بعض الأحاديث الواردة في النهي عن وبيان عقوبة النائحات في الآخرة النياحة
وعن - رضي الله عنه، قال: أبي سعيد الخدري رواه لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم النائحة، والمستمعة. أبو داود.
أي: التي تنوح على الموتى برفع صوتها، وبيان فضائلهم، والتي تقصد السماع، ويعجبها.
[ ص: 451 ] واللعنة عليهما دليل البعد عن رحمة الله، وأن النوح وسماعه من الكبائر المنهي عنها.
ويزيده إيضاحا، حديث قال: ابن عمر، شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع سعد بن عبادة عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، فلما دخل عليه، وجده في غاشية؛ أي: شدة من الأمراض، فقال: "قد قضى؟"، قالوا: لا يا رسول الله، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: رحمة عليه، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم، بكوا، فقال: "ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا"، وأشار إلى لسانه، "أو يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه". وعبد الله بن مسعود، متفق عليه. اشتكى
وفي حديث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المغيرة بن شعبة، متفق عليه. "من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة"
ويتضح من هذا معنى الحديث السابق.
ولكن قالت في حديث عائشة لكنه نسي وأخطأ، إنما ابن عمر: متفق عليه. مر الرسول صلى الله عليه وسلم على يهودية تبكي، فقال: "إنهم ليبكون عليها، وإنها لتعذب في قبرها"
قلت: إنما يمشي هذا في حديثه الآخر، وأما حديث الباب، فليس فيه قصة اليهودية أصلا، والحديث مخرج في "الصحيحين"، ويؤيده حديث بلفظ: عمر بن الخطاب ولكن أنكرته "إن الميت ليعذب ببعض بكائه عليه"، أيضا، كما في الحديث المتفق عليه، ولهذا اختلف العلماء فيه. عائشة
فذهب الجمهور على أن الوعيد في حق من أوصى بأن يبكى عليه، ويناح بعد موته، فنفذت وصيته، فهذا يعذب ببكاء أهله عليه، ونوحتهم عليه؛ لأنه سببه.
وأما من بكوا عليه، وناحوا من غير وصية منه، فلا؛ لقوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى .
وقيل: أراد بالميت: المشرف على الموت؛ فإنه يشتد عليه الحال ببكائهم، وصراخهم، وجزعهم، وصياحهم عنده.
[ ص: 452 ] وقيل: هذا في بعض الأموات، كان يعذب في زمان بكائهم عليه.
وهذا الوجه، وما قبله ضعيف؛ لما في رواية: وفي الأخرى: "يعذب في قبره بما نيح عليه"، "الميت يعذب ببكاء الحي إذا قالت النائحة: واعضداه! واناصراه! قيل له: أنت عضدها؟ وأنت ناصرها؟".
ثم أجمعوا على أن المراد بالبكاء: البكاء بصوت ونياحة، لا بمجرد الدمعة.
ذكره علي القاري في "المرقاة".
وعن - رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابن مسعود متفق عليه. "ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية"
ويزيده إيضاحا حديث قال: أبي بردة، فأقبلت امرأته أبي موسى، أم عبد الله تصيح برنة؛ أي: بصوت فيه البكاء، مع ترجيع، ثم أفاق فقال: ألم تعلمي؟ وكان يحدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء ممن حلق"؛ أي: شعره، "وصلق"؛ أي: رفع الصوت بالبكاء والنوحة، "وخرق"؛ أي: قطع ثوبه في المصيبة. متفق عليه، ولفظه أغمي على لمسلم.
وفي حديث أبي مالك الأشعري مرفوعا: رواه "النائحة إذا لم تتب قبل موتها، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب" مسلم.
وعد النياحة في هذا الحديث من أمر الجاهلية.
والمعنى: يسلط على أعضائها الجرب والحكة، فيطلى مواقعه بالقطران ليداوى به، فيكون الدواء أدوى من الداء؛ لاشتماله على لدغة، وحرقة، وإسراع النار إليه، ونتن الريح.
