الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        معلومات الكتاب

        السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية

        ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

        ومن آوى محاربا ، أو سارقا ، أو قاتلا ونحوهم ، ممن وجب عليه حد أو حق لله تعالى أو لآدمي ، ومنعه ممن يستوفي منه الواجب بلا عدوان ، فهو شريكه في الجرم .

        ولقد لعنه الله ورسوله ، وروى مسلم في صحيحه [ ص: 120 ] عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا } وإذا ظفر بهذا الذي آوى المحدث فإنه يطلب منه إحضاره ، أو الإعلام به ، فإن امتنع ، عوقب بالحبس والضرب مرة بعد مرة حتى يمكن من ذلك المحدث كما ذكرنا أنه يعاقب الممتنع من أداء المال الواجب ، فما وجب حضوره من النفوس والأموال ، يعاقب من منع حضورها : ولو كان رجلا يعرف مكان المال المطلوب بحق ، أو الرجل المطلوب بحق ، وهو الذي يمنعه ، فإنه يجب عليه الإعلام به والدلالة عليه ولا يجوز كتمانه ، فإن هذا من باب التعاون على البر والتقوى ، وذلك واجب بخلاف ما لو كان النفس أو المال مطلوبا بباطل ، فإنه لا يجب الإعلام به ; لأنه من التعاون على الإثم والعدوان ، بل يجب الدفع عنه ; لأن نصر المظلوم واجب ، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { انصر أخاك ظالما أو مظلوما ، قلت : يا رسول الله : أنصره مظلوما . فكيف أنصره ظالما ؟ قال : تمنعه من الظلم ، فذلك نصرك إياه } [ ص: 121 ]

        وروى مسلم نحوه عن جابر ، وفي الصحيحين عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : ونهانا عن سبع : أمرنا بعيادة المريض ، واتباع الجنازة ، وتشميت العاطس ، وإبرار القسم ، وإجابة الدعوى ، ونصر المظلوم ، ونهانا عن خواتيم الذهب ، وعن الشرب بالفضة ، وعن المياثر ، وعن لبس الحرير والقسي والديباج والإستبرق . }

        فإن امتنع هذا العالم به من الإعلام بمكانه ، جازت عقوبته بالحبس وغيره ، حتى يخبر به ; لأنه امتنع من حق واجب عليه ، لا تدخله النيابة .

        فعوقب كما تقدم ولا تجوز عقوبته على ذلك ، إلا إذا عرف أنه عالم به

        وهذا مطرد في ما تتولاه الولاة والقضاة وغيرهم ، في كل من امتنع من واجب ، من قول أو فعل ، وليس هذا مطالبة للرجل بحق وجب على غيره ولا عقوبة على جناية غيره ، حتى يدخل في قوله تعالى : { ولا [ ص: 122 ] تزر وازرة وزر أخرى } وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : { ألا لا يجني جان إلا على نفسه } وإنما ذلك ، مثل أن يطلب بمال قد وجب على غيره ، وهو ليس وكيلا ولا له عنده مال ، أو يعاقب الرجل بجريمة قريبه أو جاره ، من غير أن يكون قد أذنب ، لا بترك واجب ، ولا بفعل محرم ، فهذا الذي لا يحل ، فأما هذا فإنما يعاقب على ذنب نفسه ، وهو أن يكون قد علم مكان الظالم ، الذي يطلب حضوره لاستيفاء الحق ، أو يعلم مكان المال الذي قد تعلق به حقوق المستحقين ، فيمتنع من الإعانة والنصرة الواجبة عليه في الكتاب والسنة والإجماع ، إما محاباة وحمية لذلك الظالم ، كما قد يفعل أهل المعصية بعضهم ببعض ، وإما معاداة أو بغضا للمظلوم .

        وقد قال الله تعالى : { ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى } . [ ص: 123 ] وإما إعراضا عن القيام لله بالقسط الذي أوجبه الله ، وجبنا وفشلا وخذلانا لدينه ، كما يفعل التاركون لنصر الله ورسوله ، ودينه وكتابه ، الذين إذا قيل لهم انفروا في سبيل الله اثاقلوا إلى الأرض .

        وعلى كل تقدير فهذا الضرب ، يستحق العقوبة باتفاق العلماء ، ومن لم يسلك هذه السبل ، عطل الحدود وضيع الحقوق ، وأكل القوي والضعيف .

