كلام الأئمة الأربعة وأصحابهم في ذم التقليد
قال صاحب "الهداية" : في "روضة العلماء" : أنه قيل إذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله. لأبي حنيفة:
فقيل: إذا كان خبر الرسول يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بخبر الرسول صلى الله عليه وسلم-.
فقيل: إذا كان قول الصحابي يخالفه؟ فقال: اتركوا قولي بقول الصحابي . ا هـ
وقد روى عنه هذه المقالة جماعة من أصحابه وغيرهم.
وذكر نور الدين السنهوري نحو ذلك عن قال: قال مالك، ابن مدى في "منسكه" : روينا عن قال: سمعت معن بن عيسى، يقول: إنما أنا بشر أخطئ، وأصيب، فانظروا في رأيي كل ما وافق الكتاب والسنة، فخذوا به، وما لم يوافق الكتاب والسنة، فاتركوه. انتهى. مالكا
ونقل الأجهوري والجوشي هذا الكلام، وأقراه في شرحيهما على "مختصر خليل" . وقد روى ذلك عن مالك جماعة من أهل مذهبه وغيرهم.
وأما الإمام فقد تواتر ذلك عنه تواترا لا يخفى على مقصر، فضلا عن كامل; فإنه نقل ذلك عنه غالب أتباعه، ونقله عنه أيضا جميع المترجمين له إلا من شذ. الشافعي،
ومن جملة من روى ذلك: فإنه ساق إسنادا إلى البيهقي; الربيع، قال : [ ص: 213 ] سمعت - وسأله رجل عن مسألة، فقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم- أنه قال : كذا وكذا. الشافعي
فقال له السائل: يا أبا عبد الله! فتقول بهذا؟ فارتعد واصفر، وحال لونه، وقال: ويحك ! وأي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئا، ولم أقل به؟! نعم على الرأس والعين، نعم على الرأس والعين. الشافعي
وروى أيضا عن البيهقي أنه قال: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فقولوا بسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ودعوا ما قلت. الشافعي:
وروى عنه أيضا، قال: إذا حدث الثقة عن الثقة حتى ينتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فهو ثابت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، ولا يترك لرسول الله صلى الله عليه وسلم-، حديث أبدا، إلا حديث وجد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يخالفه . البيهقي
وروى أيضا عنه: أنه قال له - رجل وقد روى حديثا -: أتأخذ به؟ فقال: متى رويت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حديثا صحيحا، فلم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. البيهقي
وحكى ابن القيم في "أعلام الموقعين" : أن الربيع قال: سمعت يقول: كل مسألة يصح فيها الخبر عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي. الشافعي
وقال حرملة بن يحيى: قال ما قلت، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد قال بخلاف قولي، فما صح من حديث النبي صلى الله عليه وسلم- أولى، ولا تقلدوني. الشافعي:
وقال سأل رجل الحميدي: عن مسألة، فأفتاه، وقال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم- كذا وكذا. الشافعي
فقال الرجل: أتقول بهذا يا أبا عبد الله؟ فقال - رحمه الله -: أرأيت في وسطي زنارا؟ أتراني خرجت من الكنيسة؟ أقول: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتقول لي: أتقول بهذا؟! الشافعي
[ ص: 214 ] أروي عن النبي صلى الله عليه وسلم- ولا أقول به؟ انتهى .
ونقل في "نهايته" عن إمام الحرمين أنه قال: إذا صح خبر يخالف مذهبي فاتبعوه، واعلموا أنه مذهبي، انتهى. الشافعي:
وقد روى نحو ذلك الخطيب وكذلك الذهبي في "تاريخ الإسلام" ، و "النبلاء" ، وغير هؤلاء ممن لا يأتي عليه الحصر.
وقال الحافظ ابن حجر في "توالي التأسيس" : قد اشتهر عن إذا صح الحديث فهو مذهبي. وحكى عن الشافعي: السبكي أن له مصنفا في هذه المسألة.
وأما الإمام فهو أشد الأئمة الأربعة تنقيرا عن الرأي، وأبعدهم عنه، وألزمهم للسنة، وقد نقل عنه أحمد بن حنبل، ابن القيم في مؤلفاته ; كـ "أعلام الموقعين" ما فيه التصريح بأنه لا عمل على الرأي أصلا. وهكذا نقل عنه ابن الجوزي وغيره من أصحابه .
وإذا كان من المانعين للرأي، المنفرين عنه، فهو قائل بما قاله الأئمة الثلاثة، المنقولة نصوصهم على أن الحديث مذهبهم، ويزيد عليهم بأنهم سوغوا الرأي فيما لا يخالف النص، وهو منعه من الأصل.
وقد حكى الشعراني في "الميزان" : أن الأئمة الأربعة كلهم قالوا: إذا صح الحديث، فهو مذهبنا، وليس لأحد قياس ولا حجة. انتهى .