"والقطران": ما يتحلب من شجر يسمى "أبهل" فيطبخ، فيطلى به موضع الجرب، فيحرقه بحره وحدته، وقد تبلغ حرارته الجوف.
"والسرابيل": قميص لا يختص بالنساء، "والدرع": قميص للنساء. وهذه الأحاديث تدل على المنع من هذه الأمور المتقدمة، وعلى أنها من [ ص: 453 ] الكبائر، وأنها مخرجة الفاعلة عن دائرة أهل الإسلام، وأنها من خصال الجاهلية التي نفاها النبي صلى الله عليه وسلم، ونهى عنها نهيا كثيرا في مواضع عديدة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من أهل هذه الأفعال. وهذا وعيد شديد جدا، لا يقادر قدره.
وقد تنجر هذه المنكرات إلى عذاب الميت المسكين الغريب، فتعود هذه المحبة من النائحات عداوة في حقه، كما يدل له حديث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أبي موسى، رواه "ما من ميت يموت، فيقوم باكيهم فيقول: واجبلاه! واسيداه! ونحو ذلك، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه ويقولان: أهكذا أنت؟!" وقال: هذا حديث غريب، حسن. الترمذي،
وهذا القول منهم يقال له في عرف النساء: بيان، وأنه - في الحقيقة - لها قطران، ولمن نيح عليه خسران، وليس إلا بيان أنه ذهب الإيمان، وحصل لهما نقصان.
فيها أيها المسكين المدعو بالإنسان! عليك أن توصي أهل بيتك بألا ينوحوا عليك بعدما صرت في التراب، وغبت عن الخطاب؛ فإن ضرر ذلك عائد عليك، كما أنه يعود عليهم.
وعن - رضي الله عنهما -، قال: ابن عباس صلى الله عليه وسلم، فبكت النساء، فجعل زينب بنت رسول الله يضربهن بسوطه، فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: "مهلا يا عمر ثم قال: "إياكن ونعيق الشيطان". عمر"، ماتت
سمى النياحة - هنا -: بالنعيق، وقد سماها فيما تقدم: برنة الشيطان، وكل ذلك ليكشف عن حقيقتها، وينبي عن طريقتها.
فالفاعلة لها أخت الشيطان، والشيطان أخوها. ثم قال: إنه مهما كان من العين ومن القلب، فمن الله - عز وجل -، ومن الرحمة، وما كان من اليد ومن اللسان، فمن الشيطان؛ أي: من إغوائه وإضلاله. رواه أحمد.
فيه جواز البكاء بلا نوح، وإسالة الدمع من العين بلا صوت. وفي تعليقا: لما مات البخاري الحسن بن الحسن بن علي، ضربت امرأته [ ص: 454 ] القبة على قبره سنة، ثم رفعت، فسمعت صائحا يقول: الأهل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا.
وعن قال: ابن عمر، رواه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتبع جنازة معها رانة؛ أي: نائحة، صائحة. أحمد، وابن ماجه.
وعن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبي هريرة، رواه "إن النوائح يجعلن يوم القيامة صفين في جهنم، صف عن يمينهم، وصف عن يسارهم، فينبحن على أهل النار، كما ينبح الكلاب" في "الأوسط". الطبراني
هذا بعض الأحاديث الواردة في وعيد النياحة وأهلها، والمقام لا يسع الكل.
وهذا المنكر أيضا مما شاع في عامة المسلمين وخاصتهم، والمانعون منه، الناهون عنه، قليل جدا.
وقد رفع هذا الأمر الملعون السنن المأثورة في هذا الباب؛ من الصبر والصلاة، والاستعانة بهما، والبكاء بالدمع فقط، والاسترجاع، ونحوها، فرحم الله امرأ عرف الحق وأجراه في ملكه، فإن لم يقدر، ففي بلده، فإن لم يقدر، ففي محلته، وإلا، فلا يعذر إذا لم يمحه من داره وبيته، فإنه مسؤول عن ذلك لا محالة؛ لأنه أمير منزله وأهله، بلا ريب وشبهة.