        وهو يشبه من عنده مال الظالم المماطل من عين أو دين ، وقد امتنع من تسليمه لحاكم عادل ، يوفي به دينه ، أو يؤدي منه النفقة الواجبة عليه لأهله أو أقاربه أو مماليكه أو بهائمه .

        وكثيرا ما يجب على الرجل حق بسبب غيره ، كما تجب عليه النفقة بسبب حاجة قريبه ، وكما تجب على عاقلة القاتل ، وهذا الضرب من التعزير عقوبة لمن علم أن عنده مالا أو نفسا يجب إحضاره ، وهو لا يحضره كالقطاع والسراق وحماتهم أو علم أنه خبير به ، وهو لا يخبر بمكانه فأما إن امتنع من الإخبار والإحضار ; لئلا يتعدى عليه الطالب أو يظلمه ، فهذا محسن ، وكثيرا ما يشتبه أحدهما بالآخر ، ويجتمع شبهه وشهوته .

        والواجب تمييز الحق من الباطل ، وهذا يقع كثيرا في الرؤساء من أهل البادية والحاضرة ، إذا استجار بهم مستجير ، أو كان بينهما قرابة أو صداقة ، فإنهم يرون الحمية الجاهلية ، والعزة بالإثم ، والسمعة عند الأوباش أنهم ينصرونه ، وإن كان ظالما مبطلا على المحق المظلوم ، [ ص: 124 ] لا سيما إن كان المظلوم رئيسا يناديهم ويناوئهم فيرون في تسليم المستجير بهم إلى ما يناوئهم ذلا أو عجزا ، وهذا على الإطلاق جاهلية محضة ، وهم من أكبر أسباب فساد الدين والدنيا ، وقد ذكر أنه إنما كان سبب حروب من حروب الأعراب كحرب البسوس التي كانت بين بني بكر وتغلب إلى نحو هذا ، وكذا سبب دخول الترك المغول دار الإسلام ، واستيلاؤهم على ملوك ما وراء النهر وخراسان ، كان سببه نحو هذا .

        ومن أذل نفسه لله فقد أعزها ، ومن بذل الحق من نفسه فقد أكرم نفسه ، فإن أكرم الخلق عند الله أتقاهم ، ومن اعتز بالظلم من منع الحق ، وفعل الإثم ، فقد أذل نفسه وأهانها ، قال الله تعالى : { من كان يريد العزة فلله العزة جميعا } وقال تعالى عن المنافقين : { يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } وقال الله تعالى في صفة هذا الضرب : { ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم ولبئس المهاد } . [ ص: 125 ]

        وإنما الواجب على من استجار به مستجير إن كان مظلوما ينصره ، ولا يثبت أنه مظلوم بمجرد دعواه ، فطالما اشتكى الرجل ، وهو ظالم ، بل يكشف خبره من خصمه وغيره ، فإن كان ظالما رده عن الظلم بالرفق إن أمكن ، إما من صلح أو حكم بالقسط ، وإلا فبالقوة ، وإن كان كل منهم ظالما مظلوما كأهل الأهواء ، من قيس ويمن ونحوهم ، وأكثر المتداعين من أهل الأمصار والبوادي ، أو كانا جميعا غير ظالمين ; لشبهة أو تأويل ، أو غلط وقع فيما بينهما ، سعى بينهما بالإصلاح أو الحكم كما قال الله تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } وقال تعالى : { لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } .

        وقد روى أبو داود في السنن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه [ ص: 126 ] قيل له : أمن العصبية أن ينصر الرجل قومه في الحق ؟ قال لا قال ولكن من العصبية أن ينصر الرجل قومه في الباطل } وقال { : خيركم الدافع عن قومه ما لم يأثم }

        وقال : { مثل الذي ينصر قومه بالباطل [ ص: 127 ] كبعير تردى في بئر فهو يجر بذنبه } .

        وقال { : من سمعتموه يتعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ، ولا تكنوا } ، وكل ما خرج عن دعوة الإسلام والقرآن ، من نسب أو بلد ، أو جنس أو مذهب ، أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية ، بل { لما اختصم رجلان من المهاجرين والأنصار قال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري : يا للأنصار قال النبي صلى الله عليه وسلم أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وغضب لذلك غضبا شديدا . }

        التالي السابق


        الخدمات العلمية