القضاة الذين تجب طاعتهم وإجابتهم والخضوع لما يحكمون به
فإن كان القاضي مقصرا لا يعلم بأحكام الكتاب والسنة، ولا يعقل حجج الله ومعاني كلامه، وكلام رسوله، كان جاهلا جهلا بسيطا، وهو من لا علم له بشيء من ذلك، أو جهلا مركبا، وهو من لا علم عنده بما ذكر، ولكنه قد عرف بعض اجتهادات المجتهدين، واطلع على شيء من علم الرأي.
فهذا في الحقيقة جاهل، وإن اعتقد أنه يعلم بشيء من العلم، فاعتقاده باطل.
فمن كان من القضاة هكذا، فلا تجب الإجابة إليه; لأنه ليس ممن يعلم بحكم الله ورسوله، حتى يحكم به بين المتخاصمين إليه، بل هو من قضاة الطاغوت، وحكام الجبت، فإن ما عرفه من علم الرأي إنما رخص له في العمل به للمجتهد، الذي هو منسوب إليه عند عدم الدليل من الكتاب والسنة، ولم يرخص فيه لغيره ممن يأتي بعده.
وإذا تقرر لديك هذا، وفهمته حق فهمه، علمت أن التقليد والانتساب إلى عالم من العلماء دون غيره، والتعبد بجميع ما جاء به من رواية ورأي، وإهمال ما عداه، من أعظم ما حدث في هذه الملة الإسلامية من البدع المضلة، والفواقر الموحشة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وقد أوضح هذا صاحب كتاب "الجنة في الأسوة الحسنة بالسنة".
وهكذا حكم أهل الفتيا سواء بسواء.
[ ص: 150 ] ولا يخفاك أن قضاة العدل، وحكام الشرع، ومفتي المسائل، هم الذين هم على طريقة الكتاب والسنة، لا من هو على أمة التقليد، وسبيل الهوى، وصراط الرأي.
فمن كان كذلك، فهم سلاطين الدين، المترجمون عن كتاب رب العالمين، وسنة خاتم النبيين -صلى الله عليه وسلم- المبينون للناس ما نزل إليهم.
وأما الذين هم على خلاف هذه الحالة، فإنهم ليسوا كما تقدم، بل هم الشياطين في زي السلاطين، والسوقة في لباس الأساطين.
وقال تعالى: فليحذر الذين يخالفون عن أمره أي: أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بترك العمل بمقتضاه، ويذهبون سمتا خلاف سمته أن تصيبهم فتنة أي فتنة كانت.
وقيل: القتل، وقيل: تسلط سلطان جائر، وقيل: الطبع على قلوبهم، وقيل: محنة في الدنيا أو يصيبهم عذاب أليم [النور: 93] في الآخرة.
وقال القرطبي: احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية... إلى قوله: فيجب امتثال أمره، ويحرم مخالفته.
والآية تشمل كل من خالف أمر الله وأمر رسوله، ويدخل فيها الجامدون على ضلالة التقليد، من بعد ما تبين لهم الهدي، وظهر الصواب من الخطأ.
قلت: وقد رأيت بعيني هاتين، وسمعت أذناي: أن المذكورة في تحت الآية، ولا تكون فتنة إلا منهم، ثم تعود فيهم، وهم لا يزالون مفتونين مختلفين، وسيصيبهم عذابه سبحانه في الآخرة، فكانوا خاسرين فيهما، نعوذ بالله من الخذلان. مخالفي أمره -صلى الله عليه وسلم- من المقلدة أصابتهم الفتن
وقال تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أي: قدوة صالحة.
والمعنى: اقتدوا به اقتداء حسنا، ولا تتخلفوا عنه في شيء من الأشياء، أمرا كان أو نهيا، واستنوا بسنته.
قال في "فتح البيان": هذه الآية، وإن كان سبيلها خاصا، فهي عامة في كل شيء، ومثلها: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وفيها دلالة [ ص: 151 ] على لزوم الاتباع، وترك التقليد الحادث المشؤوم، الذي أصيب به الإسلام أي مصيبة.
