الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في المواعدة في الطعام قبل قبضه ومن ابتاع طعاما بعينه أو بغير عينه فيريد بيعه قبل قبضه]

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم: ولا يواعد أحدا في بيع الطعام قبل قبضه، ولا يبيع طعاما ينوي أنه يقضيه من طعام اشتراه، بعينه كان، أو بغير عينه . والمواعدة [ ص: 3077 ] في هذا كالمواعدة في الصرف.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في المواعدة في الصرف: فكره ذلك مالك ، ومنعه أصبغ، وأجاز هذا ابن نافع.

                                                                                                                                                                                        وأجاز مالك في كتاب محمد الخيار في الصرف ، والمواعدة في هذا أخف.

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا عقدا بيعا على طعام في ذمته، ونيته أن يقضيه من ذلك الطعام، فالعقد ماض ولا تأثير للنية في العقد، وقد أجيز التعريض في النكاح، فكيف بمن يضمر هذا ولا ينطق به.

                                                                                                                                                                                        وقيل: المعنى: لا يبيع طعاما ينوي أنه يقضيه من طعام عليه. وهذا أبعد; لأنه يستحيل صرف النية فيه إذا كان عليه طعام فطلب بقضائه، وليس عنده، فلا يجري إليه. إلا بشراء.

                                                                                                                                                                                        وإنما الاختلاف إذا جعل للطالب أن يقضيه من المشتري منه أخيرا: فمنع ذلك ابن القاسم، إلا أن يقضيه الغريم من البائع آخرا ثم يقضيه . وأجازه مرة، فقال فيمن عليه طعام من سلم فأعطى الطالب مثل رأس ماله ليشتري ذلك لنفسه: فلا بأس به . [ ص: 3078 ]

                                                                                                                                                                                        فإذا جاز للطالب أن يشتري الطعام على ذمة المطلوب، ثم يقبضه لنفسه، جاز أن يشتريه الغريم ثم يجعل للطالب قبضه. وقد قيل: إن هذه إقالة ، وهو خطأ; لأنهما متفقان أنه أخذ ذلك على وجه الوكالة، ولو ضاع الثمن كانت مصيبته من الباعث، وإن ثبت أنه اشترى ذلك للغريم ثم قبضه منه جاز، وأجازه أشهب وإن أخذ أقل من رأس المال; لأنه أخذه على أنه وكيل وأن يشتري على ذمة الباعث، ولو دخل على أنه يمسك ذلك لنفسه لم يجز، ويجوز على قوليهما إذا أعطاه أكثر من رأس المال واشترى بنيته وكل ذلك راجع إلى القضاء عن البيع، هل هو بيع أم لا؟

                                                                                                                                                                                        والقول إنه ليس ببيع أحسن ; لأن البيع المتقدم لم يكن في عين هذا الطعام، وإنما قضاه عن دين تقدم تقرره في الذمة، وإنما جاء الحديث: "من ابتاع طعاما فلا يبعه" ، ولم يقل فلا يقضه.

                                                                                                                                                                                        وقد أجاز مالك وابن القاسم وأشهب لمن أسلم في حنطة أو اشترى حنطة بعينها أن يأخذ بكيلها شعيرا ، وإن تقارا أنهما أرادا المبايعة ولم يقصدا المعروف. [ ص: 3079 ]

                                                                                                                                                                                        وكذلك من أسلم في سمراء وأخذ محمولة يريدها للزريعة جاز وإن اعترف أنه قصد المبايعة جاز ، وإن كان مما ينطلق عليه بيع الطعام قبل قبضه.

                                                                                                                                                                                        ويختلف في المقاصة قياسا على ما تقدم في القضاء.

                                                                                                                                                                                        فإن أسلم رجلان كل واحد لصاحبه في طعام كيلا واحدا وصفة واحدة، ثم أرادا المقاصة، وتساوت رؤوس الأموال، لم يجز عند ابن القاسم .

                                                                                                                                                                                        وقال أشهب في كتاب محمد: يجوز ويكون إقالة .

                                                                                                                                                                                        يريد: أنهما لو اتهما أنهما عملا على ذلك في حين عقد السلم الثاني، جاز، وكانت إقالة، فإذا سلما من التهمة جازت المقاصة; لأن الثاني قضاء عن الأول، والقضاء بخلاف البيع.

                                                                                                                                                                                        ويلزم ابن القاسم أن يجيزه على ما تقدم له إذا وكله على أن يشتري لنفسه، فإذا اختلف رأس المال لم يجز، فإن كان الثاني أكثر دخله سلف بزيادة، وإن كان أقل، كانت إقالة على أقل من رأس المال، فإن خفي ذلك لهما، وكان باطنهما على الصحة أنهما يسلمان، جازت المقاصة; لأنه قضاء.

                                                                                                                                                                                        وكذلك إذا كان لرجل قبل رجل طعام فأحاله المطلوب على من له عليه [ ص: 3080 ] طعام من سلم، فمنعه ابن القاسم ; لأن الحوالة عنده بيع، فيدخله بيع الطعام قبل قبضه.

                                                                                                                                                                                        وأجازه أشهب إذا تساوت رؤوس الأموال قال: ويكون تولية .

                                                                                                                                                                                        يريد: أنهما يسلمان من التهمة; لأنهما لو شاءا جعلاها تولية، وإلا فهما مقران أنهما لم يقصدا إلا الحوالة والقضاء، ولو كان ذلك فاسدا لم يجز أن يطرح ما اعترفا به على أنفسهما من الفساد ليصح غيره. فإن اختلف رأس المال، وكان أحدهما أكثر -الأول أو الآخر- لم تجز الحوالة على قوليهما.

                                                                                                                                                                                        وإن كان أحدهما من سلم والآخر من قرض جازت المقاصة عند ابن القاسم إذا حلا .

                                                                                                                                                                                        وأجازه أشهب إذا حل أحدهما .

                                                                                                                                                                                        وذكر ابن حبيب عنه أنه قال: يجوز إذا حل السلم . وقال ابن حبيب: تجوز وإن لم يحلا .

                                                                                                                                                                                        وهو أبين; لأن الذمم تبرأ من الآن. [ ص: 3081 ]

                                                                                                                                                                                        وأما الحوالة فتجوز إذا حل المحال به، حل المحال عليه أم لا، وإذا صحت الحوالة عاد الجواب في بيعه في ذمة المحال عليه قبل قبضه على ما تقدم، فإن كانت الحوالة ببيع على قرض أو بقرض على بيع لم يجز على قوله في المدونة ، ويجوز على قوله في كتاب ابن حبيب إذا كانت الحوالة بقرض على بيع .

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية