيث العقل، ولا من حيث السمع والبيان، سوى تقليد آبائهم.
قال الخازن: جعلوا أنفسهم مهتدين باتباع آبائهم وتقليدهم من غير حجة. انتهى.
وقال أبو السعود: لم يأتوا بحجة عقلية ولا نقلية، بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم. انتهى.
وكذلك [الزخرف: 23] أي: الأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة، وتمسكهم بالتقليد وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون [الزخرف: 23] فيه دلالة على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم، ليس لأسلافهم أيضا مستند غيره. قاله أبو السعود.
والمترفون: الأغنياء والرؤساء المتنعمون.
قال الكرخي: هذا تسلية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ودلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، وأن من تقدمهم أيضا لم يكن لهم مستند منظور إليه.
[ ص: 118 ] وتخصيص المترفين; للإشعار بأن التنعم هو الذي أوجب البطر، وصرفهم عن النظر إلى التقليد. انتهى.
وقال النسفي: هذه تسلية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وبيان أن تقليد الآباء داء قديم. انتهى.
قال الرازي في "تفسيره": لو لم يكن في كتاب الله إلا هذه الآيات، لكفت في إبطال القول بالتقليد؛ وذلك لأنه تعالى بين أن هؤلاء الكفار لم يتمسكوا في إثبات ما ذهبوا إليه، لا بطريق عقلي، ولا بدليل نقلي. ثم بين أنهم إنما ذهبوا إليه بمجرد تقليد الآباء والأسلاف.
وإنما ذكر تعالى هذه المعاني في معرض الذم والتهجين، وذلك يدل على أن القول بالتقليد باطل.
ومما يدل عليه أيضا من حيث العقل: أن التقليد أمر مشترك فيه بين المبطل وبين المحق، وذلك أنه كما حصل لهذه الطائفة قوم من المقلدة، فكذلك حصل لأضدادهم أقوام من المقلدة.
فلو كان التقليد طريقة إلى الحق، لوجب كون الشيء ونقيضه حقا.
ومعلوم أن ذلك باطل، وأنه تعالى بين أن الداعي إلى القول بالتقليد، والحامل عليه، إنما هو حب التنعم في طيبات الدنيا، وحب الكسل والبطالة، وبغض تحمل مشاق النظر والاستدلال; لقوله: إلا قال مترفوها .
والمترفون هم الذين أترفتهم النعمة; أي: أبطرتهم، فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي، ويبغضون تحمل المشاق في طلب الحق. انتهى.
قال العلامة الشوكاني -رضي الله عنه-: وهذا من أعظم الأدلة على بطلان التقليد وقبحه، فإن هؤلاء المقلدة في الإسلام، إنما يعملون بقول أسلافهم، ويتبعون آثارهم، ويقتدون بهم.
فإذا رام الداعي إلى الحق أن يخرجهم من ضلالة، أو يدفعهم عن بدعة قد تمسكوا بها وورثوها عن أسلافهم بغير دليل نير، ولا حجة واضحة، بل لمجرد قيل" و"قال" لشبهة داحضة، وحجة زائفة، ومقالة باطلة، قالوا بما قاله [ ص: 119 ] المترفون من هذه الملل: وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير أتوا بما يلاقي معناه معنى ذلك.
فإن قال لهم الداعي إلى الحق: قد جمعنا الملة الإسلامية، وشملنا هذا الدين المحمدي، ولم يتعبدنا الله ولا تعبدكم ولا تعبد آباءكم من قبلكم إلا بكتابه الذي أنزله على رسوله، وبما صح عن رسوله، فإنه المبين لكتاب الله، الموضح لمعانيه، الفارق بين محكمه ومتشابهه، فتعالوا نرد ما تنازعنا فيه إلى كتاب الله، وسنة رسوله، كما أمرنا الله بذلك في كتابه بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول [النساء: 59] فإن الرد إليهما أهدى لنا ولكم من الرد إلى ما قاله أسلافكم، ودرج عليه آباؤكم، نفروا نفور الوحش، ورموا الداعي لهم إلى ذلك بكل حجر ومدر، كأنهم لم يسمعوا قول الله سبحانه: إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا [النور: 51] ولا قوله: فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما [النساء: 65].
فإن قال لهم القائل: هذا العالم الذي تقتدون به، وتتبعون أقواله، هو مثلكم في كونه متعبدا بكتاب الله وسنة رسوله، مطلوب منه ما هو مطلوب منكم، وإذا عمل برأيه عند عدم وجدانه للدليل، فذلك رخصة له، لا يحل له أن يتبعه غيره عليها، ولا يجوز له العمل بها، وقد وجد الدليل الذي لم يجده، وها أنا أوجدكموه في كتاب الله، أو فيما صح من سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وذلك أهدى لكم مما وجدتم عليه آباءكم.