قال القرطبي: يحتمل أن تحمل هذه الأسوة على الإيجاب في أمور الدين، وعلى الاستحباب في أمور الدنيا. انتهى.
لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا [الأحزاب: 21] جمع بين الرجاء والذكر له; لأن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .
قال القرطبي: لفظ "ما كان" و"ما ينبغي" ونحوهما، معناه: الحظر والمنع من الشيء، والإخبار بأنه لا يحل شرعا أن يكون.
قال في "الفتح": دلت الآية على اتباع قضاء الكتاب والسنة، وذم التقليد والرأي، وعد خيرة الأمر في مقابلة النص من الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وإن كان السبب خاصا; فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ومن يعص الله ورسوله فقد ضل عن طريق الحق ضلالا مبينا [الأحزاب: 39] ظاهرا واضحا، لا يخفى.
فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول، كما يشاهد من علماء المعقول، والمقلدة الجهول، فهو ضلال كفر.
وإن كان عصيان فعل، مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب، فهو ضلال خطأ وفسق، كما يشاهد من الفساق.
وقال تعالى: إن الذين يؤذون الله ورسوله قيل: معنى "أذية الله": الإلحاد في أسمائه وصفاته.
وأما "أذية رسوله" فهي كل ما يؤذيه من الأقوال والأفعال، ومنه ترك الاتباع، وفعل التقليد لآراء الرجال، وإيثاره على سنته، كما في "الفتح" بل هذا أشد الإيذاء لهما، ونعوذ بالله من ذلك لعنهم الله في الدنيا والآخرة بحيث [ ص: 152 ] لا يبقى وقت من أوقات محياهم ومماتهم إلا واللعنة واقعة عليهم، مصاحبة لهم وأعد لهم مع ذلك اللعن عذابا مهينا [الأحزاب: 57] يصيرون به في الإهانة في الدار الآخرة.
وهذه الآية فيها من الوعيد ما تقشعر منه الجلود، وترجف له الأفئدة في الصدور، وترتعد له الفرائص.
ولا يرتاب أحد ممن له أدنى شعور، وأيسر عقل: أن في التقليد الحادث مخالفة ظاهرة مع الله ورسوله، وإيذاء لهما في ترك امتثال أمرهما ونهيهما، والإتيان بما يضاد ذلك، والإيذاء المذكور مستجلب للعنة، ولا قرية بعد عبادان.
وقال تعالى: أم لكم كتاب فيه تدرسون [القلم: 37] أي: تقرؤون فيه فتجدون المطيع كالعاصي، والمتبع كالمقلد، والموحد كالمشرك.
إن لكم فيه لما تخيرون [القلم: 38] أي: تختارون وتشتهون.
ومثله قوله سبحانه: أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين . [156- 157] .
أم لكم أيمان علينا بالغة ; أي: عهود مؤكدة بالإيمان، موثقة استوثقتم بها في أن يدخلكم الجنة، وإن عشتم على التقليد، ومتم عليه، وتركتم الاتباع، وسلكتم سبل الابتداع إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون [القلم: 39] به أنفسكم.
سلهم أيهم بذلك زعيم [القلم: 40] أي: كفيل لهم بأن لهم في الآخرة ما للمتبعين الموحدين المخلصين له الدين؟.
قال ابن كيسان: الزعيم هنا: القائم بالحجة والدعوى.
أم لهم شركاء غيرهم يشاركونهم في هذا القول ويوافقونهم فيه، ويذهبون مذهبهم فيه فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين [القلم:41] فيما يقولون; إذ لا أقل من التقليد، وهو أمر تعجيز.
قال في "فتح البيان": قد نبه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن [ ص: 153 ] أن يتشبثوا به لدعواهم; من عقل فاسد، أو نقل كاسد، أو فعل حاسد، أو محض تقليد على الترتيب; تنبيها على مراتب النظر، وتزييفا لما لا سند له من الفعل والقول.
وقال تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ، تقدمت هذه الآية الشريفة.
