[ ص: 35 ] معرفة الأصلح وكيفية تمامها
والمهم في هذا الباب معرفة الأصلح ، وذلك إنما يتم بمعرفة مقصود الولاية ، ومعرفة طريق المقصود ، فإذا عرفت المقاصد والوسائل تم الأمر .
فلهذا لما غلب على أكثر الملوك قصد الدنيا ، دون الدين ، قدموا في ولايتهم من يعينهم على تلك المقاصد ، وكان من يطلب رئاسة نفسه ، يؤثر تقديم من يقيم رئاسته ، وقد كانت السنة أن الذي يصلي بالمسلمين الجمعة والجماعة ويخطب بهم ، هم أمراء الحرب ، الذين هم نواب ذي السلطان على الجند ، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الصلاة ، قدمه المسلمون في إمارة الحرب وغيرها .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على حرب ، كان هو الذي يؤمره للصلاة بأصحابه ، وكذلك إذا استعمل رجلا نائبا على مدينة ، كما استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، على وعثمان بن أبي العاص الطائف وعليا ، ومعاذا وأبا موسى على اليمن وعمرو بن حزم على نجران كان نائبه هو الذي يصلي بهم ، ويقيم فيهم الحدود وغيرها ، مما يفعله أمير الحرب ، وكذلك خلفاؤه بعده ، ومن بعدهم من الملوك الأمويين وبعض العباسيين ، وذلك ; لأن أهم أمر الدين الصلاة والجهاد .
ولهذا كانت أكثر الأحاديث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة والجهاد ، وكان إذا عاد مريضا ، [ ص: 36 ] يقول : { } . اللهم اشف عبدك ، يشهد لك صلاة وينكأ لك عدوا
{ إلى معاذا اليمن ، قال : يا إن أهم أمرك عندي الصلاة معاذ } . ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم
وكذلك كان رضي الله عنه يكتب إلى عماله : إن أهم أموركم عندي الصلاة ، فمن حافظ عليها وحفظها حفظ دينه ، ومن ضيعها كان لما سواها من عمله أشد إضاعة [ ص: 37 ] عمر بن الخطاب
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { } . الصلاة عماد الدين
فإذا أقام المتولي عماد الدين ، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وهي التي تعين الناس على ما سواها من الطاعات ، كما قال الله تعالى : { واستعينوا بالصبر والصلاة ، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } .
وقال سبحانه وتعالى : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة ، إن الله مع الصابرين } وقال لنبيه : { وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقا ، نحن نرزقك ، والعاقبة للتقوى } .
وقال تعالى : { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين }
فالمقصود الواجب بالولايات : إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبينا ، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا ، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم .
وهو نوعان : قسم المال بين مستحقيه ، وعقوبات المتعدين ، فمن لم يعتد أصلح له دينه ودنياه .
ولهذا كان يقول : إنما بعثت عمالي إليكم ، ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم ، ويقيموا بينكم دينكم عمر بن الخطاب
فلما تغيرت الرعية من وجه ، والرعاة من وجه ، تناقضت الأمور ، فإذا اجتهد الراعي في [ ص: 38 ] إصلاح دينهم ودنياهم بحسب الإمكان ، كان من أفضل أهل زمانه ، وكان من أفضل المجاهدين في سبيل الله ، فقد روي { } يوم من إمام عادل ، أفضل من عبادة ستين سنة
وفي مسند الإمام عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : { أحمد } وفي الصحيحين عن أحب الخلق إلى الله إمام عادل ، وأبغضهم إليه إمام جائر رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أبي هريرة } . سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه ، ورجلان تحابا في الله ، اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال إلى [ ص: 39 ] نفسها ، فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه
وفي صحيح عن مسلم عياض بن حماد ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { } وفي السنن عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال { أهل الجنة ثلاثة : سلطان مقسط ، ورجل رحيم القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل غني عفيف متصدق } : الساعي على الصدقة بالحق ، كالمجاهد في سبيل الله
وقد قال الله تعالى ، لما أمر بالجهاد : { وقاتلوهم [ ص: 40 ] حتى لا تكون فتنة ، ويكون الدين كله لله } .
{ } أخرجاه في الصحيحين . وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله
فالمقصود أن يكون الدين كله لله ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، وكلمة الله اسم جامع لكلماته التي تضمنها كتابه ، وهكذا قال الله تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات ، وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط } فالمقصود من إرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، أن يقوم الناس بالقسط ، في حقوق الله ، وحقوق خلقه .
ثم قال تعالى : { وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله [ ص: 41 ] من ينصره ورسله بالغيب } .
فمن عدل عن الكتاب قوم بالحديد ، ولهذا كان قوام الدين بالمصحف والسيف .
وقد روي عن رضي الله عنهما ، قال : { جابر بن عبد الله أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن نضرب بهذا - يعني السيف - من عدل عن هذا - يعني المصحف } فإذا كان هذا هو المقصود ، فإنه يتوسل إليه بالأقرب فالأقرب ، وينظر إلى الرجلين ، أيهما كان أقرب إلى المقصود ولي ، فإذا كانت الولاية مثلا ، إمامة صلاة فقط ، قدم من قدمه النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : { } ، رواه يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء ، فأعلمهم بالسنة فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا ولا يؤمن الرجل في سلطانه ، ولا يجلس في بيته على تكرمته إلا بإذنه مسلم
فإذا أقرع بينهما ، كما أقرع تكافأ رجلان ، أو خفي أصلحهما بين الناس يوم سعد بن أبي وقاص القادسية ، لما تشاجروا على الأذان ، متابعة لقوله صلى الله عليه وسلم { } . لو يعلم الناس ما في النداء [ ص: 42 ] والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا
فإذا كان التقديم بأمر الله إذا ظهر ، وبفعله - وهو ما يرجحه بالقرعة إذا خفي الأمر - كان المتولي قد أدى الأمانات في الولايات إلى أهلها .