قالوا: لا نعمل بهذا، ولا سمع لك ولا طاعة. ووجدوا في صدورهم أعظم الحرج من حكم الكتاب والسنة، ولم يسلموا لذلك، ولا أذعنوا له.
وقد وهب لهم الشيطان عصا يتوكؤون عليها عند أن يسمعوا من يدعوهم إلى الكتاب والسنة، وهي أنهم يقولون: إن إمامنا الذي قلدناه واقتدينا به أعلم بكتاب الله وسنة رسوله؛ وذلك لأن أذهانهم قد تصورت من يقتدون به تصورا عظيما، بسبب تقدم العصر، وكثرة الأتباع.
[ ص: 120 ] وما علموا أن هذا منقوض عليهم، مدفوع به في وجوههم; فإنه لو قيل لهم: إن في التابعين من هو أعظم قدرا، وأقدم عصرا من صاحبكم.
فإن كان لتقدم العصر وجلالة القدر مزية توجب الاقتداء، فتعالوا حتى أريكم من أقدم عصرا وأجل قدرا.
فإن أبيتم ذلك، ففي الصحابة -رضي الله عنهم- من هو أعظم قدرا من صاحبكم علما وفضلا وجلالة.
فإن أبيتم ذلك، فها أنا أدلكم على من هو أعظم قدرا وأجل خطرا، وأكثر أتباعا، وأقدم عصرا، وهو محمد بن عبد الله نبينا ونبيكم -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله إلينا وإليكم.
فتعالوا، فهذه سنته موجودة في دفاتر الإسلام ودواوينه، التي تلقتها جميع فحول هذه الأمة، قرنا بعد قرن، وعصرا بعد عصر.
وهذا كتاب ربنا، خالق الكل، ورازق الكل، وموجد الكل، وإله الكل، بين أظهرنا موجود في كل بيت، وبيد كل مسلم، لم يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقصان، ولا تحريف ولا تصحيف.
ونحن وأنتم ممن يفهم ألفاظه، ويتعقل معانيه.
فتعالوا لنأخذ الحق من معدنه، ونشرب صفو الماء من منبعه، فهو مما وجدتم عليه آباءكم.
قالوا: لا سمع ولا طاعة، إما بلسان القال، أو بلسان الحال.
فتدبر هذا وتأمله، إن بقي فيك بقية من إنصاف، وشعبة من خير، ومزعة من حياء، وحصة من دين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وقد أوضحت هذا غاية الإيضاح في كتابي الذي سميته: "أدب الطلب ومنتهى الأرب". انتهى كلام الشوكاني.
وقد شاع ملخص هذا الكتاب بالطبع في هذا العصر، وسماه صاحب التلخيص بـ "طلب الأدب من أدب الطلب".
[ ص: 121 ] وفي الباب كتب مستقلة كثيرة ممتعة نافعة، لمن رام أن تنجلي عنه ظلمات التعصب، وتنقشع له سحائب التقليد المشؤوم.
وقال تعالى: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [الزخرف: 76-77].
قال الرازي في "تفسيره": المقصود من هذه الآية: ذكر وجه آخر يدل على فساد القول بالتقليد، وتقريره من وجهين:
الأول: أنه تعالى حكى عن إبراهيم -عليه السلام- أنه تبرأ عن دين آبائه، بناء على الدليل.
فنقول: إما أن يكون تقليد الأديان في الآباء محرما أو جائزا.
فإن كان محرما، فقد بطل القول بالتقليد.
وإن كان جائزا، فمعلوم أن أشرف آباء العرب، هو إبراهيم -عليه السلام- وذلك لأنه ليس لهم فخر ولا شرف إلا بأنهم من أولاده، وإذا كان كذلك، فتقليد هذا الأب الذي هو أشرف الآباء أولى من تقليد سائر الآباء.
وإذا ثبت أن تقليده أولى من تقليد غيره، فنقول: إنه ترك دين الآباء، وحكم بأن اتباع الدليل أولى من متابعة الآباء.
وإذا كان كذلك وجب تقليده في ترك تقليد الآباء، ووجب تقليده في ترجيح الدليل على التقليد.
وإذا ثبت هذا، فنقول: فقد ظهر أن القول بوجوب التقليد يوجب المنع من التقليد، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلا، فوجب أن يكون القول بالتقليد باطلا.
فهذا طريق دقيق في إبطال التقليد، وهو المراد من هذه الآية.