وعمومها يشمل كل شيء لم يأمر به الله، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
فيدخل فيه التقليد; لأنه من هذا الوادي، بل هو مما ذمه الله في كتابه في غير موضع، ولم يأذن به رسوله -صلى الله عليه وسلم- أمته، ولا فردا واحدا منها، ولا قال به إمام من أئمة الدين، ولا أحد من سلف هؤلاء المسلمين، بل نهى الله عنه ورسوله، وكل مجتهد من مجتهدي هذه الملة الإسلامية، لا سيما الأربعة منهم، الذين يتهالك الضلال في تقليدهم، ويفتخر الجهال باختيار مذاهبهم لهم.
وكذلك نهى عنه كل من كان بعدهم من أهل الديانة والعلم بالكتاب والسنة، وهم سائر المفسرين، وجمهور المحدثين، وجميع الصالحين.
كيف ولم يحدث التقليد إلا بعد القرون المشهود لها بالخير، ولم يحدثه إلا العامة الأكالون البطالون، محبو الدنيا، ومبغضو الآخرة، أبناء البطون، وعبيد الدراهم والدنانير والمجون؟!!
ولو أراد أحد من نوع الظلوم الجهول أن ينقل حرفا واحدا في إثباته أو جوازه، فضلا عن استحبابه، فضلا عن وجوبه من الكتاب والسنة، أو من قول أحد من سلف هذه الأمة وأئمتها، لا يمكنه ذلك، وإن سافر إلى أقصى الصين.
نعم، شحن هذه الطائفة المتأخرة من المقلدة كتبهم بوجوبه، بل بفرضيته على سائر الأمة، وادعت دعاوى طويلة عريضة، ليس عليها أثارة من علم، وجاءت بأدلة هي أشأم من طويس، وأثقل على الراجي من "لا" و"ليس" وسودت وجوه قراطيس لمسوها بأيديهم.
وقد أجاب على ذلك كله جماعة منصورة ظاهرة على الحق، بما هو موجود فيهم.
[ ص: 154 ] ولكن أنى لهم التناوش من مكان بعيد؟!
وقال تعالى: إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا [البقرة: 166- 167] .
قال في "فتح البيان": احتج جمع من أهل العلم بهذه الآية الشريفة على ذم التقليد، وهو مذكور في موطنه. انتهى.
قلت: فيهم ذكر ما يجري بين المقلدين -بالكسر- والمقلدين -بالفتح- وهذا يدل على أن المتبوعين يتبرؤون من التابعين; لأنهم لم يدعوهم إلى تقليدهم، وكان تقليد هؤلاء لهم من عند أنفسهم.
وإذا ظهر لهم ضرر هذا التقليد، تبرأ التابعون أيضا من متبوعيهم، وتمنوا الرجعة إلى الدنيا، والعود إليها ليتركوا تقليدهم بعد ذلك.
وهذه الآية، وإن نزلت في المقلدة الكفار، لكن عمومها يشمل كل مقلد لكل مقلد.
ولا شك أن الأئمة الأربعة وغيرهم من مجتهدي هذه الملة، قد صاحوا بالنهي عن تقليدهم، وتبرؤوا في هذه الدار، وكذلك يتبرؤون من هؤلاء في الدار الآخرة.
والمقلدة لهم لا يسمعون نهيهم هنا، وإنما يسمعون هناك، ويتمنون لو أنهم لم يقلدوا مذهبهم لهم، ولم يكونوا تابعين لهم، ويندمون حيث لا ينفع الندم.
ومن رحمة الله سبحانه أنه صان أئمة الملة المحمدية عن الدعوة إلى هذه التقليدات، ووقاهم عن تلك السيئات، إنما الوزر على من قلدهم على نهيهم عن ذلك، ولا تزر وازرة وزر أخرى.
وقال تعالى: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل هذا يدل على أن فصل [ ص: 155 ] الحكومة على ما في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو العدل، لا الحكم بالرأي المجرد; فإن ذلك ليس من العدل في شيء.
قال -عليه السلام-: علي على الإمام أن يحكم بما أنزل الله.
إن الله نعما يعظكم به [النساء: 58] به أي: نعما شيئا الذي يعظكم به، وهو الحكم بالعدل على وفق الكتاب والسنة، دون الرأي البحت، والاجتهاد الصرف; تقليدا للأحبار والرهبان، من غير حجة نيرة، وبرهان واضح.
ولا شك أن الولاء، والقضاة، والمفتين بالرأي، المقلدين للأئمة المجتهدين لم يقبلوا من الله هذه العظة، وخالفوها خلافا ظاهرا، فحكموا في المسائل والأحكام والخصومات، بما أراهم عقلهم، وأدى إليه رأيهم، ولم يبالوا بما في هذين الأصلين الكريمين -من فصل القضايا، وحكم الرزايا- بالة، ولم يرفعوا إليها رأسا أصلا.
وقال تعالى: وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنـزل الله وإلى الرسول ; أي إلى الكتاب والسنة الناطقة بالحق والصواب قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا وهذه أفعال آبائهم وسننهم التي سنوها لهم.
وقد صدق الله حيث قال: أولو كان آباؤهم جهلة ضالين لا يعلمون شيئا ولا يهتدون تقدم مثل هذه الآية، وتقدم الكلام عليه.
والمعنى: أن الاقتداء إنما يصح بمن كان عالما مهتديا هاديا راشدا، داعيا إلى الكتاب والسنة، اللذين هما البرهان والدليل، لا بمن كان ضد ذلك.
فكيف يكون تقليده صحيحا جائزا، وقد صارت هذه الكلمة الباطلة التي قالتها الجاهلية عمدة مقلدي الأئمة ومتكأهم، يستندون إليه إن دعاهم داعي الحق، وطالبهم مطالب الإنصاف.
فاحتجاجهم بالمقلدين -بالفتح- ممن هو نظيرهم ومثيلهم في التعبد بكتاب الله وسنة رسوله، مع خلافه بما فيهما، هو كمقالة هؤلاء الضالة.
[ ص: 156 ] وليس الفرق إلا في مجرد المباني، دون المعاني التي تدور عليها الإفادة والاستفادة، ولا أثر لتبديل العبارة في تبديل الحكم; فإن العبرة بالمسميات دون الأسماء.
وقال تعالى: وإذا فعلوا فاحشة أي: ذنبا قبيحا متبالغا في القبح، اعتذروا عن ذلك بعذرين:
الأول: قالوا وجدنا عليها آباءنا أي: نحن نفعله تقليدا بالآباء كما يقول المبتدعة: إنما نفعل هذه الأفعال البدعية; كالاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحوه، لما وجدنا أكابرنا مستمرين على فعل هذه الفعلة.
والثاني: والله أمرنا بها ; أي: أنهم مأمورون من جهة الله سبحانه، كما قالت طائفة البدع: نحن مأمورون من جهة الله ورسوله بحب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهذا فيه إظهار لمحبتنا له صلى الله عليه وسلم.
وكلا العذرين في غاية البطلان والفساد; لأن وجود آبائهم على الذنب لا يسوغ لهم فعلهم، بل ذلك تقليد باطل محض، لا أصل له.
والأمر من الله لهم لم يكن بذلك، إنما أمرهم الله أن يتبعوا النبي الأمي ويعملوا بكتابه، ونهاهم عن مخالفتهما.
قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون تقدمت هذه الآية، وتقدم تفسيرها.
قال قتادة: والله! ما أكرم الله عبدا قط على معصية، ولا رضيها له، ولا أمر بها، ولكن رضي لكم بطاعته، ونهاكم عن معصيته.
وفيه: أن القول بالتقليد تقول على الله، وافتراء عليه سبحانه، وما أعظم هذه الإساءة في حضرته سبحانه، في إضافة الأمر بالفحشاء إليه!!
والآيات البينات في ذم التقليد أكثر مما ذكر هنا، وإنما نبهنا بذلك على ما هنالك.